فلسطين واسرائيل: مئة عام إلى الوراء

بقلم: عماد شقور

يعرف كل فلسطيني غير مكابر، او غالبية من ينطبق عليهم هذا التوصيف على الاقل، ان مجمل الوضع الفلسطيني قد تقهقر وتراجع مئة عام إلى الوراء، جرّاء اخطاء اساسية جوهرية، بدأ ارتكابها مع مطلع القرن الحالي، وراحت تتراكم وتتصاعد على مدى غالبية سنوات العقد الماضي. كذلك لم تفلح كل المحاولات في وقف التدهور والانحدار حتى يومنا هذا، لأنها كانت جميعا محاولات تفتقر إلى الشجاعة والحكمة والجدّية، في مواجهة الذات اولا، ثم الاعتراف بالاخطاء، وبدء البناء على اسس تتعظ من دروس تلك التجربة.
بدأ مسلسل الاخطاء الفلسطينية، في الواقع، مع بدء تطبيق اتفاقات اوسلو. إلا ان اجواء الفرح الفلسطيني العارم ببدء بشائرالعودة إلى ارض الوطن، حتى ولو إلى جزء محدود من تلك الارض، وبدء رفع العلم الفلسطيني فوق كل شبر ينزاح عنه نير الاحتلال، وتوسع "غزة اريحا اولاً" لتشمل مدنا وقرى ومخيمات في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبدء تشكيل اجهزة وهيئات ومؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية، وابرزها واكثرها دلالة المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي شارك في انتخابه الفلسطينيون في القدس العربية، وكذلك تشكيل الحكومة الفلسطينية، شكّل كل هذا ساترا وستائر جميلة، غطت على تلك الاخطاء التي كان يمكن تجاوزها.
هذا السكوت على اخطاء صغيرة، ولكنها جوهرية وبالغة التاثير – كونها جاءت في مرحلة وضع اللبنات الاولى لتأسيس دولة مستقلة عصرية- أدّى إلى التمادي في ارتكاب الاخطاء، التي اخطرها الاستجابة إلى استفزاز زعيم المعارضة الاسرائيلية في حينه، اريئيل شارون، الذي نجح في استدراج الحركة الوطنية الفلسطينية إلى مربّع العنف والسلاح، وتبلورت هنا "الانتفاضة الثانية" التي انزلقت في اتجاه استهداف المدنيين، وشوهت صورة النضال الفلسطيني، وخسرنا بالتدريج ما كان للحركة الوطنية الفلسطينية من تأييد ومناصرة في الساحة الاسرائيلية، ثم في الساحة الدولية، وتغيرت صورة الفلسطيني المُرحّب به في كل لقاء شعبي او رسمي في العالم، وفوق كل منبر محلي او دولي، إلى صورة إرهابي يقتل المدنيين في الحافلات والمقاهي والفنادق. وكان طبيعيا في هذه الاجواء، ان تظهر كل العيوب، وان يندحر العقل والتفكير العملي السليم، وان يخلي مكانه للتخلف والتعصب بكل الوانه وانواعه، وان يصل كل الوضع الفلسطيني إلى ما نحن فيه من ضعف وتحلل، ومن تشرذم وانقسامات.
هكذا، وفي اربع سنوات عجاف، هي عمر الانتفاضة الثانية، انكفأ الوضع الفلسطيني مئة عام إلى الوراء.
كان هذا التطور من حسن حظ اسرائيل، وسوء حظ فلسطين. لكن الامور لم تتوقف عند هذا الحد الذي نعاني منه. فمن حسن حظ الفلسطينيين، وسوء حظ الاسرائيليين، ان وصل، (او عاد) إلى سدّة الحكم في اسرائيل، بنيامين نتنياهو، الذي شكل حكومته الثانية، لتكون حكومة يمينية مشلولة، ثم حكومته الثالثة لتكون حكومة فاقعة اليمينية والعنصرية، ثم، اخيرا، حكومته الرابعة اليمينية العنصرية الفاشية التي لم يعد يقبل بمنطقها وسياساتها حتى اكثر الحلفاء قربا لاسرائيل.
نزعت حكومات نتنياهو رداء "الضحية" عن اسرائيل. وبدأت تظهر على حقيقتها بشكل جلي للعالم، حكومة تمارس العنصرية والشوفينية والاحتلال، وتتحدث بلغة عفا عليها الزمن، وتسن قوانين فاقعة العنصرية. وتسبب كل ذلك في خسارتها للغالبية العظمى من شعوب اوروبا، وغالبة حكوماتها، ونصف التأييد الاعمى الذي كانت تتمتع به في الشارع الأمريكي، كما في الادارة الأمريكية.
