هل المفاعلات النووية آمنة؟

بقلم: محمد أشرف البيومي

من الضروري أن نتعرف علي الحقائق ونعيها جيدا قبل أن نتخذ أي قرار وليس أن نقرر دون دراسة كافية وشاملة ونعتمد علي انطباعات وأوهام ثم ندافع دون وعي علي القرار وفي النهاية نندم أونتهرب من المسئولية.

 

وكما أكد الفيلسوف برتراند راسل "عندما تبحث أي أمر اسأل ما هي الحقائق ودلائلها... ولا تنجر بما تتمني"

 

أجد نفسي مضطرا مرة اخري للحديث عن المفاعلات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية بمصر وكيف أن البديل النووي خيار خاطيء ويحمل في طياته مخاطر كبري. هذا بالرغم من الدعاية المكثفة الاعلامية والرسمية التي تصور بناء المفاعلات وكأنه سيحقق آمالا عظيمة. لا أدري لماذا أصبح بناء مفاعلات نووية بمصر وكأنه حلم  كبير رغم انه قد يكون كابوساً ونقمة كبيرة علي مصر. أكتب معارضا بشدة المشروع لعدة أسباب موضوعية متعلقة بمخاطره الأمنية و حوادثه المحتملة و باقتصادية المشروع واعتبارات أمن قومي خصوصا وأن هناك بدائل أفضل وأكثر أمانا.

 

ورغم أن موقفي يعرضني لاتهامات سخيفة وباطلة تهدف إلي إجهاض أي حوار موضوعي والتي تحرف الانظار عن الحقائق، إلا أن المسئولية الوطنية والامانة العلمية تضطرني للكتابة مرة أخري رغم كتابات عديدة سابقة. لا أريد أن أشعر وأنا قد تجاوزت إثنين وثمانين من العمر أنني قصرت في واجبي.

 

الأمان الكامل للمفاعلات النووية وهم

يتحدث البعض عن الأمان الكامل للمفاعلات النووية وكيف أن المفاعلات المزمع انشائها في الضبعة حديثة التصميم ومن ثم فإن درجة الأمان بها مائة في المائة دون أي دليل علمي.هذا رغم أن المسئولين في الصناعة نفسها واللجنة الأمريكية المنظمة للمفاعلات التي تنحاز عادة للصناعة النووية تؤكد أنه من المستحيل أن يكون هناك أمان كامل. ,ولا أنسي ما جاء بالأهرام منذ أكثر من  35 عاماً "مصر دخلت عصر الطاقة النووية في الساعة 11,18 دقيقة صباح الأثنين 29 يونيو1981 " و "نظم الأمان النووي تصل باحتمالات الخطر إلي درجة الاستحالة المطلقة" و"لا يمكن تسرب الإشعاع حتي في حالة وقوع حادث".  كيف نصف كل هذا غير أنه يعبر عن تدني للمسئولية بشكل خطير. كذلك نلاحظ أن البعض يحاول دون أي دليل إقناعنا بأن المفاعلات الحديثة آمنة بالكامل.  وبالتالي هناك خلط بين تحسين الأمان النووي وجعله آمن مائة في المائة وهذا مستحيل.  

  

آلية صنع القرار  تحدد نتائجه

في محاولة لدحض هذا الادعاء الغير المسئول والغير علمي أسوق بعض الحقائق حول الآمان النووي وتاريخ الحوادث التي أصابت المفاعلات النووية في العالم حتي يكتشف القاريء مدي الاستهتار التي تتصف الكثير من التصريحات التي لا تمت للواقع بصلة والتي تعكس عدم اكتراث خطير بمستقبل الوطن والمواطنين. يجب إذا تناول الموضوع بالتزام صارم بالحقائق العلمية دون تهويل أو مبالغة وأيضا دون استخفاف. إن اتخاذ القرارات دون دراسة معمقة وشاملة ودون حوار علمي مفتوح يعطي الفرصة كاملة للآراء المعارضة هو أفضل الطرق لإتخاذ قرارات خاطئة نندم عليها لاحقا حيث لا يفيد الندم. كذلك فإن إخضاع القرارات الهامة لأسباب سياسية و إعطاءها أولوية تطغي علي مسائل غاية في الأهمية مثل الأمان وضرورة تجنب حوادث كارثية وأخري خطيرة هو أفضل الطرق لآتخاذ قرارات خاطئة بل هو وسيلة لتعظيم حدوث مصائب كبري.

تاريخ وحقائق

تؤكد مصادر متعددة حتي تلك المنحازة للصناعة النووية بانه لا يمكن ضمان الامان النووي رغم ان صناعة المفاعلات وامانها قد تحسن. كما تذكر الهيئة المنظمة للمفاعلات النووية بأمريكا NRC والمنحازة للصناعة النووية في تقاريرها بان

"احتمال وقوع حادث يؤدي الي انتشار اشعاع نووي صغير جدا.... وأن المفاعلات مصممة بحيث تكون آمنة ... ولكن ليس هناك نشاط صناعي  خالي من المخاطر". إذاً فليس هناك أمان كامل باعتراف ال  NRC والدليل القاطع علي ذلك هو وقوع ثلاثة كوارث أدت الي اتلاف قلب المفاعل أولها في ثري مايل آيلاند ببنسيلفانيا عام 1978 ثم في شرنوبل بالاتحاد السوفيتي (أوكرانيا) 1986 ثم مؤخرا في فوكوشيما باليابان عام 2011.

