أثار الانفتاح المصري على قطاع غزة مؤخراً جدلاً واسعاً ممزوجاً بترحاب عريض لدى جميع فئات الشعب الفلسطيني، وخاصة في قطاع غزة، حيث التعطش لأي جهد يرفع الحصار عنهم ويخفف من معاناتهم بات جزءاً جوهرياً من حياة الفلسطينيين وتطلعاتهم، لذا، فالدور المصري المرحب به الآن هو محط أنظار واهتمام الجميع، حيث هذا الدور المصري أيضا يقوم على تحدي الإرادة الإسرائيلية، مما وجب علينا توضيح ذلك.
من خلال قراءة متأنية و مستمرة للخطوات العملية التي نفذها مؤخراً الرئيس عبد الفتاح السيسي تجاه قطاع غزة، تتبدى أكثر معالم الرؤية الجديدة لديه، والتي يحاول الرجل من خلالها تفكيك الحصار المفروض على قطاع غزة، مما أثار حفيظة "إسرائيل" من سياسة الانفتاح على قطاع غزة، وإدخال البضائع الغذائية ومواد البناء، وعبرت "إسرائيل" عن قلقها عدة مرات، وزعمت بان ذلك يعمل على تقويض أمنها، حيث دأبت الأخيرة على إحكام الحصار و الخناق على الفلسطينيين، واعتقال الكثير عبر معبر "ايريز" الذي أصبح "مصيدة" لأي فلسطيني.
واتضحت صورة هذا الانفتاح المصري على قطاع غزة من خلال السماح للبضائع المصرية بدخول غزة، وزيادة التعاون التجاري الذي سيخفف من معاناة الغزيين، ويلبي كثيرا من احتياجاتهم الأساسية، وأيضا سيصب حتما في صالح الطرفين، حيث إدخال البضائع عن طريق مصر يقلل من اعتماد الفلسطينيين على المنتجات الإسرائيلية، ويقلل من نسبة التبعية لإسرائيل، ويفوت الفرصة على الأخيرة في تحصيل قيمة الضرائب، والتي ستحصل عليها مصر، وهذا يحسب لمصر ولرصيدها.
كما أن خروج الطلاب الفلسطينيين إلى الخارج لإكمال تعليمهم، يساهم في دعم المسيرة التعليمية والتنمية الثقافية، ورفع منسوب النضج والوعي الوطني الذي يساهم بلا ريب في دعم القضية الفلسطينية. وقد أظهرت التعليمات الصادرة مؤخراً عن الرئيس السيسي بفتح معبر رفح مرتين شهريا عن صدق التوجه، الذي يعزز هذه السياسة، ويدفع بالعلاقات إلى الأمام، وما قرار تطوير الصالة المصرية وتوسيع معبر رفح لزيادة سرعة العمل وزيادة حركة وعدد المسافرين إلا تتويجا لهذه الإستراتيجية البناءة، ومن خلال تحسين الاقتصاد عبر هذه السياسة تتم بشكل عملي محاصرة الفقر والتشدد في المنطقة، وتلقي هذه السياسة الانفتاحية بظلالها الايجابية على منطقة سيناء، التي من المتوقع أن تشهد ازدهاراً وتنمية وفرص عمل متنوعة، ستساهم حتماً في استقرار المنطقة وتأمين حدودها وضبط أمنها.
ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد أن هذه الرؤية المصرية تهدف إلى تنمية الحياة المدنية، وإقامة المشاريع الحياتية التي تخدم المواطن الغزي للحصول على احتياجاته دون معاناة، و هذا ما ينشده الفلسطيني ويريد تحقيقه. وان التزام أجهزة الأمن في غزة بضبط الحدود مع مصر، والمحافظة على امن مصر من خطر المتشددين والمتطرفين يصب مباشرة في صالح مصر و الشعب الفلسطيني بغزة، وفي صالح أمنهم واقتصادهم، وهذا ما أنجزته الأجهزة الأمنية في غزة على مدار السنوات الماضية.