هكذا وفي بضع سنوات اسرائيلية عجاف، هي عمر حكومات نتنياهو، انكفأ الوضع الاسرائيلي، ووضع المجتمع اليهودي في اسرائيل، مئة عام إلى الوراء.
في هذه الايام التي تنتظر فيها اسرائيل، بتفاؤل واضح، وصول الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، إلى البيت الابيض، لا اعتقد بوجود مبرر كاف لتشاؤم فلسطيني مبالغ فيه. صحيح ان كل الدلائل تشير إلى ان ترامب لن يكون رئيسا جيدا من زاوية نظر المصالح الفلسطينية. لكن قدرة اسرائيل، المعزولة عالميا، على ادخال أمريكا ترامب إلى دائرة العزلة التي تتربع فيها، تفوق قدرة ترامب على فك العزلة عن اسرائيل، وفرض مصالحها والقبول بسياستها العنصرية على العالم.
تلافي المخاطر، وكذلك الدفع باتجاه تحقيق المصالح الوطنية، يستدعي مبادرات فلسطينية، وبذل جهود جدية وفورية على عدة محاور:
ـ اعادة تماسك العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية، حركة فتح، التي لم يتمكن "مؤتمرها السابع"، الذي عُقِد قبل اسابيع، لا من حل معضلة تفسخها، ولا من تجاوزه.
ـ اعادة تماسك منظمة التحرير الفلسطينية، بكل مكوناتها اولا، ثم بضم القوى الناشئة، وتحديدا حركة حماس والجهاد الإسلامي، (رغم التباين في الايديولوجيات والاولويات)، وكذلك ضم التيارات والشخصيات الفلسطينية المستقلة، التي لا فائدة ولا امكانية ولا مصلحة في تجاوزها، تحت جناح م.ت. ف.، لتعود كما كانت منذ تولت قيادتها حركة فتح عام 1968 وحتى إلى ما قبل سنوات قليلة، الممثل الشرعي المتماسك والوحيد للشعب الفلسطيني.
ـ تكثيف الجهود في التواصل مع شرائح في المجتمع اليهودي الاسرائيلي مناصرة للحقوق الفلسطينية، والعمل على تنشيط دورها في كسب مناصرين جدد، والاستعانة لذلك بالفلسطينيين حاملي بطاقة الهوية الاسرائيلية، والمؤسسات التي تمثلهم.
ـ ترميم العلاقة الفلسطينية مع دول الطوق، بداية من مصر والاردن، ثم بقية الدول العربية، لتكون سندا وامتدادا وعمقا استراتيجيا للعمل الوطني الفلسطيني.
ـ العمل الجاد المتواصل لبناء تحالفات دولية تشكل روافع تدعم وتساند الشعب الفلسطيني في نضاله لاستعادة حقوقه التي تقرها الشرعية الدولية. دون ان يغيب عن ذهننا ان القضية الفلسطينية هي قضية دولية بامتياز، منذ بداية الهجرة اليهودية إلى ارض فلسطين وحتى يومنا، مرورا بالانتداب البريطاني، ووعد بلفور، وعشرات اللجان الدولية، وصولا إلى قرار التقسيم عام 1947، وكل ما تلاه من حروب ومواجهات ومئات القرارات الدولية.
ليست هذه اهدافا سهلة التحقق، ولكنها ضرورية. بل ولا يمكن احراز أي تقدم او مكاسب فلسطينية، ليس بدونها فقط، بل وبدون أي واحد منها على الاطلاق. هي حزمة مترابطة متكاملة، واي فشل في أي عامل او بند فيها، يعني استحالة التقدم ولو خطوة حقيقية واحدة على طريق انجاز المشروع الوطني الفلسطيني، وفق الحق الطبيعي والمنطق والعدل والشرعية الدولية.
اعتماد معادلة استراتيجية فلسطينية تستند إلى مثل هذا التوجه، يمكن الشعب الفلسطيني من تفادي المخاطر الكامنة في وصول ترامب إلى البيت الابيض، في وقت تحكم فيه اسرائيل حكومة نتنياهو اليمينية الاكثر عنصرية بين كل ما سبقها من حكومات. وفي وقت تعاني فيه المنطقة العربية بكاملها مآزق وصراعات دموية فيها، وعليها ايضا.

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني