تدويلُ قطاع غزة حلٌ ممكنٌ وطرحٌ جادٌ

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

في الوقت الذي تعلو فيها أصوات طبول الحرب، ويثور فيه غبار الاستعداد للمعارك والتحضير للقتال، وترتفع درجة التوتر وتقترب ساعة الحسم والمواجهة، ويشتد الحصار ويلوح العدو مهدداً بالقوة والتدمير، ويتنافس المسؤولون في تصريحاتهم المتشددة، وتهديداتهم العنيفة، وتعميق مفاهيم الكراهية، وتكريس سياسة الهيمنة والاستعلاء، خاصةً بعد صدور تقرير مراقب الكيان حول نتائج عدوانه على قطاع غزة صيف العام 2014، والذي كشف بوضوح عن تعاظم قوة المقاومة الفلسطينية، وتزايد قدراتها العسكرية والأمنية، ونجاحها في تحقيق اختراقاتٍ نوعيةٍ، الأمر الذي جعل من استعادة هيبة جيش العدو أمراً ملحاً، ليحافظ على صورته، ويستعيد مكانته التي كانت له، والثقة الكبيرة التي كان يتمتع بها.
وبينما يتواصل حفر الأنفاق وتجهيزها وصيانتها وتسليحها، ويكثر الحديث عن التجارب الصاروخية الناجحة، والروبوتات القتالية المتطورة، والطائرات الذاتية التسيير الجديدة، وإدخال قوات الضفادع البشرية، واستخدام الكلاب الحربية، والمناورات الحية والتدريبات العالية الكفاءة، وغيرها من أسلحة الميدان ومفاجئات الزمان، وما لن يكشف عنه إلا في سوح القتال وأثناء المواجهة وعند الاشتباك، مما وطنت المقاومة نفسها عليه، لضمان صمودها، ومحاولة انتزاع النصر من عدوها، أو صده ومنعه من تحقيق أهدافه والوصول إلى غاياته.
تنشط في الخفاء ووراء الكواليس مطابخٌ خفيةٌ، سياسيةٌ وأمنيةٌ، ولجانٌ مختصةٌ، مشتركةٌ ومنفردةٌ، ودوليةٌ وإقليميةٌ، وعربيةٌ وغربيةٌ، تعمل ليل نهارٍ بجدٍ ونشاطٍ، وبمسؤوليةٍ واهتمام، تناقش فيها أوضاع قطاع غزة، وكيفية الخروج من أزماته المقبلة، وكوارثه المحققة، فهو في أساسه نارٌ ملتهبة، وأتونٌ يغلي كالمرجل، بما فيه من سلاحٍ وقوى، وأفكارٍ وتنظيماتٍ، فضلاً عن مستقبله المخيف، وغده المرعب، بالنظر إلى تعداد سكانه الذي فاق المليوني نسمة، وفقره المدقع، وحصاره الشديد، وعجز مائه وعطشه القاسي، وجفاف تربته وتملح جوفه، وتقلص مياه آباره وقلة منسوب أمطاره، ومعاناته المهولة بسبب انقطاع التيار الكهربائي، وتعطل كل المرافق والخدمات التي تقوم على الكهرباء، فضلاً عن حالة الركود والبطالة وجمود الأسواق وتعطل قطاع العمل والإنتاج، في ظل الحاجات المتزايدة للسكان بعد الدمار الهائل الذي أحدثته الحروب الثلاثة الأخيرة، التي تركت القطاع كله يباباً خراباً وقاعاً صفصفاً، أبنيته مهدمة، وشوارعه محفرة، ومؤسساته معطلة، ومصانعه متوقفة، ومعاملة مجمدة، وقطاعٌ من أبنائه كبير مصابٌ وفقيرٌ، ممنوعٌ من السفر، ومتعذرٌ عليه العلاج.
في ظل هذه الأوضاع المخيفة جداً والمتردية كثيراً في قطاع غزة، والتي تنذر بانفجارها في أي لحظة، وخروجها عن السيطرة، تخشى سلطات الاحتلال الإسرائيلي من النتائج السلبية للمزيدِ من الحصار والإحباط والعجز والضعف والحاجة والبطالة والجوع والحرمان والمعاناة والمرض، حيث تصلها تقارير مفصلة ومحدثة يومياً عن الحالة المزرية التي يعيشها سكان القطاع، الذين وصل كثيرٌ منهم إلى مرحلة اليأس التام من الذات الفلسطينية والمحيط العربي القريب والبعيد العاجزين عن تغيير الأوضاع والنهوض بالأحوال، فضلاً عن تقارير اللجان المستقلة ومؤسسات الأمم المتحدة، وسفراء الدول المعنية ومبعوثي السلام إلى المنطقة، التي تكاد تجمع على أن قطاع غزة يقف على برميل بارودٍ، وأنه قد ينفجر في أي لحظةٍ على محيطه ومن فيه.