وهذه السياسة المصرية يجب أن تلقى دعما من جميع الفصائل الفلسطينية، لان مصر بثقلها وتأثيرها ودورها هي السبيل لتوحيد الفصائل وإنهاء الخلافات الفلسطينية البينية، فلا تستطيع أي دولة أخرى أن تكون بديلا عن الدور المصري، وذلك نظرا لشعور مصر التاريخي بعظم مسئوليتها تجاه القضية الفلسطينية، وبحكم عامل الجغرافيا الذي يساعد مصر في دعم القضية الفلسطينية بشكل مباشر.
إن ما تقوم به مصر من تسليط الضوء مجددا على أهمية القضية الفلسطينية ليعبر عن عودة قوية للدور الفاعل المصري، والذي بدونه لا تتقدم القضية الفلسطينية بملفاتها المتعددة والشائكة، وبرغم أن القاهرة ما زالت تستعيد عافيتها، إلا أنها تعي جيدا المسئولية الملقاة على عاتقها لإيجاد حلول مناسبة لوقف النزيف الفلسطيني في معادلة الصراع المستمر مع الاحتلال الإسرائيلي.
لقد جاء في كتاب العالم القدير د. جمال حمدان في كتابه "شخصية مصر" بأن "أمن مصر يبدأ من العراق والشام"، ولطالما ارتبط مصير الأمة العربية تاريخيا بالعلاقات بين مصر والشام والعراق، فعندما كان يتهدد الأمن القومي للعراق أو الشام فان مصر كان يجب أن تجهز نفسها للمواجهة والدفاع عن أمنها وعن أمن الجميع. هذا هو قدر مصر أن تكون دولة قائد، وأن مكانها الجيواستراتيجي رشح لها دور الريادة ضمن العلاقات الإقليمية، وأن تكون حائط الصد الأول عن القضية الفلسطينية.
وجاء في دراسة للواء المصري محمود محمد محمود خليل ضمن دراسة له في ركائز الأمن القومي نقاط عدة، نذكر منها:
1- إن أمن مصر يبدأ من فلسطين، والخطر على مصر يأتي ذاتي من هناك، ومواجهته يجب أن تبدأ من هناك.
2- إن أمن مصر يبدأ من عروبتها، وعروبتها ليست عبئاً عليها، بل هي حزام أمن لمصالحها، ومصر لا يمكنها أن تتحمل مطلقاً رفاهية الانطواء خلف نفسها والانكماش على الداخل، لأن عزل مصر عن مجالها العربي الطبيعي هو النذير الأكيد بضربها من الداخل.
وختاما، ففي ظل تراجع الدور العربي وانشغال العرب في أوضاعهم الداخلية والحروب الطائفية، تظل مصر تمثل حجر الزاوية في دعم القضية الفلسطينية، وقد لوحظ دور مصر وملك الأردن في تراجع وعد دونالد ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس. وتلعب مصر دورا مركزيا في حشد الأصوات لصالح فلسطين في المعارك التصويتية سواء داخل أروقة الأمم المتحدة، أو في المنظمات الدولية الأخرى.
إن هذه الصفحة الجديدة بين غزة ومصر هي فرصة تاريخية للفصائل الفلسطينية، وعليهم التقاطها لكي لا تدوسهم عجلات الزمن، ولكي لا يلفظهم الشعب الفلسطيني، ولكي يخرجوا من حالة التشرذم والانقسام والعزلة إلى فضاء أوسع وأرحب، يساهم في وضع القضية الفلسطينية من جديد على أجندة الدول العربية على الأقل، ويصلب الموقف الفلسطيني أمام تحديات سياسة الرئيس الأمريكي الجديد ترامب والتصدي للسياسات المتشددة تجاه قضيتنا العادلة.
بقلم/ فهمي شراب