(47) عاما على اعتقال أبي الذي تعلمت منه أبجديات النضال ومفردات السجن

بقلم: عبد الناصر فروانة

   في مثل هذا اليوم، وقبل سبع وأربعين سنة اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي والدي، فعرفت السجون من يومها، وحفظت مفرداتها، ومن ذاك اليوم والصورة بكل ملامحها وتفاصيلها عالقة في ذهني وماثلة أمام ناظري، تُلازمني وتُصر على البقاء والتجذر عميقاً في الذاكرة وترفض الرحيل الأبدي، أو حتى لمجرد المغادرة المؤقتة.

 

ومخطئ من يعتقد أن مرور السنون والعقود يمكن أن تمحو صورة قاسية انطَبعت في ذهن طفل تعرض لحادث يفوق قدرته على التحمل، وما يصطلح على تسميته بـ (الصدمة)، والصدمات النفسية في الصغر لا تُمحى. تلك التي عادة ما تكون ناتجة عن أحداث مؤلمة بشكل كبير مرّ بها الطفل نفسه أو تعرض لها شخصياً، وقد تكون نتيجة مراقبة لأحداث كبيرة شاهدها الطفل أو راقبها. هذا ما حدث معي، وهذه حكاية اسرتي مع السجن الإسرائيلي.

 

حكاية، بدأت فصولها باقتحام قوات الاحتلال لبيتنا الصغير في منتصف ليلة الثالث من آذار/مارس 1970، لغرض ارهابنا وتخويفنا، بل وبث الرعب لدى كل المحيطين بنا، وكنت حينها صغيرا جداً ولم يكن عمري قد تجاوز الثلاث سنوات، وكنت أهجي حروف اللغة العربية، ولم أكن قد تعلمت بعد أبجديات الاحتلال، ومع بزوغ الشمس حملتني أمي في حضنها وبين ذراعيها وأخذت تنقلني رغما عنها بين السجون حيثما يكون الأب متواجداً، وتردد أمام مسامعي اسمائها، فذاك المشهد وتلك الأحداث المتعاقبة دفعتني لحفظ مفردات الاعتقال والسجن قبل أن أجيد تعلم حروف اللغة، واستمر هذا الحال لأكثر من خمسة عشر عاما متواصلة، فتعلمت من أبي النضال ومن أمي الصبر، إلى أن كبرت واندفعت مبكرا في مقاومة الاحتلال، فتذوقت مرارة السجن بجسدي، بعدما رأيته على جسد أبي ومن ثم على جسد أخي وأقربائي.

 

في مثل هذا اليوم بدأت معرفتي بالسجون الإسرائيلية، حينما اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي والدي - أدام الله له الصحة والعافية وأطال عمره - ، بتهمة الانتماء لـ "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ومقاومة الاحتلال، وزجت به في سجونها لأكثر من خمسة عشر عاماً متواصلة قبل أن يتحرر دون أن يكمل مدة محكوميته، وذلك في إطار صفقة التبادل الشهيرة عام 1985، التي تُعتبر الأكثر زخماً في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، و الأكثر روعة من بين عشرات عمليات التبادل التي نفذت على الصعيدين العربي والفلسطيني. وإذا كان التاريخ الفلسطيني يُسجل ذاك اليوم الذي أنجزت فيه الصفقة بفخر وعزة، وهذا ما يجب أنه يؤرخه المؤرخون، فإن الذاكرة الشخصية تحفظه بسعادة منقطعة النظير، كيف لا ووالدي واحد من أولئك المحررين، وأن تلك الصفقة مكنتّني بعد غياب طويل من احتضانه دون قيود وبعيدا عن مراقبة الجنود في لقاء مفتوح  دون تحديد للوقت أو الزمن. وهي المرة الأولى التي أتذكر فيها احتضان والدي، الذي شكل لي على الدوام مفخرة ونموذجا يُحتذى، في المقاومة والنضال، وقدوة في الصمود والصبر والسلوك المثالي والأخلاق الحميدة والعلاقات الوطنية الواسعة، ومنه تعلمت ابجديات النضال وحفظت مفردات السجن.

 

وعلى الرغم من مرور (47) عاما على اعتقال والدي، وصغر سني حينذاك، إلا أنني لا زلت أذكر المشهد وأروي تفاصيله وطريقة اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي المدججين بالسلاح لبيتنا الصغير في تلك الليلة. ذاك البيت القديم الواقع في حي بني عامر بمحلة الدرج بغزة، والعبث بمحتوياته، وركلهم لنا ونحن نياما بأقدامهم وأعقاب بنادقهم، فاستيقظنا على وجوه الجنود المتوحشة، بالرغم من أن قوات الاحتلال كانت قد اعتقلت والدي من مكان عمله في حي التفاح شرق مدينة غزة في وقت سابق من نهار ذاك اليوم.

