الفصل الأول
نقوش في الذاكرة:
لا أتذكر تفاصيل طفولتي المبكرة ، لكن ثمة ملامح منقوشة في ذاكرتي ، فما تزال " المسقاة" وهي ناحية من نواحي قرية عارة حاضرة بوضوح رغم تراكم السنين المثقلة بالمشاهد والأحداث
كانت المسقاة تمتاز بوفرة المياه المتدفقة من عينها المجاورة لدارنا وتتجمع في بركة عميقة لتنطلق من الجانب الآخر إلى المزارع والبساتين
على بعد أمتار قليلة من تلك البركة وفي ظل أشجار التين، واللوز ، والمشمش والجوز يقع بيت إبراهيم مصطفى سلامة يونس
في ذلك البيت ولدت تعلمت السباحة وأتقنتها كإخوتي وسائر أطفال قريتي في مرحلة الزغب الأول
أتذكر أنني كنت أمتاز عن إخوتي وأبناء عمومتي بالميل إلى الهدوء والنفور من العنف ، ورغم ذلك كان جدي مصطفى يلقبني بأبي ضرغام ، ويسميني " البطل"
هل كان الحاج مصطفى يتوقع أو يتمنى أن أصير بطلا، أم أنه كان يعتبر الهدوء من علامات البطولة ؟ جدي أيضا كان يمتاز عن إخوانه أو عن بعضهم بعدم الميل إلى العنف
كان هادئا ، وقورا يرعى الأشجار ويجود بالثمار ولا يميل إلى الشّجار
الحياة في قريتنا كما هي في القرى المجاورة ، تسير في رتابة وبساطة : حرث ، فزراعة ، فحصاد
ربما كانت الأعراس والمشاجرات القليلة تكسر الرتابة وتثري أحاديث القرية بشيء من الطرائف، لكن الجدية تظل السمة الأكثر بروزا في تقاسيم تلك الحياة
ذات يوم حزين داهم الغرباء قريتنا ، أعلنوا حظر التجول ، وراحوا يفتشون البيوت وينهبون المواشي وما يحلو لهم
تساءلت يومها – وكنت في السادسة من عمري- كيف سمح المختار لهؤلاء الغرباء بدخول القرية؟! كان المختار بدينا وجريئا ، فلماذا لم يتصد لهم ؟! كنت حينذاك لا أتصور أن هناك قوة يمكن أن تقف في وجه المختار
قبل ذلك اليوم المخيف كنت أسمع عن هجمات يشنها اليهود على بعض القرى المجاورة كقرية (كفر القرع) ، وكان رجال قريتنا يهبون لنجدة تلك القرى وينجحون في صد الهجمات اليهودية
لكن ماذا تعني كلمة (يهود) بالضبط؟ ما كنت أفهمه من سياق الحديث هو أن هناك مخلوقات مجهولة ومخيفة كالجن والغيلان
وحتى لو كانت كذلك فالمختار ضخم الجثة، شديد اللهجة وهو فوق ذلك يحمل عصاة
وحين شاهدت الغرباء فوجئت بأنهم يشبهون الناس تماما فليس لهم قرون ولا أنياب ولا مخالب ، لكنهم يحملون أنواعا من العصي بعضها طويل وبعضها متوسط في طول عصاة المختار
ربما أدركت حينها أن ثمة فرقا يجعل تلك العصي مخيفة أكثر ، ولكن كيف لم يتمكن رجال قريتنا من التصدي لهؤلاء اليهود ما داموا رجالا مثلهم ، وما داموا –كما سمعت سابقا- قد طردوهم من كفر القرع؟ لم أجد إجابة على مثل هذه التساؤلات تحد من صمتي وخوفي ، ثم عرفت في وقت لاحق وبعد أن تركت التساؤلات الحائرة أثرها وفعلت فعلها في نفسي ، أن القرية سلمت تسليما وأن هناك من هو أعلى وأقوى من المختار
تقع قريتنا عارة ، وعرعرة ضمن منطقة المثلث العربي الشمالي ، وتشمل هذه المنطقة 22 قرية لم تسقط بالقتال، بل جرى تسليمها بموجب اتفاقية رودس، فصدرت الأوامر بانسحاب الجيش العراقي وجيش الإنقاذ منها
وكانت مدرسة عرعرة مقرا لقيادة الجيش العراقي الذي درب ونظم رجال القريتين لمقاومة العصابات اليهودية
وفجأة ودون مقدمات مفهومة ، جرى الانسحاب فدخل الغرباء دون قتال وعملوا على إذلال الأهالي ، فنصبوا أمام جامع عارة قوسا كبيرا يعلوه علم غريب وأمروا رجال القرية بالاصطفاف والمرور من تحت القوس ، وتمكن بعض الشبان والرجال من الاختباء هربا من المرور والإذعان ، ولكن الذين أفلتوا منهم لم يجرؤوا على التباهي إلا همسا ولبعض التقاة فقط
شن حرس الحدود، وهم أكثر شراسة من الجيش، حملات تفتيش ونهب وتخريب بعد أن جمعوا رجال القرية وأمروهم بالجلوس على الأرض
وبسبب ما رأيته وسمعته من ممارسات حرس الحدود ، شعرت لأول مرة بالخوف
كيف يجلس الرجال على الأرض؟ وكيف يسمحون للغرباء باقتحام منازلهم ،أدركت أن مواسير الحديد، التي يحملونها ، هي سبب ذلك الإذعان الذي جعلني أشعر بالخوف ، وكم أزعجني هذا الشعور الجديد، فصرت أفكر في أن أتعلم شيئا ما للدفاع عن نفسي
علمني كتاب القرية وتقاليد العائلة أن السرقة والقتل حرام، وأن احترام الكبير والعطف على الصغير واجب، لكن تصرفات هؤلاء الغرباء تخالف كل ما تعلمته ، هم إذن من نوع غريب يختلف عن الناس وإن كانوا مثلهم شكلا ؟ ليسوا من الجن ولكن ليسوا من الإنس أيضا! هم على الأقل ليسوا كأهل قريتنا
إنهم يكرهون العرب ويطلقون على كلابهم أسماء عربية! وهؤلاء الذين يقال لهم حرس الحدود يقتلون لمجرد الرغبة في القتل ودون تمييز بين صغير وكبير فمن أية طينة هم ، ومن أية غابة جاءوا
ها هي سياراتهم تأتي بالجثث المجهولة ، ويأمر أهالي قريتنا بدفنها بسرعة في مقبرة القرية ، بعد إغلاق مداخلها وحظر دخولها على أهالي الجوار
كانوا يجردون القتلى من أي شيء يدل على أسمائهم أو أشخاصهم
في ذلك الجو الرهيب تعلم أهلنا الصمت والتحفظ خوفا من عقوبات الحاكم العسكري الذي كان مخولا باتخاذ أي إجراء ضد الأهالي دون الرجوع إلى قيادته ، فكان من صلاحياته أن يسجن وأن ينفي ، و أن يصادر وينهب ويخرب
في ذلك الجو كبرت وأنهيت دراستي الابتدائية ، والتحقت بمستعمرة (برقائيل) وهي أقرب (كيبوتس) إلى قريتنا ، حيث كان أولاد قريتنا يذهبون للعمل التطوعي يوم العطلة فيقومون بقطف الثمار ، وجمع الخضار ، ويذهب ريع ذلك اليوم لصندوق نادي القرية التابع لحزب (مابام) الاشتراكي اليساري
وفي العطلة الصيفية كنا نذهب إلى كيبوتسات أخرى ونقيم فيها لمدة شهر ونصف ، وأغلب تلك المستعمرات تقع في منطقة الجليل
بعد ذلك واصلت الدراسة في كيبوتس (هامعبيل) الذي بني على أنقاض قرية (كاكون) وهي قرية كنعانية مثل قريتي عارة وعرعرة.
