قالت هيلدا حبش ارملة حكيم الثورة الفلسطينية ومؤسس الجبهة الشعبية جورج حبش انه لم تعد هناك أى علاقة تربطها بـ"رفاق الدرب فى الجبهة الشعبية" بعد ان تخلوا عن واجبهم تجاه عائلة الحكيم من كافة النواحي.
وفي حوار نشرته صحفية "الأهرام" المصرية مؤخرا قالت ارملة الحكيم "هم يعيشون على إرثه (الحكيم) لكنهم تخلوا عن واجبهم تجاه عائلته من النواحى كافة .وحقيقة لم أكن أتوقع منهم هذا الموقف بعد مسيرة نضالية جمعتنى مع الدكتور حبش منذ عام 1960 ومنذ التحاقى بحركة القوميين العرب فى العام التالى ".
هيلدا حبش التي حلت برفقة ابنتها الصغرى لمي ضيفة على تونس للاحتفاء بمرور الذكرى التاسعة لرحيل حكيم الثورة الفلسطينية تحدثت بحنين عن زيارات سابقة لمصر وإقامتها وابنتيها فى حى "المنيل" بالقاهرة لنحو عام كامل بعد هزيمة يونيو 1967 وبتقدير بالغ عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وعلاقته بحبش .
وعن عائلتها قالت هيلدا حبش التي تعيش مع ابنتيها فى عمان " الكبرى "مايسة" طبيبة ولها ثلاثة أبناء والصغرى "لمي" مهندسة كمبيوتر وتعيش معها. وكلاهما لا تمارسان السياسة ولا صلة لهما بها."
نص الحوار:
هل كان لك أى مسئوليات بالجبهة الشعبية التى تأسست بعد يونيو 1967؟
لم يكن يهمنى مراكز أو مناصب .هى أمور لا أكترث بها. ولم أكن يوما عضو مكتب سياسى أو لجنة مركزية.فقط كنت عضو قيادة قطاع ليس إلا. أزور أسر الشهداء فى لبنان والمهاجر فى خضم المعارك. لكن مسئوليتى على مدى 48 سنة إلى جوار جورج حبش هى أن أحميه وأرعى سلامته وأمنه كزوج ورفيق درب و زعيم سياسى لشعبه. و لم أعش يوما إلى جواره حياة طبيعية ككل البشر وكأى زوجة مع أننى من عائلة مقدسية ثرية لها أملاك ووكالات تجارية. فقد ظل ملاحقا من الموساد والسى أى إيه حتى وهو فى رحلة علاج بباريس 1992. وهناك والى جواره بمفردى دافعت عنه ضد حملة عاتية. ولم أسمح لهم أن يمسوه أو يحققوا معه. وعلى مدى حياتنا منذ أن تزوجنا فى عام 1961 كنت أعيش معه بأسماء مستعارة وجنسيات مختلفة وجوازات سفر مزورة .نتنقل دائما وبشكل مفاجئ دون استقرار ،حتى أن ابنتى الصغرى كانت تنام فى مكان لتفاجأ بالاستيقاظ على آخر .وتدربت على السلاح .وعلى أى حال ، أنا الآن فى استراحة محارب وبراحة ضمير . لأننى أديت واجبى على أكمل وجه .كنت رفيقة درب بالمعنى الحقيقى للكلمة مع إنسان غير عادى .تبحث عنه إسرائيل "بالإبرة" .وكنت فى كل لحظة معه ومع أسرتنا فى مواجهة محاولات عديدة للاعتقال والاختطاف والاغتيال. لم أعش فى عواصم أوروبية أو فى برج عاجى . فقد عشنا بين شعبنا وقمنا بواجبنا .وهو لم يترك لعائلته ثروة أو عقارات. فقط ترك إرثا معنويا تحرص عليه الأجيال ويجب حمايته بحبات العيون.
تحدثت فى كلمتك هنا بتونس عن أن أول صدمة بعد زواجكما هى الانفصال بين مصر وسوريا وانهيار حلم الوحدة .. لماذا استخدمت تعبير " الصدمة" ولماذا الربط مع حدث خاص كالزواج؟
حقا كان الانفصال قاسيا جدا. ولم يكن الخاص ينفصل عن العام . وكنا حينها بدمشق فى تنظيم القوميين العرب وتعرضنا للملاحقة .شخصيا كنت أيضا ملاحقة ولم يكن جورج وحده . وكنت قد شاركت مع منظمة المرأة التابعة للتنظيم فى مظاهرات ضد الانفصال هناك. وصدر عليه هو عام 1963 حكم بالإعدام مع خمسين آخرين بعد محاولة انقلاب من قوى ناصرية. والكثيرون سجنوا وتعرضوا لتعذيب وحشي. و اختفينا . وكنت صلة الوصل بينه وبين العالم الخارجى لنحو عام كامل فى أصعب الظروف. ومن قبلها وفى عام 1962 ولدت ابنتى الأولى "مايسة" وأبوها فى السجن.