 

هذا المشهد لا يزال ماثلا في ذهني، ولم تستطع الأيام والعقود محوه أو إزالته، وهو ذاته وما أضيف له من مشاهد لاحقا جراء السجن والاعتقال، هو ما يدفعنا للالتصاق طواعية أكثر فأكثر بمقاومتنا المشروعة للاحتلال وقضايا الأسرى العادلة.

 

فيما الذاكرة لم تسعفني يوماً في استحضار الفترة التي سبقت اعتقاله، أو حتى استحضار دقائق معدودة وهو يداعبني خلالها، أو حتى لحظات محدودة وأنا في حضنه وهو يقود دراجته النارية التي نفذ من خلالها عملياته الفدائية ضد جنود الاحتلال. بل واستجديت الذاكرة مرارا لاستحضار مجرد مشهد واحد، أو حتى لصورة تجمعني به هنا أو هناك وهو يداعبني ويقبلني في طفولتي. ولكن شيئا مما تمنيناه لم يحدث ! .

 

فطفولتنا بدأت بمشهد اقتحام وتنكيل، واعتدنا على طريق المحاكم العسكرية قبل أن نعرف لرياض الأطفال طريقاً، وترددنا على السجون وحفظنا أسماءها قبل أن نحفظ أسماء مدارسنا، وجلسنا على شبك الزيارة قبل أن نجلس على مقاعد الدراسة، وحفظنا مفردات السجن والاعتقال قبل أن نتعلم حروف اللغة العربية، فأي مستقبل لطفولة كهذه يمكن أن تكون خارج نطاق الأسرى وقضاياهم العادلة ؟.

 

فكبرت وكبرت بداخلي قضية الأسرى، قبل أن أكبر وأتحول أنا الآخر بدوري إلى أسير لأربع مرات، لم يحدث لي ذلك فقط، ولم يحدث لأبي فحسب، بل حدث مثل ذلك لأخي الأصغر والوحيد جمال -الذي أبصر النور بعد اعتقال والدي ببضعة شهور- حين اعتُقل وهو في سن الطفولة وكان طالب في الصف العاشر لسنوات خمس متواصلة، قبل أن يتحرر ويُعاد اعتقاله للمرة الثانية ويمضى سنتين إضافيتين.

 

لقد اعتُقلنا سويا، وفي سجون متباعدة المسافة، ولسنوات طويلة، ولأي من القراء أن يتصور مدى معاناتنا ومعاناة والدينا، فبعدما كنا نتنقل برفقة الوالدة، لزيارة الوالد في هذا السجن أو ذاك، أصبحت الوالدة تتنقل بصحبة زوجها (والدنا) لزيارتي في هذا السجن تارة، وزيارة أخي في ذاك السجن تارة أخرى. فالأمور تغيرت وانقلب الحال، فالوالد الأسير أصبح زائراً، والصغار كبروا وأصبحوا أسرى، والسجون بقيت على حالها، والوالدة -أطال الله في عمرها- باتت تحفظ أسماء السجون ومواقعها. وكانت زائرة دائمة التردد على السجون طوال ربع قرن دون انقطاع.

 

وصدقاً وبدون مبالغة، كلما سمعت أو كتبت شيئاً عن الأسرى ومعاناتهم وأبنائهم، تذكرت تجربتي الشخصية، وحكاية عائلتي مع السجن، والتي تتشابك مع تجارب وحكايات مئات الآلاف من الفلسطينيين، والتي قد تكون تجربتنا أقل مرارة عشرات المرات من تجارب الآخرين، لهذا تجدني أشعر بالألم، وكلما شعرت بالألم، ازددت إصراراً على المضي قدماً نحو العمل والعطاء من أجل الأسرى وقضاياهم العادلة، فحياتنا يجب أن تُكرس لأجل حريتهم وسعادة أطفالهم، والسعادة لا تتوفر إلا في الحرية، والحرية تُنتزع ولا تُستجدى.

 

ومخطئة دولة الاحتلال الإسرائيلي إن اعتقدت أن تحقيق أمن واستقرار حدودها وسلامة مواطنيها سوف يتأتى عبر اعتقالها للمواطنين العُزل واستهدافها للأطفال الأبرياء. وتُخطئ الظن ان اعتقدت أيضا أن السنين بإمكانها أن تمحو الصورة من أذهان أولئك الأطفال الذين مرّوا بتجربة الاعتقال والسجن، أم أولئك الذين عانوا من تداعيات اعتقال أحد الوالدين أو كليهما. فلا هي نجحت في استئصال روح المقاومة لدى شعبنا في مواجهة احتلالها، ولا هي نجحت في القضاء على كره الأطفال لها، ولا هي حافظت على أمنها من خطر ما بعد بلوغهم.

ان جوهر الصراع يكمن في الاحتلال الإسرائيلي، ولا يمكن للفلسطيني أن يكون مسالماً مالم يكن حراً. إذ لا حياة مع الاحتلال. فليرحل الاحتلال عن أرضنا ولينعم شعبنا بالحرية وليعم السلام العادل والشامل في المنطقة.

 

 

بقلم / عبد الناصر عوني فروانة

رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى

3-3-2017