وفي ذلك الكيبوتس التقيت بتلاميذ يهود فربطت بيننا زمالة الدراسة ، وصار لي منهم أصدقاء وعلى الرغم من أنني كنت أعاملهم كأصدقاء فعلا وأحرص على صداقتهم ، فإنهم كانوا يتصرفون بشيء من التحفظ والعنصرية اتجاهنا نحن العرب
وظهرت نظراتهم إلينا سافرة عندما ذهبوا للتدريب العسكري في (بير أورا) بمدينة إيلات على البحر الأحمر ، وكان النظام المتبع يقضي بتدريب أبناء الكيبوتسات في ذلك المعسكر عندما يبلغون السادسة عشرة ، تمهيدا لدخول التجنيد الرسمي بعد سنتين ، أي عندما يبلغون الثامنة عشرة
عاد الزملاء من رحلة التدريب ، فجلسنا عربا ويهودا نتحدث عن رحلتهم ، وإذا ذكر أحدهم السلاح الذي تدرب عليه صاح به أكثر من واحد تذكر مع من تتحدث ؟
على أية حال كان أعضاء الكيبوتس يغلفون التمييز بغلاف من التعقل فلا يمارسونه علينا كما هو الحال في الشارع اليهودي ، حيث إذا اختلف عربي مع يهودي سرعان ما كان الأخير يصرخ قائلا : (عربي ، عربي،...)! وكان هذا بمثابة نداء لليهود وإشعار لهم بوجود شخص غير مرغوب فيه ، وسرعان ما يتجمع عليه اليهود من كل جهة ، ويوسعونه ركلا وضربا ؟ كانوا إذا سمعوا النداء المذكور ، تسابقوا إلى الفريسة ، وإذا سال دم عربي على أحدهم ، يكون الحق عليه عند الشرطة ، لأنه وسخ ثياب اليهودي بدمه
فرض عليّ هذا الواقع أن أتعلم الملاكمة لأدافع عن نفسي ، ولا أكون فريسة سهلة تمارس عليها المزاجيات العدوانية المتعصبة ، فنجحت في الملاكمة بسرعة ، وبعد سنة واحدة من التدريب المتواصل حصلت على بطولة الدولة للناشئين في مباريات نظمت في بئر السبع عام 1962
وبعد سنة أخرى أصبحت أفضل الملاكمين ، وفي سنة 1963 حصلت على بطولة الدولة للملاكمة في وزن خفيف الوسط (63,5)كغ
نظمت مباريات البطولة في (باطيم) وكذلك حصلت على بطولة (بيطار) في مباريات طبرية، وانضممت بعدها إلى نادي (بيطار) وصرت أتدرب فيه، كما صرت أتدرب في (بيت زئيف)و(مسدات زئيف) ، وهما مكانان كانا مخصصين قبل عام 1948 لتدريب أعضاء حزب (حيروت) على قتل العرب
ما عرفته عن ماضي هذين الموقعين لم يؤثر في نفسي، ولا جعلني أشعر بالعداء تجاه ذلك الحزب، لأنني اعتبرت ذلك مجرد فعل ماض، بدليل أنني أتدرب في نوادي تابعة لحزب حيروت لهدف مختلف تماما، وأدرك الآن جيدا أن الذين كانوا يدربونني أو كان بعضهم على الأقل لا يرى بأسا في أن أصير بطلا لامعا ، ما داموا سينسبونني في هذه الحالة إلى (إسرائيل) ويكون ذلك لفائدتها دعائيا
والحقيقية أن وصفي بأنني بطل إسرائيل في الملاكمة لم يكن يزعجني آنذاك ،على الرغم من تعرضي لعدة مواقف سابقة ، تشعرني بأنني كعربي ، لست مقبولا كمواطن كامل الحقوق في هذه الدولة ، وتعمق هذا الشعور لدي عندما لاحظت قلة اهتمام الصحافة بي ، واتّصاف الصحفيين والحكام تجاهي بعدم الإنصاف ، وإن كانت مبارياتي توصف أحيانا بأنها من أجمل المباريات
لا شك أن هضم حقوقي وعدم إنصافي من طرف الصحافة وأعضاء التحكيم كان يضايقني كثيرا لكن ما كان يضايقني أكثر هو أن الجمهور الذي يحضر مبارياتي لم يكن يكتفي بجولة اللعب ، وبالفوز، بل كان يصيح أثناء الجولات (دم ، دم ) أي يريدون أن تسيل الدماء
كنت أجد عزائي في مدربي يعقوب فوفتش وهو يهودي روماني يكره التعصب والتفرقة العنصرية ، وكنت أحس بتعاطفه معي وبأنه متضايق من أجلي في كثير من الأحيان
تأكد ذلك بشكل واضح عندما تقرر سفر منتخب بيطار إلى اليونان، وكان الطبيعي أن أكون ضمن المنتخب ، بل في مقدمته ما دمت البطل الأول في وزني .