فى العلاقة بالأماكن والمدن وقبل أن نأتى على ذكر القاهرة ..كيف تلخصين رحلتك مع جورج حبش بين القدس وعمان ناهيك عن دمشق ورفضه مغادرة بيروت عام 1982 إلى تونس ؟
أنا أصلا مقدسية ..وتعرفت على جورج وهو ملاحق بالقدس . التقينا بالصدفة عندما كان يختبئ بأحد الأماكن بالمدينة عام 1958 مع أنه بالأصل ابن عمي. وكان هذا اللقاء أشبه " بومضة برق". وفى عام 1966 عندما كانت القدس الشرقية مازالت مع الأردن سحبت السلطات هناك جوازات سفرنا ،واضطررنا للهرب فيما يشبه الإبعاد القسرى . أى أننى أبعدت من فلسطين قبل احتلال إسرائيل للضفة وغزة فى يونيو 1967. ومن حينها الى الآن ـ و لأكثر من خمسين سنة ـ أرى مدينتى القدس بتلالها ومبانيها من بعيد عبر البحر الميت. أنا على بعد نصف ساعة منها لكن لا أستطيع أن أجتاز الحدود كى أرى أهلى فأشعر بالمرارة. وهنا مسألة مبدئية . لقد رفضنا العودة على قاعدة اتفاقات "أوسلو" . هكذا كان موقف الحكيم .وهو موقفى مازال. لا يمكن أن أعود بموافقات أمنية وتطبيع مع العدو. ولطالما حاول قادة فلسطينيون لا نشك فى وطنيتهم وإخلاصهمـ كالدكتور حيدر عبد الشافى إقناعه بمجرد زيارة .لكنه ظل يرفض ويقول: "كيف أذهب لأعبر الحدود وأرى العلم الإسرائيلى يرفرف على أرضي". وأجدنى وفية لهذا الموقف متمسكة به . توفى أبى وأمى بالقدس ولم أذهب . لا أستطيع .
كل هذا الاحتفاء من تونسيين بجورج حبش مع أنه لم يقم بها .. لماذا لم يأت هنا مع خروج القاومة الفلسطينية من بيروت 1982؟
حاول "أبوعمار" أن يقنعه إلى آخر ليلة فى بيروت. فقال له :"لن أغادر دول الطوق". فذهبنا الى سوريا. وهو بالأصل كان مع القتال حتى الموت فى بيروت وله تصريح شهير "سنحول بيروت لهانوي". لكن الأوضاع الإنسانية والعواقب على المدنيين المحاصرين كلها ظلت ضاغطة . كان الحصار قاسيا. جوع وظلام ودمار. فرضخ للأغلبية. وغادر مع انه لم يكن يريد .لكننا بقينا على مقربة من فلسطين فى دول الطوق.
أنت شاهدة من موقعك القريب إنسانيا على علاقة حبش بالزعيم والرئيس ياسر عرفات .. كيف تصفينها ؟
رفض الحكيم أن يكون شاهد زور على تصفية القضية الفلسطينية. كان وظل يرى أن "أوسلو" جريمة بحق الشعب الفلسطيني. ومن حينها انقطعت علاقته بعرفات تقريبا حتى تلقى وهو فى عمان اتصالا هاتفيا منه للسؤال عن صحته. وربما كان هذا فى عام 2003 وقبل وفاة عرفات بأشهر ليس إلا. لكن حقا لم يكن "أبو عمار" يقطع إنسانيا رغم الخلاف السياسي. أما جورج حبش فقد بكى عرفات عندما علم بوفاته. لم يكن عنده أى أحقاد تجاهه مع أن الثوابت الوطنية ظلت خطا أحمر بالنسبة له. ومن أجلها كان على استعداد لقطع العلاقات مع أى كان.. حتى عرفات. وباختصار يمكننى أن أقول أن العلاقة بينهما كانت بمثابة وحدة مع تعارض الأضداد.
كيف تتذكرين بداية علاقة جورج حبش بالقاهرة ؟
أول زيارة كانت فى عام 1964 بدعوة من الرئيس عبد الناصر .وكنت معه . وحضرنا بأسوان الاستعدادات لتحويل مجرى نهر النيل مع إطلاق العمل فى السد العالي. ذهبنا بالقطار مع غسان كنفانى مع نحو 30 ضيفا . وفى هذه المناسبة جرى أول لقاء بين عبد الناصر وحبش. وعندما عاد من اللقاء الذى جرى بمنزل الرئيس الراحل بمنشية البكرى .كان منبهرا إلى حد أنه ابلغنى حينها بأن الرجل متواضع وعظيم فى الآن نفسه ،وبأنه مؤمن بالقضية الفلسطينية وثورى وقومى عربى صميم. وأكثر شيء لفت نظره من أول مرة هو بساطة حديث عبد الناصر وسلوكه وملابسه. قال لي: "بعد ساعتين من اللقاء وضع لى بنفسه طعاما متواضعا وكأننى فى البيت".
