من المبكر أن نحكم على الأمين العام الجديد أنطونيو غوتيريش بشكل قطعي، فلم تمض على ولايته للمنظمة الدولية إلا ستة أسابيع. لكن البداية لا تبشر بالخير فمن بدأ بهذا التساهل مع إسرائيل لا نتوقع منه الكثير، خاصة أن إسرائيل بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة تغولت في سياستها الاستيطانية العدوانية العنصرية بشكل غير مسبوق.
فقد قامت باعتداءات جديدة على سوريا وبدأت بهدم البيوت وإطلاق النار على المواطنين وقتلهم في المناطق العربية داخل الخط الأخضر، كما حدث في قلنسوة وأم الحيران. وأعلنت بكل صفاقة عن بناء نحو 6000 وحدة استيطانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، وتوجت هذه الهجمة المنفلتة من كل عقال بتصويت داخل الكنيست مساء الإثنين 6 فبراير على ما سمي "قانون التسوية" وتعني بكل بساطة ضم المستوطنات والبؤر الاستيطانية إلى السيادة الإسرائيلية وإضفاء الصفة القانونية على مستوطنات كانت بحسب قوانينهم تعتبر غير قانونية.
ردود الفعل الباردة للأمين العام الجديد تذكرنا، لغاية الآن على الأقل، بأنه يسير على خطى سلفه الأمين العام السابق بان كي مون، الذي قضى عشر سنوات وهو يعبر عن القلق عندما يتعلق الأمر بمجازر إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وقتل أطفالهم ومصادرة أراضيهم وهدم بيوتهم، وتهويد قدسهم وأسر خيرة شبابهم وعزل قطاع غزة عن العالم، وتطويق ما تبقى من أرض في الضفة الغربية داخل جدار الفصل العنصري، بينما لم يكن يتردد في التعبير عن الإدانة الواضحة وبأقسى العبارات لكل ما يقوم به الفلسطينيون ضد الاحتلال ويصنفه تماما مثل إسرائيل والولايات المتحدة على أنه إرهاب مُدان. وقد سن بان في عهده سنة ذميمة لم يسبقه إليها أحد وهي، إدانة التصدي لجنود الاحتلال والمستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. أما الأمناء العامون السابقون فكانوا يدينون الهجمات التي تطال الإسرائيليين إذا وقعت داخل إسرائيل فقط.
لقد كنا ننتظر موقفا متقدما من السيد غوتيريش أفضل بكثير من مواقف سلفه، لأنه يعرف تفاصيل المأساة الفلسطينية، وتجربته مع اللجوء واللاجئين لا بد أن تدفع به إلى الانحياز لصفوف المظلومين والفقراء والمشردين والمهاجرين. وقلنا ليس للرجل طموح سياسي ليرضي أحدا، فقد تقلب في المناصب جميعها وجمع المجد من أطرافه. وقلنا إن هذا الإجماع حوله في مجلس الأمن سيعطيه قوة معنوية لا تضاهى، سيستغلها في قول الحق والانتصار للموقف الإنساني واحترام القانون الدولي، ووضع إصبعه في عين المعتدي والمتغطرس والمستهتر بالمنظمة الدولية، وما تمثله من موقف أخلاقي وقانون دولي وعمل جماعي وأمل إنساني، إلا أنه خيب أملنا منذ البداية. وهناك عدد من المواقف حتى في هذه الفترة القصيرة دلت على هذه الرخاوة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وسأمر على بعضها لماما.
الموقف من قرار الكنيست بشرعنة سرقة أراضي الفلسطينيين
بعد تصويت الكنيست على مشروع "قانون التسوية" أصدر الأمين العام غوتيريش بيانا مقتضبا في اليوم التالي، استخدم فيه المصطلح "نأسف بشدة لاعتماد البرلمان الإسرائيلي ما يعرف بقانون التسوية". وجاء في البيان: "يتعارض هذا القانون بشكل واضح مع القانون الدولي، وستكون له عواقب قانونية طويلة الأمد على إسرائيل. لقد أفيد بأن القانون يمنح الحصانة للمستوطنات والبؤر الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة، التي بنيت على أرض فلسطينية ذات ملكية خاصة". كما يؤكد الأمين العام على الحاجة "لتجنب أي أعمال قد تقوض حل الدولتين. ويتعين حل جميع القضايا الجوهرية بين الأطراف عبر المفاوضات المباشرة، على أساس قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة والاتفاقات المتبادلة". وكفى الله المؤمنين شر القتال.
