مرّ البارحة يوم الأم. ومرّ الأسبوع الماضي أيضاً يوم المرأة العالمي في فلسطين، لكنه بدا رتيباً كالمعتاد.
تذكره المواطنون، وسيتذكرونه دوماً، في نهار العطلة الذي خصصته الحكومة للمناسبة السنوية فقط. لكنّ حدثاً بسيطاً في قرية فلسطينية، قضاء مدينة جنين، يثير جدلاً بل صنع فارقاً في تعامل المجتمع مع قضايا المرأة الفلسطينية والعربية عموماً بفضل تقرير تلفزيوني لا أكثر.
قدّم الواقع، الذي تنغمس فيه النساء معاناة وظلماً بعيداً من أعين الشاشات، حكاية هنادي حبايبة (27 عاماً)، من بلدة جنوب شرقي جنين وهي أم لأربعة أطفال، هربت من بيتها نتيجة العنف الذي تعرضت له من زوجها.
هذا الحدث غير العادي في مجتمع يوصف بالمحافظ جداً تجاه النساء وأمام مناشدة الأب والعائلة، انشغلت به وسائل الإعلام والأجهزة الأمنية والناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي، وفجّر كل ما يعتمل المجتمع به من مواقف وصور ذهنية، وأصبحت قصة الزوجة الهاربة حديث الجميع على مدار ثلاثة أيام.
خلال تلك الفترة، تخلّلت النقاش إشاعات وأقاويل وتوقعات، وكانت المرأة الهاربة ضحية مرتين (الزوج والمجتمع). وقبل أن يعي الجلادون أسباب هروبها الحقيقية روّج بعضهم لفكرة قتلها بعد العثور عليها حفاظاً على سلامة شرف العائلة.
وجُدت الزوجة - الأم مختبئة في بيت صديقة لها ببلدة مجاورة ودعي أهلها إلى الالتقاء بها في مكتب جهاز أمني بمدينة جنين، وهناك كانت الكاميرا الخاصة بـ "فضائية معاً الفلسطينية" تسير إلى جانب العائلة المهرولة للقاء ابنتها. كان يهرول الأطفال الأربعة الصغار، والأب الكبير السن، وإخوتها ونفر من العائلة المبتهجة.
استمرت الكاميرا بالهرولة على إيقاع العائلة وعندما التقى الطرفان أخذت ترصد لنا عمق المشاعر وبكاء الإخوة وفرح الأطفال. قدمت الكاميرا بصمت الزوجة الهاربة بطريقة برّأتها من كل المقولات والافتراءات. فبدت امرأة جميلة وشابة تبكي بحرقة دفعت الجميع إلى التعاطف معها. كان هذا التقرير المباشر فرصة ثمينة لإحداث تحول حقيقي في مواقف قطاع عريض من المواطنين، وبعد مشاعر الغضب على الزوجة الهاربة، أصبح المواطنون معها وتفاجأوا بكونها كانت تتلقى ضرباً مبرحاً من زوجها فتحول الموقف تماماً.
موقف الشارع صب الغضب على الرجل، المجتمع الذي تسوده عقلية ذكورية تتحايل على حقوق النساء وتستمد من ترسانة ضخمة كل مبررات ضرب النساء وقمعهن. ربما تعدت هذه التغطية التلفزيونية المباشرة على خصوصية العائلة وتحديداً الأم وأطفالها لكنّ هذا التعدّي يستحق أن يدرس من ناحية أخلاقية ما تم نقله من أجل وعي أطراف المشهد لحقوقهم. ما نقلته الكاميرا جاء في خدمة قضية النساء في فلسطين، لدرجة أنه يمكن القول أنه ما كان لحملة إعلامية كبيرة أن تحقق ما حققته هذه التغطية لمصلحة النساء المعنفات.
لن ينسى المشاهدون "الذكور" تحديداً لقطة الأخ الذي يحضن اخته، ومن ثم ينحني على الأرض ليقبل قدميها، ولا لحظة انهيار شاب آخر بعدما احتضنها فرحاً. أما مشاهد معانقة الأم أطفالها فتبقى الأكثر قوة وتأثيراً لكونهم الضحايا الصامتة في حالات كهذه.
الدراما التلفزيونية قدمت للمشاهدين معالجات من هذا النوع، لكنها غالباً لم تخلق تأثيـرات كما حـدث مع حـالة هنـادي، بـدا أن سبـب التـعاطف الكامل والاختلاف في المواقف وانقلابها نحو الرجل إدراك المشاهدين أنهم إزاء مشهد حقيقي من لحم ودم.
شحنة عاطفية خلقت تحولاً في مواقف تجاه المرأة، وعلى مؤسسات المجتمع المدني استثمار ذلك في سبيل تصعيد ملف تعنيف النساء كي لا يستمر طغيان فكرة "همّ البنات للمات". على وسائل الإعلام أن تستثمر ذلك في خلق وعي إيجابي نحو النساء ومعاناتهن منظومة القهر اليومي بصمت.
سعيد أبو معلا