وقبل الذهاب إلى التدريب في معهد (فنكت) ، تقرر أن تجري تصفيات لاختيار المرشحين للسفر واعتبرت أن من حسن حظي أن تجري هذه التصفيات في (ناتانيا) ، حيث جرت في ملعب كرة القدم (مكابي ناتانيا)
وكان وصل إلى إسرائيل ملاكم جديد يدعى نسيم أشرف، وهو يهودي مغربي، احترف الملاكمة في فرنسا، وعند قدومه لعب عدة مباريات فاز فيها جميعا بسهولة ، وبالضربة القاضية
وحسب الأنظمة والأصول المتبعة في الملاكمة ، كان كل منا يعرف مع من سيتقابل من ملاكمي وزنه، لأن لكل وزن نجومه وأبطاله
وبينما كنا في غرفة الملابس ، تقدم مني ملاكم من نادي (بيطار ناتانيا) وهمس في أذني
لا يريدون أن تسافر مع المنتخب
فضحكت وقلت له
أتوقع ذلك
وكنت أتوقع أيضا أن يلجأوا إلى أساليب ملتوية ، ولكنني سألت ذلك الملاكم
كيف عرفت ذلك ؟
فقال: إنهم يريدون أن تلعب مع نسيم أشرف لتخرج من بداية التصفيات
فرددت عليه قائلا: سبق أن طلبت منازلة نسيم أشرف عندما كنا نلتقي مع بيطار تل أبيب حيث يلعب نسيم ، لكن الإداريين رفضوا لاختلاف الوزنيين ، فوزنه أثقل من وزني
فقال: لكن الأمر الآن يبدو مختلفا لتعلقه بتصفيات السفر
بعد هذا الحوار غادرت غرفة الملابس، وتوجهت إلى غرفة الإداريين وعندما اقتربت منها ، سمعت مدربي يعقوب يصرخ قائلا: ( فقط لأنه عربي؟
وحين دخلت ، صمت المدربون والإداريون ، فنظرت إلى مدربي وقلت له
أريد أن ألعب مع نسيم أشرف
رد المدرب عليّ صارخا
أنا أعرف أنك ترغب في ذلك وهذا غير مقبول موضوعيا، لكن هؤلاء يريدونك أن تلعب مع نسيم لينتصر عليك فتخرج من بداية التصفيات
فقلت: ومع ذلك أنا موافق
أمسك المدرب يدي برفق وقال
نسيم من الأبطال المحترفين ويستطيع أن يلعب 15 جولة
فقلت: أعرف هذا ، وقد شاهدته، وشاهدت انتصاراته، أرجوك أن توافق على طلبي وطلبهم ؟
فأجابني قائلا: ولكنك لست من وزنه
فقلت: أعرف هذا أيضا ، دعنا نختبر قوتنا
هز المدرب رأسه موافقا على مضض، فتقابلت مع نسيم أشرف على الحلبة وبدأت المباراة
أثناء اللعب كنت أرى مدربي يبتسم ، وخلال الاستراحة قال لي : (استمر هكذا)
وعندما انتهت الجولة الثالثة ، قفز مدربي إلى وسط الحلبة وراح يرقص فرحا ! لكنه توقف عن الرقص عندما فوجئ بالمذيع يعلن فوز نسيم ، فيقوم حكم الحلبة برفع يده
وعلى الرغم من أن الجمهور كان من اليهود ، فقد علا صراخه محتجا على الانحياز المكشوف، وسمعتهم يرددون بالعبرية عبارة : (لدفوك أت هشخوريم)
وهي عبارة مناهضة للسود، تقال ضد العرب ، وتعمد الجمهور ترديدها لإشعار الحكم لأنه منحاز ، وأن النتيجة غير موضوعية! كان كبير الحكام (جاك ليفي) وهو المشرف على المرشحين للسفر ، قد قرر أنني المنتصر، ولكن الحكمين الآخرين خالفاه وقررا فوز نسيم
سادت القاعة حالة من الفوضى الاحتجاجية ،وبعد مشاورة سريعة جرت بين المدربين والإداريين أعلن المذيع أن اللاعبين كليهما سيسافران إلى اليونان
هدأت القاعة قليلا بعد هذا الإعلان وتقرر فعلا أن نسافر معا وأن يلعب كل منا في وزنه
وبقي نسيم من أصدقائي اليهود القلائل ، وأرسل لي سلاما بعد أن هربت من إسرائيل وانضممت إلى حركة فتح
على بعد عشرة كيلومترات من مدينة ناتانيا، يقع كيبوتس (هاعوجن) الذي التحقت به لمواصلة التدريب ، ونظرا لبعد المسافة بين المدينة والكيبوتس ، فقد كنت أتأخر عن مواعيد التدريب أحيانا كما كنت أتحمل نفقات إضافية كأجرة للمواصلات
ليس من السهل أن أجد مدربا مثل يعقوب فوفتش الذي كان مع بعض أصدقائي يخفف عليّ وطأة الشعور بالاضطهاد والقهر والظلم
مسؤول الملاكمة في مدينة ناتانيا ومسؤول المنقذين يدعى شلومو وهو من حزب (ماباي) وكذلك رئيس البلدية
اقترح شلومو عليّ خلال تدربي في نادي العمال ، أن أعمل مع ملاكم آخر كمنقذين على شاطئ ناتانيا الذي كان يعمل فيه عدد من المنقذين اليهود
وافقت على الاقتراح وعملت منقذا حتى نهاية صيف 1962 م ، ووظيفة المنقذ في إسرائيل من الوظائف المحترمة التي لها امتيازات مادية ومعنوية ، حيث يحظى المنقذون بتقدير ملموس ويتقاضون رواتبهم حتى في فصل الشتاء
لم يكن زميلي الملاكم الذي عمل معي كمنقذ يجيد السباحة ، لذلك لم يبدو متحمسا للعمل ، أما أنا فقد عملت برغبة وحماس ، لأن مهاراتي في السباحة لم تكن أقل من مهارتي في الملاكمة ، وقد تدربت سريعا على استعمال حسكة الإنقاذ ومارست العمل بجد وإخلاص
في 15/09/1962 ، نظمت مسابقة في السباحة الطويلة لقطع عرض بحيرة طبريا البالغ 4,5 كيلومتر ، وعلى الرغم من أنه لم يسبق لي أن شاركت في مسابقات المسافات الطويلة ، فقد حصلت على الرتبة الرابعة من بين خمسمائة متسابق
بعد ذلك تلقيت دورة تدريب على الإنقاذ والإسعافات الأولية في تل أبيب ، وعند بداية الموسم الصيفي حاولت مواصلة العمل كمنقذ ، لكنني فوجئت باعتراض المنقذين اليهود الذين هددوا بالإضراب عن العمل إذا انضم إليهم أي عربي
تلقيت هذه الصدمة بكثير من الدهشة ، وتساءلت ، كيف وافق هؤلاء على عملي معهم في الصيف الماضي ولم أكن تدربت على الإنقاذ رسميا ، ولا شاركت في السباحة الطويلة ؟ وكيف يعارضون عملي معهم اليوم وقد صرت من السباحين المعروفين ، وحصلت على مؤهل للعمل كمنقذ
