ما إبتدأ بالنسبة للعديد كمؤامرة أو مَكيدة أو كمخطط أمريكي ، أصبح الآن واقعاً مؤلماً ممتداً على مستوى العالم ، ومن هنا ننطلق في محاولة جادة لسبر غور هذا الواقع ، وليس للبكاء على الأطلال وعلى الأسباب والمسببات التي أدت إلى ذلك وإلى ما نحن فيه.
الخوض بعقلانية في موضوع بعيد عن العقلانية مثل "الارهاب" ، أمر أساسي وهام لمنع التوصل إلى نتائج منقوصة أو غير حقيقية . وعلى كل من يهمه هذا الأمر أن يضع عقله وقلبه وعواطفه على مسار علمي جادّْ في محاولة رصينة لفهم واستيعاب الكيفية التي تـُمَكنﱢ إنسان ما أو مجموعة ما من اللعب بعقل انسان آخر إلى الحد الذي يجعله يقوم بتفجير نفسه والتضحية بحياته في سبيل هدف ما أو قناعة ما لن يعيش حتى يشاهد أثر تضحيته تلك على ذلك الهدف أو تلك القناعة .
الدخول في عملية إتهامية أو تجريمية لتحديد من هو المسؤول عن تبلور ظاهرة الارهاب أمر غير ذي جدوى الآن كونه لن يُغـَيـﱢر شيئاً مما هو قائم ، ولن يؤدي إلى أي نتائج جديدة أو هامة . فالارهاب الذي ابتدأ كعنوان ألصَقـَهُ الاعلام الغربي بالاسلام والعرب من خلال أعمال ونشاط تنظيمات مثل "داعش" أو"جبهة النصرة" ومثيلاتها ومن قبلهم "القاعدة" ، قد انتقل به الحال من كونه ظاهرة متناثرة هنا وهناك إلى وضع جعل من "الارهاب" جزأ ً من الحياة السياسية في الاقليم الشرق أوسطي ومن ثم العالم ، حيث انتقلت نشاطاته من نطاق الدولة إلى حدود الاقليم ومن ثم إلى العالم المفتوح .
إن خطورة التطورات الأخيرة في وضع ما يسمى بالارهاب هي في كونه أصبح عابراً للحدود من خلال قدرته على الاستقطاب الطوعي للأتباع من مختلف البلاد . ولم يعد الحافز مقتصراً على قضية واحدة حصراً مثل الدين أو المذهب ، أو قضية سياسية بعينها مثل فلسطين أو قضايا إقتصادية مثل البطالة والجوع والفساد ، بل أصبح يضم العديد من القضايا المختلفة ضمن إطار اصولي ديني متزمت مما جعل مراقبة المتعاطفين معه أو المؤيدين له أمراً في غايـة الصعوبة ، إن لم يكن شبه مستحيل . بإختصار ، أصبح الارهاب في غياب الحياة السياسية والتنظيمات الحزبية في دول العالم العربي هو التعبير الأصدق جماهيرياً على المعارضة الشعبية الرافضة للاستبداد وللعديد من أوجه الفساد السياسي والاقتصادي السائدة في تلك الدول .
لقد إنتقل الارهاب من كونه ظاهرة مؤطرة بالجهل والعنف الوحشي تـُعَبـﱢر بشكل عنيف ودموي عن قضايا ترتبط بالتزمت الديني الاقصائي بالاضافة إلى قضايا سياسية أو اقتصادية ، لينتهي به الأمر إلى كونه مجموعة من القناعات تعكس قناعة من يؤمن بها بحقه في أن يمارسها بأكثر الوسائل دموية ووحشية بإعتبارها وسائل طبيعية تعبر عن قناعات هي في نظر أصحابها مشروعة فكراً ووسيلة ، مع أنها في نظر الآخرين ارهاباً دموياً يخلو من العقل والانسانية .