تتركز إمكانية الحوادث في الاخطاء البشرية والعوامل الخارجية الغير متوقعة فمصممي مفاعل فوكوشيما باليابان لم يتوقعوا أن سونامي نتيجة زلزال سيبطل الأنظمة الاحتياطية. وحسب المؤسسة السويسرية UBS AG  فان"حادث فوكوشيما شكك في امكانية اقتصاد متقدم كاليابان للسيطرة والتحكم في الامان النووي" 

 

الحوادث النووية تختلف نوعيا عن الحوادث الأخري ولا يمكن مقارنتها

 هناك مغالطة كبري كامنة في مقولة الNRC عندما تذكر أنه ليست هناك صناعة دون مخاطر فرغم صحة المقولة فإنها تخفي نوعية ودرجة الخطورة التي تجعل الحوادث النووية مختلفة تماما عن الحوادث الأخري. فلا يمكن مساواة انفجار في مصنع يؤدي بموت مئات أو حتي آلاف بحادث نووي ينتج عنه تعرض آلاف من المواطنين للاشعاع النووي المؤدي للوفاة والمسبب لأمراض مثل السرطان والتشوه الخلقي لأجيال قادمة ويؤدي أيضا إلي تلوث بيئي هائل يستمر لآلاف السنين ويصعب إزالته أو احتواؤه. ولا ننسي أن التلوث الإشعاعي لأغذية عديدة بعد كارثة شرنوبل والذي امتد لعدة دول والتي عان منها المصريون نتيجة أغذية وألبان أطفال مستوردة وملوثة إشعاعيا. كتبنا في حينه حول هذا الموضوع وعرضنا نتائج التحاليل الاشعاعية للأغذية الملوثة التي أجريت بكلية العلوم بجامعة الاسكندرية.

يتناول حاليا الإعلام الأمريكي حادثة فوكوشيما وتداعياتها بنشر عدة تقارير هامة. نشرت صحيفة  الواشنطن بوست في 8  فبراير 2017 تقريرا أعلنته الشركة المسئولة عن تشغيل مفاعل فوكوشيما والذي حدثت به حالة انصهار ثلاثي بعد زلزال 2011 والسونامي الذي تبعه. جاء بالمقال أن الارقام حول المستوي الاشعاعي فلكية ( حسب تعبير الصحيفة) وصلت الي 530 وحدة (سيفرت  Sievert ) لكل ساعة والتي فاقت أرقام 11 مارس 2011 (73 سيفرت كل ساعة) علما بأن تعرض الانسان لواحد سيفرت تؤدي الي فقد الخصوبة والشعر والاصابة بالكتاراكت في العيون. أما التعرض لأربعة وحدات سيفرت اشعاعية فهي تؤدي الي موت نصف المتعرضين لها وذلك حسب المؤسسة القومية اليابانية للعلوم الاشعاعية. هذا المستوي الاشعاعي يشير إلي أن بعض الوقود المنصهر قد تسرب كما أن الكاميرا المتحكم فيها من بعد وجدت فجوة كبيرة عرضها متر في قلب المفاعل. نشرت الصحف أيضا عن مدي انتشار الاشعاع النووي في المحيط الهادي حتي أن مستوي الاشعاع في سمك التونة في الشواطيء الغربية من الولايات المتحدة قد تضاعف (الصورة توضح مدي انتشار الاشعاع النووي في المحيط الباسيفيكي بسبب حادث مفاعل فوكوشيما ).

نشرت النيويورك تايمز في 9 مارس الحالي صورا مؤلمة تعرض كيف ترك الآلاف من اليابانيين منازلهم وممتلكاتهم منذ ستة أعوام هربا من الاشعاعات التي انطلقت  من المفاعل وكيف أن عددا من المدن أصبحت مدن أشباح. كذلك نشرت نفس الصحيفة يوم 8 مارس الحالي أن مئات من الحيوانات البرية المشعة تنتشر في شمال اليابان.

 

حوادث المفاعلات النووية ودرجاتها المختلفة

http://www.energyrefuge.com/blog/wp-content/uploads/Holy-Fukushima-%E2%80%93-Radiation-From-Japan-Is-Already-Killing-North-Americans-.jpgتقع حوادث عديدة بالمفاعلات النووية المولدة للطاقة وترتبط هذه الحوادث بتصميم المفاعل ولكن أغلبها ينجم عن الخطأ والإهمال البشري. كما يجب أن نؤكد أن هناك درجات لحوادث المفاعلات النووية من حيث الخطورة كما هو مبين في الرسم المرفق بحيث صنفت الحوادث حسب درجة الخطورة. INES en.svg

أخطر الحوادث هو عدم التحكم في التفاعل النووي المتسلسل الذي يؤدي إلي انصهار قلب المفاعل وانتشار واسع لآشعاعات مكثقة تؤدي الي الموت وأمراض خطيرة منها السرطانات مثل حوادث ثري مايل آيلاند وشرنوبل وفوكوشيما. أما الحوادث الأقل خطورة فهي تتكرر بدرجات متفاوتة وتؤدي إلي تسرب كميات من المياه والغازات المشعة والتي تسبب السرطان والتشوهات الخلقية لآلاف من سكان المناطق المحيطة حسب كميات المواد المتسربة ودرجة الإشعاع بها.