فمن جهة كان التعبير موجها إلى الذات وليس إلى الحدث نفسه، فالأسف مثل القلق يعود على السيد غوتيريش ولم يوسم الحدث الأخطر في تاريخ الاستيطان الإسرائيلي بأي شي، وكل ما في الأمر أنه استبدل قلق بان كي مون بأسف غوتيريش. وهذا أسلوب لئيم للتهرب من استخدام كلمات تتعلق بالحدث نفسه مثل الإدانة والشجب والاستنكار. وعندما أراد أن يصف الحدث نفسه استخدم كلمة "لقد أفيد بأن القانون"، أي أنه يفهم منه أنه يمنح الحصانة للمستوطنات والبؤر الاستيطانية، وهذا يعني ضمنيا أنه قد يكون مخطئا في فهمه أو أنه غير متأكد. ثم يعود ويذكر في بيانه العتيد بالحاجة إلى تجنب تقويض حل الدولتين، وكأن إسرائيل لم تقوضه بعد، فالعبارة مصاغة بشكل عام لتشمل جميع الأطراف بالتساوي ثم ينهي البيان بالتزام آلية الحل كما تراها إسرائيل وهي "المفاوضات المباشرة" التي أوصلت القضية الفلسطينية إلى ما هي عليه الآن، بعد أكثر من 23 سنة من استخدام تلك الآلية – المؤامرة.
المقابلة مع راديو إسرائيل
من بين كل وسائل الإعلام المعتمدة لدى المنظمة الدولية التي هرعت منذ الأسبوع الأول لتقديم طلبات لإجراء مقابلة مع الأمين العام، اختار السيد غوتيريش أن يمنح مقابلة لراديو إسرائيل يوم 30 يناير. ولا يمكن أن يكون هذا الاختيار صدفة، بل نحن واثقون أنه يريد أن يوجه رسالة تطمينية لإسرائيل. فقد صرح للراديو المذكور أن المسجد الأقصى المبارك هو الهيكل المزعوم في مدينة القدس، وأن الرومان هدموا الهيكل الذي هو هيكل يهودي. فبدل أن يدين الهجمة الإسرائيلية الشرسة على القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية والمسجد الأقصى المبارك، خصوصاً الذي يتعرض لاقتحامات يومية وتقييد لحرية العبادة والاعتداء على المصلين وعلى قدسية المكان، يقرر السيد غوتيريش أن يمنح حكومة المستوطنين دفعة معنوية كبرى، لتكثيف محاولات هدم الحرم الشريف وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه. والأمر المحير أن هذا الموقف جاء عشية قرار إسرائيل بناء نحو 6000 وحدة سكنية استيطانية، وهي تعادل جميع ما أقرته خلال عام 2016 بكامله. وهذا الموقف متقدم أكثر حتى من موقف بان كي مون، الذي أكد بعد اعتماد اليونسكو القرار الشهير بتاريخ 13 سبتمبر الماضي، بربط الحرم الشريف بأصحابه المسلمين على أهمية المكان للديانات السماوية الثلاثة، بينما تمادى غوتيريش وتبنى الرواية الإسرائيلية تماما بأن الهيكل كان مقاما في مكان الحرم الشريف نفسه وأنه هدم في عهد الرومان وكأنه يقر بملكية المكان لإسرائيل وهو ما لم يقل به أحد من قبل.
التعامل مع القانون الدولي
لا شك أن ما قامت وتقوم به إسرائيل من ممارسات، يعتبر انتهاكا صارخا للقانون الدولي، ولا حاجة بنا إلى سرد القرارات الصادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن بخصوص الأراضي المحتلة، وقوانين الاستيلاء على الأرض بالقوة واتفاقية جنيف الرابعة، والرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، وحق الشعوب الواقعة تحت الاستعمار والاحتلال الأجنبي بالمقاومة وإنجاز الاستقلال، لكن الذي يفاقم الأمور ويشجع إسرائيل بالتمادي في قراراتها وممارساتها المخالفة للقانون الدولي هو هذه المواقف الباردة حيال تلك الانتهاكات الصادرة عن المجتمع الدولي، خاصة من الأمين العام وممثله في الأرض الفلسطينية المحتلة نيكولاي ملادينوف.
لكن الحقيقة كذلك أن غياب الموقف العربي الصلب سواء في المنطقة العربية أو في الأمم المتحدة هو الذي يزيد الأمور سوءا. فبعد اعتماد القرار 2334 الصادر في 23 ديسمبر الماضي حول وقف الاستيطان، وذلك الموقف المشروخ والمحير للمجموعة العربية، تبين لنا أن العديد من الدول العربية وغير العربية في حالة ترقب ولا تريد أن تواجه أو تغضب سيد البيت الأبيض الجديد بمن فيهم الأمين العام الجديد.
د.عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز بنيوجرسي