إن جوهر "الارهاب" بكل صُوَرِهِ إبتدأ كشعار أكثر منه كتنظيم . وهذا عزز من قدرته على الانتشار بشكل واسع يماثل سهولة انسياب الماء في الشقوق . وجَلﱠ ما نسمعه في وسائل الاعلام عن مقاومة هذا "الارهاب" والحرب عليه لا يتعدى في معظم الأحيان مقتل فلان أو علان من قادة داعش أو جبهة النصرة ....الخ دون توفر القدرة على التغلغل في التنظيم نفسه واختراقه وتدميره من الداخل ، وربما يعود الأمر في ذلك لعدم وجود تنظيم بالمفهوم التقليدي . واعتماد التنظيم منذ بداياته على استعمال وسائل التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي الرقمي قد سهل من امكانات التواصل بين أعضائه وخفف من أخطار التسيب الأمني حيث زاد من صعوبة تتبع آثار قادة تلك الحركات اللذين لا يوجد حاجة فعلية للتواصل الشخصي فيما بينهم نتيجة توفر امكانات التواصل الرقمي . وفي ظل هذا الوضع ، فإن تعزيز امكانية الاختراق تطلبت قيام الدول المهتمة بخلق مجموعات أو أذرع تابعة لها تعلن عن ولاءها لتلك التنظيمات طوعاً وعن بعد ، وتقوم بالتالي بعملياتها بإسم تلك التنظيمات دون أن يكون لها بالضرورة علاقة فعلية بالأمر ، والهدف قد يكون خلق بلبلة لتلك التنظيمات مثل داعش أو جبهة النصره ... الخ ، بالاضافة إلى وضع الأسس للاختراق الأمني المتبادَلْ من خلال التعاون المستقبلي بين المنظمات والأذرع المختلفة التي تطوعت بالعمل تحت إسم هذا التنظيم أو ذاك مثل داعش مثلاً . وهكذا دخلت العديد من الأنظمة أو الدول في لعبة "الارهاب" بهدف القضاء عليه دون أن تدري أنها قد أصبحت في الواقع جزأ ً منه أو طـَرَفاً فيه .
"الارهاب" لم يعد إذاً ظاهرة مبعثرة هنا وهناك محدودة في قدراتها وتأثيرها ، بل أصبح تدريجياً جزأ ً مؤثراً في النظام السياسي لدول المنطقة وللاقليم . وانتقل بصفته تلك من كونه ظاهرة محلية إلى واقع اقليمي ومن ثم إلى مشكلة دولية تماماً كما هو عليه الحال الآن .
"الارهاب" تجاوز كونه مشكلة بالنسبة لبعض الأنظمة ليصبح خطراً عليها وعلى وجودها وبقائها ، وأصبح التعامل معه بإعتباره أحد الأخطار المحيطة بالنظام وبالأمن الوطني والقومي للدولة أمراً قائماً . وهذا هو الحال بالنسبة لبعض الدول مثل العـراق وسـوريا ومصر واليمن وليبيا . أما عندما يتحول خطر الارهاب إلى خطر على أمن واستقرار المجتمع المدني وطريقة الحياة في بلد ما كما هو عليه الحال بالنسبة لبلدان غربية مثل فرنسا وبريطانيا والمانيا ، فإن الموضوع يصبح جزأ من استراتيجية دولية لمكافحة الارهاب . وقد استعملت بعض الدول مثل أمريكا وروسيا هذا العذر وهو "الحرب على الارهاب" لتحقيق استراتيجيات وأهدافاً تمس سيادة ومصالح دولاً أخرى خصوصاً دول الاقليم العربي تحت ستار "الحرب على الارهاب" . وهكذا تداخلت الأمور وتعددت الأسباب واختلط الحابل بالنابل وابتدأ الجميع بالشعور بوطأة ما يجري بإعتباره خطراً مباشراً على مصالح الجميع ، كـُلٌّ من منظوره الخاص .