وكيف تتذكرين فترة إقامة الأسرة بالقاهرة ؟
فى عام 1969 كان جورج حبش ملاحقا فى الأردن وسوريا ولبنان .وكان المكان الأكثر أمنا لنا هو القاهرة . وهكذا جاء بى وبابنتيه الصغيرتين وقتها إلى مصر بترتيب مع محمد نسيم وبتكليف من الرئيس عبد الناصر. وبقى لشهر واحد ثم أخذ يتردد على الأردن .وكان يدخلها سرا بمساعدة الجيش العراقى . لكننا بقينا كأسرة فى شقة مفروشة بحى " المنيل" على النيل لنحو عام كامل . وكان جورج يأتى إلينا فى زيارات قصيرة خاطفة .فلم يكن وقته ملكه. كنت اشعر بأننى فى بلدى رغم أننى كنت بمفردي. وشخصيا كان لدى صديقات وعائلات صديقة.أذكر من بينهم عائلتا خالد محيى الدين والحكم دروزة. بل والتحقت بجامعة القاهرة كى أتخصص باللغة العربية . وكان عمر "مايسة" سبع سنوات وذهبت إلى مدرسة فى الزمالك و"لمى" ثلاثة أعوام. وعادا إلى الأردن بعدها بلهجة مصرية وبحنين لا يموت لمصر.وهن يلمننى إلى الآن لمغادرتنا القاهرة .وكانت مصر حينها تنهض رغم الهزيمة. وربما كان الناس والنساء بخاصة أكثر تحررا وتطلعا للمستقبل مما وجدت عندما زرتها مع الحكيم لأيام فى عام 2000 .
ومع هذا كانت علاقة مصر الناصرية مع الجبهة الشعبية تنطوى على تعقيد ما وأزمات ..
كأسرة جورج حبش لم يحدث لنا طوال إقامتنا لنحو عام كامل أى تضييق.ومع هذا أذكر أن مدرس اللغة العربية الذى يأتى للبيت أخبرنى يوما ما بأن المنزل مراقب من الشرطة السرية. وكان شيوعيا سابقا تعرض للسجن سنوات طوال قبلها وبإمكانه أن يتعرف عليهم. فأبلغته بأننا مرحب بنا فى مصر. لكننى أظن أن العلاقة اهتزت مع الجبهة الشعبية بسبب تقارير سلبية كانت ترفعها الأجهزة الأمنية لعبد الناصر. وبالطبع كان هناك الخلاف حول اليمن. وحدثت مضايقات لطلاب الجبهة وجرى ترحيلهم بملابس النوم "البيجامات" من مطار القاهرة .وربما كان لهذه الأجهزة مصلحة فى الإساءة إلى العلاقة. لكن علاقة عبد الناصر بجورج حبش ظلت إنسانية وثيقة. لقد دعاه إلى زواج ابنته بالقاهرة وأتصل بالملك حسين لأنه كان بالأردن ملاحقا ومطلوبا كى يتمكن من حضور حفل الزفاف.
ما الذى يتبقى من القاهرة فى ذاكرتك ووجدانك بعد كل هذه السنوات؟
عندى حنين خاص لها. صحيح إننى كنت بمفردى مع ابنتى الصغيرتين لكننى لم أشعر يوما بغربة. كنت بين أهلي. ولم تكن هناك قيود أو محاذيرعلى جورج حبش نفسه عندما يأتي. يلتقى من يشاء. وأتذكر انه كان يلتقى بالاستاذ حسنين هيكل مرات بعد الواحدة فجرا. وربما اهتزت العلاقة بين الجبهة الشعبية والقاهرة قبل أن نغادر. شعرت بتغير ما لا أدرك أو أتذكر تفاصيله، أو ما هو بالضبط. لكن يقينا لم يتم منع حبش من زيارة القاهرة أو السفر منها .
كيف انتهت إذن فترة الإقامة هذه بالقاهرة ؟
قرار المغادرة كان شخصيا. كان على ألا أغيب عن جورج حبش. وكان على تأدية دورى تجاه شعبنا فى المخيمات بالأردن، فعدت لالتحق به فى عمان لسنة قبل أن نخرج مع أيلول (سبتمبر) 1970. وهذا مع أن البقاء فى مصر بالنسبة لشخصى ولأسرتى كان أفضل من زاوية الاستقرار. وكانت "لمي" و "مايسة" تفضلان البقاء.