ولا بد من ملاحظة أن المسئولين في البداية غالبا ما يخفون الحقائق وينكرون أو يقللون مدي خطورة الحادث والتي تتضح فيما بعد كما حدث في حادث ثري مايل آيلاند وحادث فوكوشيما.

يمكن مراجعة جداول الحوادث النووية المصتفة دوليا ولكني سأذكر بعض الأمثلة فقط.

في عام 2002 تأكل رأس مفاعل ديفيز-بيس  David-Besseبالقرب من توليدو بولاية أوهايو بالولايات المتحدة المصنوع من الصلب والكربون بسبب تسرب مستمر لمياه البورات التي تستخدم لتبريد المفاعل والصورة توضح كيف أن حوالي 15 سم من الصلب قد تأكلت مما عرض المفاعل لكارثة كبيرة.

 

 

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/f/f3/Davis-BesseHole.png/300px-Davis-BesseHole.png

منذ أيام قليلة في فبراير 2017 حدث انفجار في مفاعل  EDF’s Flamanville بالقرب من شيربورج  بشمال فرنسا وذلك بسبب حريق في قاعة التربينات ولكن لم يحدث تسرب نووي حسب ما أعلنه المسؤولون. ومن المعروف أن مصدر ثمانين في المائة من الكهرباء في فرنسا من الطاقة النووية، ولكن العديد من المحطات النووية سيغلق عام 2030. فقد وافقت حكومة أولاند بفرنسا العام الماضي علي قانون يهدف إلي التحول من الطاقة النووية إلي مصادر أخري مثل طاقة الهواء والطاقة الشمسية. أليس هذا جدير بالتحفظ علي الخيار النووي خصوصا وأن مصدر الطاقة الشمسية متوفر جدا بمصر؟

تساؤلات وضرورة الحوار

في مقال سابق بديسمبر 2015 طرحت تساؤلات هامة لحوار جاد وموضوعي حول مستقبل الصناعة النووية عالميا وتاريخ الحوادث بدرجاتها المختلفة وتداعياتها الخطيرة والتكاليف الحقيقية لبناء المفاعلات بما في ذلك تكاليف الأمن والآمان واحتواء المفاعل بعد انتهاء عمره الافتراضي. كما طالبت بمناقشة تفاصيل العقد الروسي والأعباء العسكرية ومتطلبات الأمن القومي ووضع البنية التحتية وثقافة الدقة وعدم الإهمال بمصر حاليا وخطط تفريغ السكان في حالة الحوادث. كما ناديت ببحث البدائل المتاحة الآن والبديل الشمسي بالذات، ولكن للأسف لم يجري حوار أو مناقشة. خطورة الموضوع تستدعي الالتزام الصارم بعرض الحقائق بعيدا عن دعاية غير مسئولة.

 

تقع مسئولية وطنية كبري علي صانعي القرار فهم يتحملون تبعات هذا الخيار الخاطيء مستقبلا  كما يتحمل جزء كبير من المسئولية الإعلام الرسمي والخاص لعدم عرض الموضوع بشكل علمي متكامل ومناقشة الحقائق كلها، بل أنه في غالب الاحيان جنح للدعاية للمشروع دون سند علمي. اتسائل أين دور النقابات العلمية والهندسية والصحافة في إدارة حوارات واسعة حول مشروع ضخم وخطير مثل المشروع النووي.

 

بعد الانتهاء من المقال. نشرت صحيفة النيويورك تايمز اليوم  تلخص فيه أبعاد كارثة فوكوشيما في الوقت الحاضر أوجزها فيما يلي: تضخ كميات هائلة 400 طن يوميا لتبريد قلب المفاعل المنصهروالمتوهج وتكتسب هذه المياه غشعاعا نوويا- هناك 3519  حاوية مليئة بالمخلفات المشعة- 200,400 من أخشاب الغابات المشعة  التي أزيلت- 200.000 متر مكعب من الأنقاض المشعة- ثلاثةونصف بليون من التربة الملوثة إشعاعيا- 1.57 قضيب وقود نووي.

هذه المعلومات تؤكد أن الخيار النووي هو الكارثة الحقيقية فهل ينتبه المسؤلون ويعيدوا بحث قرار إنشاء مفاعلات نووية بمصر وإذا كنا نشجع التعاون المصري الروسي فلماذا لا يكون هذا التعاون في مجال الطاقة الشمسية؟

 

أ.د. محمد أشرف البيومي

أستاذ الكيمياء الفيزيائية بجامعة الإسكندرية وجامعة ولاية ميشيجان (سابقا)

 13مارس 2017