شهر آذار من كل عام، هو شهر المرأة بامتياز، حتى وإن كانت كل شهور وأيام السنة هي أيام للمرأة، التي يتجلى حضورها ودورها على الدوام، في كونها بالأساس حارسة نارنا الأبدية.
لا أحد بإمكانه أن يدعي أنه صاحب اختيار هذا الشهر ليكون شهر المرأة، الشهر الأول في فصل الربيع، حيث تستجيب المرأة لطبيعتها المنسجمة مع نمو الأشجار والأزهار، وأنواع متعددة من الفواكه الطيبة. ينتهي شهر المرأة عند الفلسطينيين بيوم الأرض فتتكامل عناصر الطبيعة من الأرض إلى ما عليها والمناخ الرطب مع المرأة، ليعطي كل هذا المزيج المتناسق، لوحة تستحق الاحتفال والاحترام.
تفرض المرأة في هذا الشهر بكثافة شديدة، حضورها ودورها الذي لا يستطيع إنكاره عليها، إلا من يؤمنون بأن للمرأة دوراً واحداً هو الإنجاب والتربية المنزلية، وإطاعة الرجل. كان حرياً بأهل غزة، كل أهل غزة، أن يحتفلوا وأن يتواصلوا مع احتفالات المرأة الفلسطينية في كل مكان وليس على أرض فلسطين التاريخية فقط.
في غزة، لم تحظ المرأة بما قررته حكومة الوفاق، لأن يكون يوم الثامن من آذار يوم المرأة، يوم عطلة رسمية، ولكنها رغم ذلك احتفلت على قدر ما تسمح به الظروف. ألقى الانقسام والاختلاف الفلسطيني بسوءاته على هذا اليوم حين رفضت حكومة الأمر الواقع في غزة اعتبار ذلك اليوم يوم عطلة رسمية، ولا ندري إن كان هذا من باب مناكفة حكومة الوفاق أو إنه من باب عدم الإيمان بأهمية الاحتفال في هذا اليوم، من الواضح أن ثمة فرقاً بين أطراف الانقسام فيما يتعلق بالرؤية تجاه المرأة ودورها وحقوقها، وذلك هو امتداد لخلاف اجتماعي ثقافي وفكري، يشكل العمق الطبيعي لاختلاف الأيديولوجيا والسياسة.
ما يلفت النظر في شهر المرأة هذا العام، هو أن واحدة منهن، هي الدكتورة ريما خلف قد قدمت بتكثيف شديد الوضوح، ماهية وهوية ودور المرأة العربية بما يتجاوز كل الخلافات والمختلفين، ويفرض على أصحاب الرؤية القاصرة للمرأة أن تتغنى بموقف هذه المرأة الفلسطينية.
ريما خلف المدير العام التنفيذي لمنظمة «الإسكوا» الدولية التي تشكل جزءاً من مؤسسة الأمم المتحدة، فرضت على كل المختلفين أن يحتفلوا أيما احتفال بهذه المرأة الرمز، التي يضاف اسمها إلى أسماء عشرات بل مئات المناضلات الفلسطينيات والعربيات اللواتي، يحلقن في سماء الكرامة الوطنية، بعد أن حفرن أسماءهن، في صخر الصراع، وفي ليل عربي يهيم.
تستحق ريما خلف أن تحظى من قبل الرئيس محمود عباس بأعلى الأوسمة، بل إنها تستحق أكثر من ذلك، ربما كان على القادة والزعماء العرب الذين سيجتمعون في عمان قبل نهاية هذا الشهر أن يتشرفوا بدعوة ريما لحضور القمة العربية، لكي تلقي عليهم درساً بل دروساً في الكرامة الوطنية وفي الالتزام بالحقوق.. من حق الإنسان في حياة كريمة إلى حقه في تحقيق الأهداف الوطنية العامة.
ريما خلف التي فرضت، بكفاءتها، وعلمها، وشخصيتها وعملها، دورها في هذه المؤسسة الدولية المهمة، هي أكثر من أستاذة متخصصة في علم ما، هي إنسانة أولاً، وأستاذة في تعليم الآخرين كيفية صياغة الكرامة الشخصية والوطنية، وهي أستاذة في تعليم الآخرين مدى قوة المرأة العربية والتزامها بحقوق شعبها وأمتها، وهي أستاذة في تعليم الآخرين الموضوعية والحيادية، والشفافية، وقوة صوت الحق والعدل. هي أستاذة في تعليم الآخرين حقوق الإنسان، وحقوق الشعوب، واستنهاض الهمم لمقاومة العنصرية والأبارتهايد، ومعاقبة مجرمي الحرب، وهي أستاذة في تعليم المتخاذلين والصامتين عن حقوقهم كيفية الدفاع عن الحق، والتضحية في سبيل ذلك. قدمت ريما استقالتها من منصب رفيع يطمع فيه الكثيرون وتخلت عن امتيازات هذا الموقع، وعن الرواتب العالية، التي تتقاضاها.
