من بدهيات الأنظمة الديمقراطية الفصل بين السلطات الثلاث؛ التشريعية التنفيذية والقضائية، إلا أن واقع الحال في إسرائيل مغاير، إذ أضيفت نقطة على حرف (الصاد) في كلمة "فصل" وأصبح حالها "فضل"، أي "فضل السلطات الثلاث"، وهو ما يعكس تكريس السلطات الثلاث من أجل المحافظة على المشروع الصهيوني بأبعاده المختلفة.
سأتحدث في مقالي هذا عن قرار المحكمة العليا الإسرائيلية الذي تناول قضية دعوات التحقيق و"الدردشة" التي ينفذها الشاباك بواسطة الشرطة، وعليه تطرح حدود صلاحيات جهاز الأمن العام – الشاباك (وهو ما يسمى أحيانا "الشين بيت" اختصارا للكلمات שירות ביטחון)، وهو مؤسسة أمنية كانت حتى سنة 2002 تابعة لمكتب رئيس الحكومة، ولم يكن لها غطاء قانوني محدد، ما أحاطها بهالة من السرية والغموض.
في سنة 2002 صدر قانون الشاباك، الذي حدد صلاحيات هذا الجسم ، وأهدافه ومجالات عمله بصورة أو بأخرى، وخاصة في البندين 7 و 8 للقانون، حيث أعطي رجال الأمن العام صلاحيات مشابهة لرجال ومحققي الشرطة، مع صلاحيات إضافية تتعلق بخصوصية عمل هذا الجسم. ونورد هنا أهم ما جاء فيهما:
البند 7: جهاز الأمن العام موكل بالحفاظ على أمن الدولة، وعلى أسس النظام الديمقراطي ومؤسساته، من تهديدات إرهابية،و تخريب، وتواطؤ، وتجسس وإفشاء أسرار الدولة. كما يعمل الجهاز على دعم أهداف مؤسساتية مهمة أخرى للأمن القومي للدولة والحفاظ عليها، وكل ذلك وفق قرارات الحكومة ووفق القانون.
أما بخصوص البند 8: يعرّف هذا البند صلاحيات الجهاز في جمع المعلومات والتحقيق في الجرائم، كما يعطي هذا البند صلاحية خاصة لإجراء التحقيقات، بهدف منع مخالفات مستقبلية في موضوعين، الأول: أمن الدولة ونظامها الديمقراطي ومؤسسات هذا النظام. والثاني: في مجالات تحددها الحكومة بقرار منها، تراها هامة للحفاظ على الأمن القومي.
إن المخالفات الجنائية الخفيفة عادة ما يوكل التحقيق فيها إلى الشرطة، وليس إلى الشاباك، ويدخل الشاباك إلى الصورة في حالتين:
الأولى وهي المخالفات الجنائية الأمنية، وعندها يعتقل المشتبه به ويمنع من الالتقاء بمحام، ويحتجز في معتقلات خاصة بالشاباك، ومنها وأشهرها معتقل "بيتح تكفا"، ومنها معتقل "كيشون" في حيفا، ومنها معتقل "أشكلون"، وكذلك معتقل "المسكوبية" في القدس وغيرها.
الثانية تتعلق عادة بالإخلال بمفاهيم أمنية لأفراد أو لمجموعات لا ترقى إلى حد المخالفة الجنائية، فيعمل الشاباك على بحثها والتحقيق فيها، لأن الشاباك ينظر للأمن من زاوية واسعة؛ أي ضمن مفاهيم أوسع من مفاهيم القانون الجنائي, وهذا النوع من التحقيقات عادة ما يجرى في مرافق خاصة محاذية لمراكز الشرطة، وخاصة محطات الشرطة الرئيسية، ومنها محطة القشلة في الناصرة ومحطة مسغاف ومحطة عيرون في وادي عارة، ومحطة الشرطة في حيفا وغيرها كثير.
وعليه، وبخصوص فهم واسع وفضفاض لصلاحيات الشاباك "يدعو" ناشطين وأشخاصا غير مشتبه بهم بمخالفات قانونية، ويجري تهديدهم و/أو إغراؤهم للعمل مع الشاباك و/أو الحصول على معلومات تخصه أو تخص أي إطار أو مجموعة له علاقة بها، أو يشتبه أن له علاقة بها.
لطالما قلنا سابقا في قراءتنا لقانون الشاباك إنه يتخذ إجراءات لا تعتمد إلى سند قانوني واضح، وتفسيره باطل، وعليه أن يتوقف عن هذه "الدعوات". وقد اقترحنا عدة خطوات لمجابهة هذه التحقيقات؛ منها حراك جماهيري شعبي يتمثل بوقفات احتجاجية أمام مراكز الشرطة والشاباك التي تحقق مع الناشطين خلال مثولهم للتحقيق، كون الشاباك يفضل العمل خلف الكواليس وفي العتمة، ولا يريد فضح عمله وأدوات وآليات أوامر التحقيق السرية، التي يعمل وفقها.