رد شلومو على تساؤلاتي هذه قائلا بصراحة : لم يكونوا يعرفون أنك عربي
توقفت عن العمل مدة أسبوعين ، ثم رحت أهدد بترك ناتانيا ، والانضمام إلى أي نادي آخر ، وقد قصدت بذلك أن أضغط على النادي ليضغط بدوره على أولئك المنقذين العنصريين
نجحت خطتي ، حيث جرى التوصل إلى حل وسط ، يقضي بأن أعمل منفردا على برج مستقل ، والتحقت بعملي على الشاطئ (عينت خيلت) في ناتانيا
تعرضت خلال عملي على هذا الشاطئ إلى العديد من التحرشات ومحاولات الاصطياد من طرف نساء يهوديات وسائحات أجنبيات كن يستعرضن أجسامهن على الشواطئ، قبل أن يدخلن الماء ويقمن بحركات لافتة للنظر
ولم أكن أكترث بالاستعراضات ولا بالحركات ، الأمر الذي جعل بعضهن يتوغلن في البحر ، ويتظاهرن بالغرق، فأذهب لأنقذهن ، ثم أكتشف اللعبة
كان بعضهن يعرضن أنفسهن عليّ بوقاحة تخدش حيائي كرجل عربي ، وكنّ يستغربن منّي هذا الحياء غير المألوف لديهن ، لأنهنّ في الغالب يعتقدن أنني كالآخرين، وكانت عبارات الغزل والتحرشات من الأمور العادية على الشواطئ وفي الشوارع والأماكن العامة
و أعتقد أن ما رأيته وتعرضت له من محاولات رخيصة ووقحة ، سبب نفوري من الجنس الآخر وانعدام ثقتي فيه ، بل وكراهيتي له أحيانا ، فأنا لم أشاهد واحدة متزوجة أو غير متزوجة رفضت طلب المنقذ
كنا سافرنا في الشهر العاشر من العام 1963 م إلى اليونان، وعلى الرغم من أن بعض المسؤولين المرافقين كانوا من ذوي الحصانة الدبلوماسية ، فقد قابلنا اليونانيون بكثير من الاحتقار ، ولم يكترثون باحتجاج الفريق الإسرائيلي
وفي محاولة لتعويض تجاهلنا واحتقارنا في اليونان ، قرر اتحاد الملاكمة أن نستعد للسفر إلى تركيا لمقابلة الفريق التركي
عدنا إلى إسرائيل وبدأنا نتدرب في (مسدات زئيف) بتل أبيب، وقبل دخولنا المعسكر ، فضلت أن أسكن مع شقيقي الأكبر محمد وعدد من أصدقائه الذين كانوا يعملون في المدينة
وذات يوم زارني صديقي الحميم ، ابن عمي مكرم يونس ، وذهبنا في المساء إلى نوادي الرقص على عادة الشباب هناك
تنقلنا من ناد إلى آخر وقوبلنا بالترحيب ، لأنني كنت معروفا في هذه النوادي ولا سيما من طرف الرياضيين والمهتمين بالرياضة من شبان تل أبيب
كان الرياضيون يترددون على هذه النوادي فيأكلون ويشربون دون أن يدفعوا شيئا، فقد كان مطلوبا منهم فقط أن يحافظوا على الهدوء ، وأن يردعوا أو يطردوا أي مشاغب ، وكان مكرم ميّالا إلى المشاغبة والاستفزاز ، وكذلك بعض الأصدقاء المرافقين له في تلك الجولة ، ولم أكن أشاركهم في الاستفزازات ولا كنت راضيا عن تصرفاتهم ، لكنهم يعرفون جيدا أنه في حالة اشتباكهم مع بعض الرواد ، فلا أستطيع إلا الاشتراك معهم ، وربما كان هذا من حوافز الرغبة في الغزل والتحرش والاستفزاز ، خصوصا لدى ابن عمي مكرم الذي ربطتني به فضلا على صلة القربى والجوار طفولة مشتركة في المسقاة ، فهو في عمر مثل عمري تماما ، لكنه أطول مني قليلا ، ومن حسن الحظ أن جولتنا مرت بسلام
ركبت وراء مكرم الدراجة النارية واتجهنا إلى البيت ، وفي الطريق مررنا بمحطة بنزين فوقفنا فيها لتزويد الدراجة بالوقود
صادفنا فتاة تقف إلى جانب سيارتها ، فراح مكرم يغازلها بالعبرية ، وهذا أمر عادي ومألوف ، ولم تنزعج الفتاة ربما لأنها لم تعرف أن الذي يغازلها عربي ، فهو ذو بشرة بيضاء ويتكلم العبرية بطلاقة ، لكن عامل المحطة سمعنا نتحاور بالعربية ، فعرف هويتنا ، وعندئذ بدت على وجهه علامات الضيق وراح يستفزنا ، ويبدوا أن زملاءه الثلاثة سمعوا صوته فجاؤوا إليه
كان أحدهم مغربيا ، والثاني يمنيا ، والثالث أشكنازيا، وبمجرد أن وصلوا راح العامل المغربي يصرخ ، فسأله الأشكنازي عن سبب صراخه ، فقال : هؤلاء العرب لا يريدون أن يدفعوا ثمن البنزين
لم تكن التهمة التي لفقها لنا أكثر استفزازا لزملائه من كلمة (عرب) ! كانت هذه الكلمة وحدها كافية لتصعيد الموقف وتحريض الآخرين علينا
قلت لهم بصوت هادئ – و غالبا ما يكون صوتي هادئا
صاحبكم مخطئ وإن كنتم تريدون المشاجرة فستخسرون! لم أكد أتم عبارتي حتى هجموا علينا وهم يصيحون (عربي ، عربي) فانضم إليهم عدد من هواة ضرب العرب الموجودين في المحطة
قلت لمكرم : يبدو أنه لا بد مما ليس منه بد، لكن ليكن ضربنا خفيفا، تقدم مني اليمني والأشكنازي فضربتهما بكفي ورجلي ، ولمحت أن المغربي قد ضرب ابن عمي برأسه ، وهم بأن يضربه ثانية ، فقفزت إليه وضربته لكمة أسقطته على الأرض دون حراك ، وعندئذ شعرنا بخطورة الموقف فركب مكرم الدراجة بينما ظللت أناوش الآخرين حتى لا يتمكنوا من أخذ رقم الدراجة، وبعد أن ابتعد مكرم عن المحطة تبعته بسرعة ولذنا بالفرار
في اليوم التالي نشرت الصحف : (مجهولان يعتديان على عامل محطة وقود يدعى فكتور ، حاول مساعدة سيدة كانت تقف في المحطة وقد تم نقل عامل المحطة إلى المستشفى واتضح أنه أصيب بارتجاج في المخ وحالته صعبة)
قال مكرم بعد قراءة الخبر : يبدو أنهم عرفونا ، وأنت مكروه في إسرائيل ،وسيغتنم رجال الشرطة هذه الفرصة لزجك في السجن ! ودون نقاش ، قررنا أن نهرب إلى غزة ، ونفذنا قرارنا في 29/03/1964
الفصل الثاني
الهروب الأول
ركبنا الحافلة إلى عسقلان ، وفي المحطة اشتريت خارطة صغيرة لمعرفة الاتجاه.