وفي ظل حالة القلق التي يعيشها الإسرائيليون والمجتمع الدولي من احتمال غياب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بصورةٍ مفاجئة، وقد تجاوز عمره الثمانين عاماً، ولم يعين نائباً له في أي من المناصب العديدة والحساسة التي يرأسها ويمسك بها، حيث لا يوجد أي ترتيبات أو ضمانات تريحهم وتطمئنهم على الالتزام بالاتفاقيات، وحسن تنفيذ التعهدات، وهو الذي عجز بنفسه عن استعادة سلطته في قطاع غزة، ولا يبدو أنه سيكون قادراً فيما تبقى له من فترةٍ في حكمه أو عمره في إعادة بسط سلطته وحركة فتح على قطاع غزة، ويبدو أنه فقد الأمل إلى الأبد الأمل في استعادته إلى سلطته، أو إقصاء حركة حماس عن الواجهة السياسية، وإنهاء حكمها الفعلي وسيطرتها الأمنية والعسكرية على القطاع.
ومن جانبٍ آخر تخشى الحكومة الإسرائيلية من فشل أي حربٍ جديدةٍ على قطاع غزة في تحقيق أهدافها، ومنها إسقاط حركة حماس وتفكيك سلطتها، وإعادتها إلى كنف السلطة الفلسطينية من جديد، بعد سحب سلاح المقاومة وحل المجموعات العسكرية، فضلاً عن أن أي حربٍ قادمةٍ قد تزيد من قوة حركة حماس، وستزيد من حجم التعاطف الشعبي العربي معها، وستحرج الأنظمة العربية المتفاهمة مع الحكومة الإسرائيلية، والمؤيدة لها، وستؤدي إلى إظهار قوى المقاومة الفلسطينية وفي المقدمة منها كتائب الشهيد عز الدين القسام بمظهر الأبطال الصامدين، والرجال الشجعان المقاتلين، الذين حققوا ما عجزت الجيوش العربية مجتمعةً عن تحقيقه، فتكون بذلك رمزاً قومياً ومحط إعجاب الجمهور العربي بها، مما يعني عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه من التهديدات الحقيقية والمخاوف الجدية، وعودة القلق من جديد إلى مستوطنات القلب والشمال، فضلاً عن مستوطنات الغلاف والجوار، التي باتت جميعها تحت مرمى صواريخها المعدلة جديداً تصويباً وقدرةً تفجيرية.
كما تخشى حكومة الكيان الإسرائيلي من أن أي تدخلٍ طويل الأجل في قطاع غزة، بعد حربٍ عنيفةٍ، سيعيدها إلى قوة احتلال مسؤولة عن أمن وسلامة المواطنين في قطاع غزة، وتأمين حاجاتهم، والقيام بشؤونهم كلها أمام المجتمع الدولي، وهذا الأمر سيكلفها الكثير، وسيعيدها إلى المواجهة مرة أخرى، وهو ما سيكبدها خسائر كبيرة، وسيدخلها في استنزافٍ دموي طويل الأمد.
لهذا بدأت الحكومة الإسرائيلية بالسعي الجاد لدي صناع القرار في العالم لدفعهم إلى التوجه نحو تدويل قطاع غزة، وجلب قوات دولية برعاية الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، يكون من مهامها إلى جانب ضبط الأمن وخلق حالة من الاستقرار، محاولة إلزام حركة حماس والقوى الفلسطينية الأخرى في القطاع بعدم خرق الهدنة مع الجانب الإسرائيلي وعدم تهديد أمنه، وعدم القيام بإجراء تجارب عسكرية والتوقف عن عمليات تطوير الأسلحة وحفر الأنفاق وبناء المواقع العسكرية، ولا يعني أن البعض يرفض الحلول المطروحة، ويتحدى تطبيقها، ويبدي استعداده لمواجهتها، ويحرض الآخرين على رفضها، أن القائمين عليها سيخافون وسيترددون، وأنهم سيمتنعون عن المضي بها واستكمال البحث فيها، فقد يجد هذا المشروع من يؤيده عربياً وفلسطينياً، ومن يدعمه دولياً وإقليماً، ومن يستفيد منه محلياً وإسرائيلياً، فلنكن على حذرٍ مما يجري، ولننتبه لما يخطط، ولنقطع على المتآمرين الطريق بالوحدة والاتفاق، وإنهاء القطيعة والانقسام، والعودة إلى المقاومة والسلاح.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 4/3/2017
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]