لم تنتظر ريما، التي رفضت أن تسحب التقرير الذي قدمته "الإسكوا" والذي يصف إسرائيل بما هي عليه طبيعتها وسياساتها العنصرية ضد الشعب الفلسطيني. لم تنتظر ريما أن يطلب منها أو يحرضها أحد على ذلك، ولم تتأخر في رفض قرار الأمين العام للأمم المتحدة وبطريقة تليق بامرأة تحترم نفسها وقناعاتها وهويتها وانتماءها.
ريما خلف لم ترفض من خلال استقالتها السريعة، قرار الأمين العام للأمم المتحدة فقط، وإنما رفضت بقوة التدخل الأميركي والإسرائيلي الذي هدد باستخدام أقصى العقوبات بحق الأمم المتحدة، إذا لم يسحب أمينها العام التقرير الذي صدر عن "الإسكوا".
رفضت ريما، وقامت بفضح الدور الأميركي الإسرائيلي، وهي في الوقت ذاته تفضح دور الأمين العام للأمم المتحدة الذي يلتزم بدور الدمية في يدر التحالف الأميركي الإسرائيلي، وهي بذلك تقدم شهادة قوية حول دور الأمم المتحدة في الانتصار للعدالة والحق.
كان من الواضح أن إدارة ترامب مصممة أكثر من أي إدارة سبقت على حماية إسرائيل ومنع مؤسسات الأمم المتحدة من اتخاذ أي قرار أو إصدار أي موقف أو بيان لا ترضى عنه حليفتها العنصرية في تل أبيب.
منذ اليوم الأول الذي تسلمت المندوبة الأميركية الجديدة مهمتها في الأمم المتحدة، كانت أدلت بتصريح تؤكد فيه أنها لن تسمح بالإساءة لإسرائيل، واتهمت المنظمة الدولية بالانحياز للفلسطينيين.
خسرت ريما خلف وظيفة مهمة، لكنها ربحت الأمة العربية، وكل الشعوب الرافضة للظلم، والطغيان، والعنصرية حيث أصبحت علماً عالمياً، وعنواناً للمرأة العربية المكافحة. تستحق ريما أن تحظى بما تملك من إمكانيات وخبرة وشهادات متنوعة تقديراً خاصاً ومتميزاً.
ريما تقدم درساً إضافياً، لما أصبح معلوماً لدى القاضي والداني، وهو أن الأمم المتحدة لا تملك القدرة في ظل الهيمنة الأميركية على تحقيق الإنصاف والعدالة للشعوب المظلومة ومن بينها الشعب الفلسطيني.
لا يعني ذلك، إهمال خوض الصراع على ساحة الأمم المتحدة، حيث يمكن تحقيق الإنجازات عبر عملية تراكم بطيئة، وعلى مدى طويل من الزمن، وارتباطاً بالتبدلات على المستوى الدولي، ولكن هذه الحقيقة تفرض على أصحاب الحقوق أن يفعلوا ما فعلته ريما ونقصد الجرأة في الدفاع عن الحقوق حتى لو لم يأت ذلك بنتائج سريعة ومباشرة.
وبغض النظر عن واقعة سحب تقرير "الإسكوا"، الذي ما كان لنتائجه أن تتحول إلى قرارات فعلية عن مجلس الأمن أو غيره، إلا أن ذلك التقرير كما تقرير القاضي غولد ستون، يشخص بشكل موضوعي طبيعة الاحتلال الإسرائيلي.
أما الدرس الآخر فهو أن إسرائيل تواصل الهروب من العقاب الدولي، وأنها دولة مارقة، وخارجة عن الشرعية الدولية، ذلك أنها لم تلتزم بأي قرار من قرارات الأمم المتحدة منذ قيامها عام 1948، وأن هذه الدولة التي تنزلق أكثر فأكثر نحو العنصرية والأبارتهايد ستواصل رفض الالتزام بأي قرار دولي ينتصر للحقوق الفلسطينية، القانون الذي تعمل عليه دولة الاحتلال هو قانون القوة، تساعدها في ذلك الولايات المتحدة، ولذلك لا بديل عن القوة بالنسبة للفلسطيني الذي يكافح من أجل انتزاع حقوقه الوطنية.
ربما كان على ريما التي انتصرت لنفسها وللمرأة العربية أن تجرب حظها لرأب الصدع بين الفلسطينيين، وأن تعلم الكل ما تجيده من علم حماية الكرامة الوطنية.
ريما خلف هي عنوان شهر آذار لهذا العام، فهل من يعترض على ضرورة الاحتفاء بالمرأة، ولا يرى فيها إلا جسداً أو أماً أو أختاً؟
طلال عوكل