قضينا بعض الوقت في عسقلان لأننا تعرفنا على فتاتين يهوديتين هناك لتمضية الوقت وإبعاد الشبهة ، لأن هذه المدينة ضمن المناطق المحظورة على العرب
ولكي نتخلص منهما ،ادعينا أننا مرتبطان بموعد مع بعض الأصدقاء، وعند الغروب دخلنا المناطق الزراعية (البيارات)
تأملت الخارطة فعرفت أن غزة على يميننا ولا يفصلنا عنها سوى كيلومتر واحد
سرنا بين المزارع، هبط الظلام فلم نعد نميز الأشياء، فرحنا نتفحص أوراق الأشجار لنعرف ما إذا دخلنا المنطقة العربية أم لا ، وعرفنا من بعض الأشجار، ومن طريقة الري أننا في منطقة غزة فخرجنا إلى الشارع
صادفنا نقطة لقوات الطوارئ الدولية ، سألنا أحد أفرادها عمن نكون ، فزعمنا أننا من غزة ، وبعد أن تجاوزنا النقطة رحنا نغني في فرح ( أنت عمري اللي ابتدأ بنورك صباحو) ! رأينا شابا فسألناه عن أقرب مركز للشرطة فأرشدنا إليه
قابلنا في المركز بعض رجال المخابرات المصرية ، فوجئنا بهم بعد سماع قصة هربنا ، يأمروننا بالعودة من حيث أتينا ! كنت أتصور أنني معروف إلى حد ما لدى المخابرات المصرية والعربية عموما ، وأن معلوماتهم عني كرياضي على الأقل ، تكفي لمقابلتنا باهتمام وتفهم لسبب هربنا
كان لديهم بعض المعلومات عني وعن مشاكلي مع الشرطة ، لكنهم بالرغم من ذلك استقبلونا بفتور ، وقرروا أن نعود أدراجنا دون أن يرشدونا إلى الطريق الآمنة للعودة !تركونا نسلك طريقا وعرا قد لا يكون خاليا من حقول الألغام
وأدت عودتنا العشوائية إلى القبض علينا ، حيث ركبنا حافلة متجهة من بئر السبع إلى عسقلان ، وهذه المنطقة من المناطق المحظورة على العرب
وكان تواجدنا فيها كافيا لإلقاء القبض علينا ، مرت في الطريق دورية لحرس الحدود فأوقفت الحافلة ولدى تفتيشها ، قاموا بإلقاء القبض علينا ووضعونا في سجن عسقلان في 01/04/1964
بعد ثلاثة أيام حضر محام موكل من طرف أهلنا بالدفاع عنا ، قابلناه في حضور الشرطة فقال : لا أستطيع الدفاع عنكم إلا بعد انتهاء التحقيق، فطلبت منه أن لا يعود و أن يخبر أهلنا بأنه لا ضرورة لحضورهم
عدنا إلى غرفتنا في السجن فسألني مكرم
لماذا تصرفت هكذا مع المحامي؟
فأجبته قائلا: لأن المحامي لن يفيدنا ما دامت التهمة الموجهة إلينا كافية لحبسنا سنوات وربما سنين طويلة ، وكانت تلك التهم كما عرفناها من المحامي ومن المحقق أيضا هي ما يلي
1 – مغادرة البلاد والعودة إليها دون تصريح
2 – الاتصال مع العدو
3 – تزويد العدو بمعلومات تضر بأمن الدولة
4 – خيانة الدولة
5 – إخفاء معلومات عن رجال الأمن
6 – الإصرار على الاتصال بالعدو
بعد سرد التهم الست دون إضافة تهمة الاعتداء على عامل المحطة الذي لا نعرف مصيره ، قلت لمكرم : ليس لدي استعداد للبقاء في السجن شهرا واحدا ،أضف إلى ذلك احتمال موت العامل المضروب ، كما أن موقف الشرطة من المحامي دفعني
إلى التفكير الفوري في الهرب مهما كانت النتائج والاحتمالات
كنا خمسة عشر سجينا في جناح الموقوفين ، خمسة من العرب والباقي من اليهود وكان بين العرب الخمسة شاب اسمه حافظ مصالحة ، متهم بالعمل مع المخابرات المصرية ، وقلنا للسجناء اليهود أن تهمنا بسيطة لتبقى علاقتهم بنا حسنة ، لأن بعضهم تعرف عليّ وأبدى إعجابه بي كبطل في الملاكمة
يتكون جناح الموقوفين من غرفتين للمساجين يوسطهما حمام يقابل الباب الرئيسي
جلست إلى جانب مكرم ، ورحنا نفكر في طريقة للهرب
كان الحراس يعدون المساجين ثلاث مرات في اليوم ، مرة في الصباح ، ومرة عند الظهر ، ومرة عند الثامنة ليلا حيث تجري عملية الاستلام والتسليم ، ولا يفتح الباب بعد الثامنة ليلا إلا في حالات الضرورة وبحضور قوة إضافية
لكن المشكلة الكبرى التي تعترض فكرة الهرب تتعلق بفتح الباب الحديدي الرئيسي، وهو يفتح من الخارج ويغلق بإحكام
توجد في أعلى الباب نافذة صغيرة ويتواجد أمامه باستمرار بعض الحراس، أما أبواب النظارة فكانت زجاجية تكشف السجن كله ، وحول السجن شريط شائك، فيه باب واحد يقف عنده حارس مسلح باستمرار
مدة التوقيف حسب القانون الإسرائيلي خمسة عشر يوما قابلة للتجديد حتى صدور الحكم .
قدمنا للمحكمة في 15/04/1964 وتقرر تمديد التوقيف ، كان ذلك يوم خميس. وعندما أعادونا إلى السجن رحنا نغني ( كلها يومين على فراق الحبايب)
سألنا الموقوفون لماذا نحن فرحون فقلنا لهم ببساطة سنخرج من هنا! أخبرنا حافظ مصالحة بأننا قررنا الهرب يوم السبت ، وأخبرناه ظهر يوم السبت بالخطة : سوف نهرب هذا المساء بعد غروب الشمس
هذا الهروب يمثل أول مغامرة بالنسبة إليّ؛ لذلك كنت إذا خلوت إلى نفسي بعد حديث مريح مع مكرم وحافظ ، أجد عشرات الأسئلة تتزاحم في ذهني : هل أستطيع أن أنتصر على (إسرائيل) منفردا؟ لست مسلحا ولا حتى مدربا على السلاح، فهل يمكن أن أحرز نصرا على ترسانة السلاح والطائرات ودولة الجيش والشرطة والأمن وكلاب الأثر؟
ولكي لا يدخلني الإحباط أمام مثل هذا التساؤلات ،واجهتها بتساؤلات مضادة : وماذا أفعل إذن؟ هل أتراجع وأستسلم لأقبع في السجن مدة مجهولة؟ ما الفرق بين السجن وبين القبر؟ ماذا سيقول عني هؤلاء المساجين بعد أن أعلنت قراري وحددت موعد تنفيذه؟ هنا بين المساجين اليهود من أبدى إعجابه بي كبطل، فماذا سيقول إذا جبنت وتراجعت؟ صحيح أن الخوف هو الذي دفعني إلى ما وصلت إليه في الملاكمة، لكن هذا الدافع لا يمكنه أن يتعايش مع البطولة في سياق واحد ؛فهما ضدان لا يجتمعان في موقف ولا معادلة
كان حديثي مع مكرم وحافظ يبعد عني الهواجس والتساؤلات
نظرت إلى مكرم فوجدته نائما وكذلك حافظ ، فحاولت أن أنام لكن دون جدوى، ورحت أتردد على الحمام بسبب ودون سبب
جرت العادة أن تقدم وجبة العشاء عند الغروب ،أي نحو الساعة السابعة
دق العسكري الباب بقوة وصاح : (العشاء ، العشاء) فاستيقظ الموقوفون وذهبوا لأخذ عشاءهم
أخذت وعائي وذهبت معهم ، لكن دون أدنى رغبة في الأكل ،وقد لاحظ ذلك كل من مكرم وحافظ فضحكا وهما يأكلان، وطلبا مني أن آكل لأن أمامنا مهمة صعبة تحتاج إلى طاقة
بعد أن فرغ الجميع من العشاء أخبرت سائر الموقوفين العرب بأننا نعتزم الهرب ثم أخبرت المساجين اليهود طالبا منهم كتمان السر عن المساجين العرب، وكان قصدي من ذلك عدم تعريض العرب للعقاب عندما يجري التحقيق ،أما قصدي من إعلام اليهود فهو أن أحفزهم على الاشتراك معنا في ضرب الحراس إذا اقتضى الموقف ذلك ، وزعمت لهم بأننا نملك جوازات سفر مزورة وأن هناك سيارة تنتظرنا في الخارج وأننا سنسافر إلى أوروبا