ثم إن الالتماس أمام العليا، التي قدمته جمعية حقوق المواطن عام 2013 كشف العلاقة الحميمة بين العليا وبين الشاباك خلف الكواليس، وما أدراك ما خلف الكواليس من "دردشة"!! وهذا ما كشفه قرار العليا بعد مرور أربع سنوات من تقديم الالتماس، حيث تبين أن الشاباك كان يراسل العليا دون إطلاع الطرف الآخر الملتمس، عن المكاتبات، بل إن هناك عدة جلسات عقدت دون حضور الملتمس، وكل ذلك تحت رهبة السرية والخطر على أمن الدولة.
خلال المداولات اهتم الشاباك بإبراز غطاء الرهبة والخطر والتهديدات الأمنية والسرية وأعداء الدولة، وبرر سنده لتفسير البند المتعلق بالتحقيقات مع الأشخاص دون توجيه أية مخالفة، أنهم يبحثون عن الذين يتربصون بمؤسسات الدولة ويتواطؤون للمساس بأمنها، وهو إجراء تنبيه أولي قبل ارتكاب مخالفة، فيه توازن بين المساس بحقوق فردية من اعتقال وتحقيق تحت الإنذار، وبين التنبيه الأوّلي دون اعتقال على حد قولهم، كون مصطلح "التواطؤ" غير مفسر في القانون، ويفهم في عدة مساقات، وهم يحققون في التواطؤ القريب من النشاطات التي من الممكن أن يكون فيها إخلال بالأمن والنظام العام.
في نهاية المطاف توصل القضاة إلى وضع ملاحظات على أوامر التعليمات الداخلية لجهاز الشاباك المعمول به حتى الآن، وكذلك على مسودة أوامر التعليمات الجديدة التي أعدت خلال الالتماس بين الشاباك والشرطة فيما يخص التحقيقات، وهذه الأوامر سرية لا تنشر. ومن أهم ملاحظات القضاة:
أنه في دعوة شخص جل نشاطه تواطؤ لا يشملها إرهاب أو تجسس ينفذ بعد استشارة مع المستشار القضائي للشاباك، والذي يقدم موقفه من احتمال المساس بحقوق المدعو، وإجراء توازن بين المساس الفردي الخاص وبين المصلحة الأمنية.
وبعد الحصول على موافقة المستشار القضائي للشاباك بإجراء "التحقيق" المطلوب، يبلغ الشخص؛ سواء عن طريق دعوة الشرطة أو المخابرات (الشاباك) أن هذه التحقيق هو "تطوعي"، أي أن الشخص غير ملزم بالمثول إليه، كما أن الدعوة لا يكتب عليها "دعوة لتحقيق"، كما كان متبعا، وإنما يكتب بشكل واضح بمصطلح أنه "ليس تحقيقا".
كما يجب أن يوضح للذي يُحقَّق معه خلال المحادثة بما أنه ليس مشتبها به، أو يحقق معه تحت الإنذار، فإن كلامه الذي يقوله لا يمكن استعماله في المحكمة.
قرار العليا كان فيه نوع من الاستحياء لإيجاد التوازن بين الحقوق الفردية التي يصونها قانون أساس كرامة الإنسان وحريته وبين صلاحيات الشاباك الفضفاضة، التي نرى فيها مساسا صارخا بحرية التعبير عن الرأي بملاحقة الأشخاص على نشاطهم وحراكهم الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي والثقافي، بهدف مراقبة كل شيء، وكأننا ما زلنا نعيش واقع الحاكم العسكري.
فصلاحيات الحاكم العسكري يمارس اليوم من قبل السلطات الثلاث؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية وعلاقة "الفضل" بينهما متينة تسير بتناسق في بناء السياسات؛ إقرارها وتنفيذها ومنحها الغطاء القانوني.
الخلاصة بخصوص قرار العليا أنه في هذه المرحلة فإن التحقيقات ليست تحقيقات حقيقية، ولا تقبل في المحاكم. والأهم أن الشخص الذي يدعى للقاء أو استجواب، أو سمه ما شئت، مع المخابرات، لك الحق بعدم المثول لها وفقا لقرار الحكمة العليا. على ارض الواقع ما زال الشاباك يمارس ذات السياسات، واستند هنا ل "دعوة" وصلت لشاب من الشمال للمثول في محطة شرطة عكا خلال كتابتي لهذه الاسطر، تواصلت مع شرطة عكا لكي يقوموا بدورهم بإبلاغ الشاباك ان موكلي لا يعتزم المثول للدعوة وانه كان لزاما عليهم الالتزام بقرار العليا، لعله هذا الاجراء جس نبض للشارع وللجمهور في كيفية تعامل الناشطين مع سياسات التحقيقات المخابراتية ، بكل الاحوال سيكون هناك جولة اخرى "للدردشة" بين العليا والشاباك.
المحامي عمر خمايسي- مدير مؤسسة "ميزان" لحقوق الإنسان