بوحي بالسر للجميع جعلني متوترا أكثر ، فصرت أراقب تحركات كل الموقوفين خصوصا إذا اقترب أحدهم من الباب ، كما صرت أتحدث بعصبية مع مكرم وحافظ ثم أمسكت يد مكرم وأقسمت أنني سأكون غدا إما في غزة وإما في المستشفى، وإما في العالم الآخر،ولا يمكن أن أقضي هذه الليلة في السجن
شعرت بالراحة بعد هذا القسم، فقد أعلنت القرار وأكدته ، ولم يعد لدي مجال للتراجع أو التردد
اقتربت الساعة من السابعة والنصف ،فبدأ تنفيذ الخطة ، وخلاصة تلك الخطة أن نستدرج الحراس إلى فتح الباب ونكمن لهم خلفه لنقوم بمباغتتهم بالضرب ونفر بأقصى سرعة إلى الخارج مرورا بالباب الخارجي
طلبت من سجين يهودي هو أصغر المساجين سنا ، يدعى (شلومو) وهو في الخامسة عشر من العمر أن يدق الباب وأن يقول للحارس أن المساجين العرب أخذوا فراشه ،وفي الوقت نفسه رحنا نفتعل مع سائر المساجين ضجيجا يوهم بالعراك، فعل شلومو ما طلبته منه ،وحين نظر الحارس من طاقة الباب ، طلب من الفتى السجين أن ينتظر قليلا حتى يستدعي زملاءه لفتح الباب
كانت تقاليد فتح الباب تقضي بوجود قوة لا تقل عن ثلاثة حراس ليدخل اثنان منهما فقط ، ويبقى الثالث الذي يكون مسلحا خارج الباب للحراسة
استدعى الحارس زملاءه ،وفي هذه اللحظة وحسب الخطة ،دخل مكرم وحافظ مصالحة إلى الحمام المقابل للباب الحديدي ،بينما كمنت أنا خلف الباب مباشرة وتحت النافذة بحيث لا يستطيع الحارس أن يراني عند فتحها ،انتظرت في موقعي وشعرت بأن الوقت يمر في بطء شديد فضربت الباب برجلي ،فصاح الحارس! لحظة ، نحن قادمون ، لا تطرقوا الباب
سمعت وقع أقدام تتجه نحونا ، ثم فتح الباب بالمفتاح، وبعد ذلك فتح القفل
عندما سمعت فتح القفل وقفت ودفعت الباب بقوة ، ولأن الباب من حديد فقد توقعت أن يسقط كل من يقف خلفه ، لكني فوجئت به ينفتح بسهولة وأسقطني الاندفاع في حضن الشاويش، ولحسن الحظ أنه كان كهلا قصيرا أصلع
في هذه اللحظة ظهر مكرم من ورائي وضرب الشاويش الأصلع على رأسه فأسقطه على الأرض ،بينما قمت بضرب العسكري الذي يحمل السلاح فسقط على الأرض كذلك ،ثم ضربت العسكري الثالث
كان هذا العراك يجري أمام الحراس الجالسين في النظارة ،وعندما صاح الحارس:(شرطة ،شرطة) انطلقت صفارات الإنذار ،فاتجه الحراس نحونا يحملون مسدساتهم فقط، فاشتبكنا معهم بالأيدي ، وحسب تعليمات الخطة كنا نتفادى التماسك معهم لنختصر الوقت مدركين أن سلاحنا الوحيد هو عنصر المباغتة واختصار الوقت ومغادرة السجن قبل أن يفيقوا من ذهولهم ويجتمعوا حولنا
استعملنا في الاشتباك الكراسي وكل الأشياء الموجودة في النظارة ، ونظرا لجرح اثنين من الحراس ، وارتفاع صراخهما ، ونزيف دمائهما ، فقد ساد المكان جو من الذعر والفوضى ، وانتقلت المعركة إلى ساحة السجن حيث جاء بعض الحراس بالبيجامات
انطلق مكرم إلى الباب الخارجي للسجن وكان أمامه رجل مسلح، وعندما رأى مكرم متجها إليه حاول إطلاق النار من رشاشه ، وكنت أجري خلف مكرم فصرخت في الحارس فابتعد ،فانطلقت مسرعا خلف مكرم، فتناول حجرا ليقذفني به معتقدا أنني من الحراس ، فصرخت به وقلت : حمزة ، حمزة
عندما صرنا على بعد مائة متر من مبنى السجن بدأ إطلاق النار بشكل كثيف وعشوائي ، لكننا واصلنا الجري نحو البيارة التي تقع على بعد مائتي متر من ذلك المبنى الكريه ، وكان حافظ قد سبقنا إلى البيارة فناديناه وانطلقنا ثلاثتنا في اتجاه غزة
قررنا أن نسلك طريقا وعرة تجعل ملاحقتنا بالسيارة صعبة ، بل مستحيلة
كنا نعرف أنهم سيلاحقوننا بالجيش وحرس الحدود والشرطة مع كلاب الأثر ، لذلك تعمدنا أن نسير قرب البحر لندخل فيه إذا تمكنوا من اللحاق بنا ، ذلك لأن ملاحقتنا بقوة بحرية يتطلب منهم وقتا طويلا
مكرم يجيد السباحة مثلي ، وكان اشترك في قطع بحيرة طبريا عام 1962 م ، وواصلنا السير بسرعة ولم نصادف ما توقعناه من مطاردات ومفاجآت
بعد أربع ساعات من الهروب وصلنا غزة في منتصف الليل
على مشارف غزة ،و قريبا من الحدود توجد نقطة للفدائيين ، ذهبنا إليها فاستقبلنا الفدائيون ثم نقلونا إلى بيت في غزة تابع للمخابرات المصرية ، مكثنا في هذا البيت 45 يوما دون أن نغادره
عقد الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) جلسة لبحث هروبنا ومساءلة الحكومة كيف تمكن ثلاثة مساجين أمنيين عزل من الهرب أمام أعين الحراس المسلحين؟! وكيف قطعوا مسافة 24 كيلومترا دون أن يلقى القبض عليهم؟! إثر ذلك جرى التحقيق مع العاملين في سجن عسقلان ،وأسفر عن طرد مدير السجن ونائبه وأربعة من الحراس، وحسب المعلومات التي وصلت إلينا من الصحف الإسرائيلية ، فقد نقل ستة من الحراس إلى المستشفى بسبب الجروح والكسور التي أصيبوا بها خلال الاشتباك معنا
هذا الخبر نشرته الصحافة الإسرائيلية نقلا عن أجهزة الأمن
كتبت جريدة معاريف في اليوم التالي لهروبنا ؛ أي في 18/04/1964 :(هرب ثلاثة مساجين أمنيين من سجن عسقلان، وقام رجال الجيش وحرس الحدود بمطاردتهم مع 152 شرطيا معهم كلاب الأثر)، ونشرت الجريدة إلى جانب هذا الخبر رسما كاريكاتيريا يبين أن الكلاب عادت خائبة وأن الهاربين وصلوا سالمين
أما جريدة يديعوت أحرينوت فقد كتبت عن عراكنا مع حراس السجن وكيف أن ثلاثة مساجين عزل تمكنوا من جرح ستة حراس مسلحين نقلوا إلى المستشفى ، ونشرت الصحيفة إلى جانب الخبر رسما كاريكاتيريا ، يظهر مدير السجن وهو برتبة مقدم ساقطا على الأرض، وأن عربيا يمر من فوقه قائلا له : ( عن إذنك .. أنا ذاهب إلى غزة )
وبعد مدة تناولت موضوع هروبنا جريدة هاآرتس بمقال عرفنا منه أن المساجين الذين كنا معهم في نظارة التوقيف، عوقبوا بزيادة ستة أشهر سجنا إلى عقوباتهم الأساسية بتهمة التستر على هروبنا
وعلى الرغم من أن المخابرات المصرية تابعت كل ما نشر عن هروبنا ، فقد ظلت تشك في صدقنا وتحتمل أن يكون هروبنا مجرد سيناريو دبرته المخابرات الإسرائيلية
لذلك مكثنا شهرا ونصف الشهر في تلك الفيلا تحت التحفظ، كما أن معاملة ضباط المخابرات لنا ظلت لمدة غير قصيرة تتصف بالشك والصلافة وقلة الاحترام
وقد انزعجنا وتأسفنا كثيرا لهذه المعاملة ؛ لأننا كنا نكن للزعيم عبر الناصر حبا وتقديرا غير محدودين ، إلا أنني بعد ذلك أدركت أن تصرف المخابرات المصرية تجاهنا وشكهم في هروبنا يجب أن يتفهما جيدا بل يجب أن يقدرا أيضا
الفصل الثالث
حياتي في غزة
غزة ، أول مدينة عربية فلسطينية أزورها خارج ظل الاحتلال.
لاحظت خلال مدة قصيرة أن دخل الفرد فيها أقل بكثير مما هو في إسرائيل ، وأنها مختلفة نسبيا في كافة المجالات الحيوية ، ولا سيما مجال الري والزراعة، حيث لاحظت أن هذا المجال ما زال تقليديا في حين أن تقدمه هناك من أكثر ما يشد الانتباه
ومرد ذلك إلى أن إسرائيل تتابع تطور التقنيات الزراعية في العالم وتنقل ما تراه مناسبا ، ولا شك أن المسؤولين في الدول العربية كانوا يتابعون التطورات كغيرهم ، لكنهم لم يستفيدوا منها بالدرجة نفسها لأن مواقع المسؤولية – كما عرفت لاحقا – تخضع لاعتبارات غير موضوعية ، بينما لا تخضع إسرائيل إلا للكفاءة والمثابرة
ثمة حقائق عدة صدمتني ، غير أن أكثرها مرارة يتعلق بنظرة بعض المصريين والعرب عموما إلى الفلسطينيين ، وخاصة من بقي منهم في فلسطين المحتلة ؛فقد لمست أن أصابع الاتهام بالعمالة تشير إليهم ، كما لمست أن عموم الفلسطينيين ليسوا في موضع ارتياح في العديد من الساحات والحالات ، بل هناك من يضعهم ضمن دائرة الشبهة
ومع أن ما مورس عليّ من اضطهاد وتمييز من طرف اليهود، جعلني مناهضا للعنصرية منذ الصغر، فإن النظرة المصرية والعربية للفلسطينيين أزعجتني ، بل صدمتني كثيرا علما بأن معظم الشعب العربي الفلسطيني ، وخصوصا داخل الأرض المحتلة ، يحب الرئيس عبد الناصر حبا مطلقا
ظلت المخابرات المصرية – لفترة غير قصيرة – تنظر إلينا على أننا جواسيس جئنا مدفوعين من طرف اليهود ! كانت عيونهم تلاحقنا في كل مكان، وكانت نظراتهم تتجاوز الشك إلى ما يشبه الاتهام ، مما جعل فرحتنا بالهروب تتبخر سريعا؛
فقد كنا نتصور أن إخواننا العرب سيستقبلوننا استقبال الأبطال لأننا خرقنا أسطورة الأمن الإسرائيلي ، كما وصفنا في وقت لاحق مدير المخابرات المصرية
وكما ذكرت آنفا ، فإنني أدرك الآن وأتفهم جيدا موقف المخابرات المصرية في أول الأمر، لكنني في الوقت نفسه أعتقد أنهم بالغوا كثيرا في شكهم وارتيابهم
لقد كنت أعيش بقدر من السعادة ؛فأنا بطل في الملاكمة ، كما أنني مدرب مشهور في السباحة ، ومرشد معروف للشباب اليساري
لم يكن يمر شهر دون أن تذكرني وسائل الإعلام ، ناقلة بعض أخباري ، وها أنا الآن أجد معاملة غير لائقة من طرف الضباط المصريين
لقد عانيت ما عانيت من عنصرية الصهاينة ، لكن ما عانيته من طرف إخواني العرب هو أشد وطأة بكثير؛ فظلم ذوي القربى أشد مضاضة كما قال الشاعر العربي
فرض علينا الوضع الجديد أن نخوض في السياسة باستمرار، ولم أكن تحت الاحتلال أقرأ من الجريدة إلا الصفحة الرياضية بعد المرور السريع على العناوين البارزة
كانت قضيتي بسيطة نسبيا عندما كنت في بلدي وقريبا من أهلي ، والآن لم يعد في إمكاني أن أرى الأهل والوطن إلا عندما ينتصر العرب على إسرائيل
فرضت الظروف علينا أن نعمل مع المخابرات المصرية ..كنا مكرم وأنا نترجم نشرات الأخبار والصحف ، والمكالمات اللاسلكية
كنا كالغرباء بين الموظفين المصريين ، وكان أهل غزة لا يرتاحون إلينا لكوننا نعمل مع المخابرات ، وهكذا لم نكن نتعامل أو نتحادث إلا مع الذين هربوا مثلنا وكانوا متزوجين وتمكنوا من التكيف مع الوضع الجديد
وحين كنا نلتقي نتذمر من الواقع المؤلم الذي نعيشه وما يطفو على سطحه من مظاهر ومشاكل حياتية
إن أغلب شباب القطاع ذكورا وإناثا متعلمون وهذه ميزة هامة يفتقر إليها الشباب العربي في الأرض المحتلة ، حيث لم يكن مجموع المدارس الثانوية العربية هناك يزيد على أربع ثانويات ، وأما الذين تمكنوا من الدراسة الجامعية فلم يزد عددهم حتى عام 1964 عن 75 طالبا
هذان الرقمان يدلان بوضوح على سياسة التجهيل التي مارسها الاحتلال تجاه العرب رغم تعطشهم للعلم ورغبتهم فيه ، ولا أدل على ذلك من أن أهالي عارة وعرعرة – على سبيل المثال قاموا ببناء مدرسة كبيرة بين القريتين المتجاورتين، لتمكين أبنائهم وبناتهم من مواصلة الدراسة حتى الصف الثامن
وعلى الرغم من اتصاف الأهالي بالمحافظة الشديدة ، فقد سمحوا بأن يكون التعليم في هذه المدرسة مختلطا، أي يجمع الذكور والإناث ، وقد تم هذا من قبل المحتلين
ومما يزيد سياسة التجهيل وضوحا ، أن الجرائد العربية – على قلتها آنذاك – كانت ضعيفة المستوى شكلا ومضمونا ، وكانت هذه الجرائد تحت إشراف دولة الاحتلال ، وتحديدا جهاز المخابرات
أما أهداف هذه السياسة ، فتتجلى على الخصوص في تأهيل الشباب اليهودي للمناصب القيادية ، وتحويل الشباب العربي إلى مجرد أيد عاملة
وتحقق ذلك بعد مصادرة مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية العربية بحجج واهية ، كالضرورة الأمنية
كانت أراضي عارة وعرعرة نحو 45 ألف دونم ، وصارت بعد المصادرات 15 ألف دونم ، فقط بما في ذلك المساحة السكانية
والنتيجة المباشرة لهذه السياسة ، تحويل الفلاحين العرب إلى عمال، يهجرون بقايا أرضهم ، ويعملون لدى اليهود لأن ما يتقاضونه كأجور شهرية أكثر بكثير من العائدات المحتملة من زراعة أرضهم ؟
هذا مجرد مثل أو صورة مصغرة لما حدث ويحدث في قرى فلسطين تحت الاحتلال ،حيث تصادر الأراضي الزراعية بأمر من الحاكم العسكري ، وتحاط بأسلاك شائكة ، وتزرع بالألغام لمنع أصحابها من الدخول إليها ، وكثيرا ما انفجرت الألغام وقتلت أصحاب الأرض الذين كانوا يغامرون ويتسللون إلى أراضيهم التي حولها الحاكم العسكري بجرة قلم إلى ( مناطق عسكرية محظورة)
مجمل هذه الظروف دفع الشباب العربي إلى القبول بأي عمل يعرض عليهم في المدن ، خصوصا وأن القانون الإسرائيلي يشترط في الراغبين في العمل أن يكونوا أعضاء في ( الهستدروت) أي نقابات العمال ، وعضوية هذه النقابات تشترط أن يكون المنتسب إليها يهوديا
هذا يعني بوضوح أن العرب ممنوعون من العمل بموجب القانون ، وأن ما حصل ويحصل عليه العرب من فرص العمل في أشغال معينة، تمثل حالة استثنائية خارج القاعدة
إن الحاجة للعمال العرب جعلت السلطات الإسرائيلية تصرف النظر جزئيا ، أو بصفة مؤقتة عن مخالفة القانون ، حيث صار العرب يعملون بموجب تصاريح مؤقتة، لا في إطار قانوني
هكذا كان حال الفلسطينيين تحت الاحتلال ،وعندما احتلت (إسرائيل) الضفة والقطاع عام 1967 م ، تقابل فلسطينيو العمق مع أهالي الضفة والقطاع ، وأثّر ذلك إيجابيا على أهالي العمق حيث اتجهوا إلى العلم
أما أنا فقد كنت أعشق العلم ، وعندما كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف غزة خلال حرب الأيام الستة ، كنت في قاعة الامتحان ، وفي اليوم التالي طالني القصف بجروح ، فذهبت إلى مصر للعلاج
وهناك قررت أن أتابع دراستي لدخول الجامعة ، وكان ذلك يقتضينني الحصول على الثانوية العامة أولا ، فالتحقت بثانوية السعديات في القاهرة
وحين ذهبت إلى لبنان التحقت بجامعة بيروت العربية وهي أول مؤسسة علمية تشرف عليها منظمة التحرير
كنت أرغب في دراسة الحقوق أو علم النفس ؛ لأن مطالعتي الخاصة هيأتني للسير في هذا الاتجاه ، لكنني سجلت في كلية الهندسة المدنية ، وأعترف علانية بأننا كنا نحصل على الإجابة قبل أن نفرغ من قراءة الأسئلة ! وكأن المراقبين كانوا مأمورين بأن ننجح ، أو أنهم كانوا يعتبرون خيانة الضمير المهني عملا وطنيا ! ولعل بعضهم كان يخاف من معارضة الفدائيين
وعندما شاع وذاع ما كان يجري في تلك الجامعة ، حجبت عنها الثقة من طرف الدول العربية التي لم تعد تعترف بشهادات جامعة بيروت العربية ، الأمر الذي أفقد منظمة التحرير مكسبا هاما ضاع كما ضاعت مكاسب أخرى عديدة بفعل التصرفات الخاطئة
أثناء الفترة التي قضياها في غزة ، وتحت شعور حاد بالوحدة ، حيث لا أهل ولا أصدقاء ، كنت أتساءل : هل يمكن أن أعود إلى أهلي وقريتي؟ أدركت أن ذلك لا يتحقق إلا إذا انتصر العرب على على إسرائيل
كنت أحب الزعيم عبد الناصر وأثق فيه ، على الرغم من مواقف فصائل المقاومة ومنها فتح
* * *
ذات يوم كنت جالسا في مقهى أمام السرايا ، وفجأة تقدم إلي بعض الشبان طالبين مني أن أترجم لهم بعض السطور من العبرية إلى العربية ، فذهبت معهم إلى بيت أحدهم ، وهناك عرفت أنهم ينتمون إلى حركة فتح التي كانت آنذاك موضع تساؤلات وملاحقات من طرف المخابرات المصرية
ترجمت السطور التي قدموها إلي ثم سألتهم هل تعرفون أين أعمل؟!
فأجابوا : نعم أنت تعمل مع المخابرات ؟ فقلت تعرفون ذلك وتكشفون لي هويتكم السياسية ؟! فقالوا : فعلنا ذلك لأننا تعرفك جيدا؟ تأثرت بفكرتكم الحسنة عني ، لكن طريقتكم لم تعجبني ؛لأنني كنت أرى أن طبيعة العمل الوطني الفلسطيني في ظل الأوضاع المتردية ، والعلاقات المتنافرة ، تتطلب درجة عالية من السرية والحذر ؟ إلا أن الشباب لم يلبثوا أن عرضوا علي الانضمام إلى فتح
وعلى الرغم مما عانيته فقد كان الذي يعارض عبد الناصر يعتبر في نظري خائنا حتى ولو كان فلسطينيا ، لكن صدمة حزيران فرضت علي قناعات مختلفة ، منها ضرورة أن يتحرر الفلسطينيون من الروح الاتكالية ، وأن يكونوا سباقين إلى الكفاح والتضحية
لذلك رفضت توقيع العقد الذي عرضته المخابرات المصرية علي وعلى ابن عمي مكرم بعد أن تغيرت نظرة التحفظ ، وصرنا موضع ثقة الضباط المصريين
كانت صيغة العقد تنص على الالتزام بالعمل لمدة عشر سنوات قابلة للتجديد ، وقبل أن يتم مدير مكتب المخابرات عرضه ، قلت له : أنا لا أصلح للعمل معكم ؛لأنني لا أحب هذه المهنة ، فقال بلهجة صارمة
لا بد لكما من قبول العمل معنا وفق شروط العقد ؟ فأجبته
إنني لم أتعود على حمل المسؤولية ، ولو خيرتني بيت العمل كسائق وحجار يكسر الحجارة ، لاخترت العمل الثاني ،لأنني في حالة الخطأ ،أتضرر وحدي ، فأكسر رجلي أو يدي ، لكن في الحالة الثانية ، أي في حالة حمل المسؤولية ولو كسائق فإن ما ينتج عن الخطأ قد يعود بالضرر على غيري
لم أكن أكذب في ما قلت تهربا من ذلك العقد ، بل كنت أعبر عن نفسي بصدق، ومع أنني أدركت في وقت لاحق ضرورة عمل المخابرات وأهميته في العمل الوطني ، فإنني ظللت على قناعتي بأن طبيعة هذا العمل تقتضي استعدادات نفسية ، وملكات معينة ، وبالتالي فإن من غير المنطقي أن يعرض العمل في هذا الجهاز على غير المهيئين أو المؤهلين فطريا له .
بقلم الكاتب الفلسطيني / حمزة إبراهيم يونس