"الارهاب" أصبح جزأ ً من المعادلة السياسية والأمنية لمنطقة الشرق الأوسط . والأمر لم يعد محصوراً بالإسلام وبالتعصب الديني ، بل إتجه نحو الانتقال من حالة التنظيم المتزمت المتعصب الذي يعبر عن نفسه من خلال عصابات أو تنظيمات دموية متناثرة لينتقل إلى مرحلة بناء الدولة الاسلامية المتزمة . ولا صحة للمقولة بأن قضايا التعصب أو التزمت الديني مثل الاغراق في الفصل بين الجنسين والحجاب الكامل وحجب المرأة ودورها عن المجتمع هي قضايا مشروعة بإعتبارها صحيحة ومنسجمة مع منظومة المُثـُل والقـِيَمْ والأخلاق العامة . فتنظيمات مثل داعش نادت بذلك في الوقت الذي قامت فيه ببيع المرأة أو البنت الصغيره للعبودية العامة والجنسية في سوق النخاسة بإعتبار ذلك أمراً مشروعاً ومسموحاً به دينياً ، بالاضافة إلى الدعوة إلى ممارسة "جهاد النكاح" الهادف إلى امتاع المجاهدين جنسياً بإعتباره أمراً مشروعاً ، في حين أنه عبارة عن نوع من أنواع الدعارة . فالمنع والسماح هما في الواقع أمران يتم استعمالهما بهدف تسهيل مهمة النجاح في الوصول إلى الأهداف المنشودة وفي التحول من وضع العصابة المسلحة إلى وضع الدولة الاسلامية . وهذا التحول هو مؤشر دموي لشئ جديد قادم بديلاً عن شئ قديم قائم .
إن التغيير المبني على هدم ماهو قائم واستبداله بشئ آخر جديد هو أمر متعارف عليه ، ولكن استعمال سلاح الخوف المبني على العنف العلني الجائر والمفتوح ضد الأفراد المدنيين ، والرعب المتخفي والنائم في ثنايا المجتمع المدني ومؤسساته ، هو ما حَوﱠل هذا النهج من أمر مُتـَعَارَفٌ عليه إلى "إرهاب" مرفوض . فالتغيير ، إذاً ، ليس هو المشكلة ولكن وسيلة التغيير الدموية من جهة والمُنـْتـَج النهائي لذلك التغيير من جهة أخرى هما لب المشكلة . والمعايير التي تحكم ذلك التغيير مثل التعصب والتزمت والقتل والاقصاء وعدم القبول بالآخر وغياب أي احترام لحقوق الانسان والانتقال بالمجتمع من الصفة المدنية إلى الصفة الدينية ، كل تلك أمور تجعل من المُنـْتـَجْ أمراً شيطانياً ملعوناً يشكل وجوده تهديداً للسلم المجتمعي وصحة وعافية المجتمعات المحلية والاقليمية بالاضافة إلى المجتمع الدولي واستقراره ، خصوصاً اذا ما تحول ذلك المُنـْتـَجْ إلى دولة تمارس الارهاب الدموي ضد مجتمعها المدني والمجتمعات المدنية لدول أخرى كوسيلة وكسياسة وكهدف .
"الارهاب" الذي انتقل من كونه شعاراً أو عنواناً ليصبح واقعاً مريراً مازال يفتقد إلى تعريف عادل تقبل به الشعوب أولاً . فالشعوب بالنتيجة هي مصدر الدعم لتلك التنظيمات المسماة بالارهابية ، وهي في الوقت نفسه الضحية الأولى لها .
لقد استعملت معظم دول العالم المتقدم اصطلاح "الارهاب" دون تفسير أو تحديد أو تعريف لماهية ذلك "الارهاب" . وقام الغرب بخلق نمطية اسلامية وعربية عامة لربط الارهابيين والارهاب بهما . وقد فتح ذلك المجال أمام بعض الدول خصوصاً أمريكا وإسرائيل لاستعمال هذا الاصطلاح ضد الآخرين ومنهم الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاحتلال ، مما جعل العديد من المجتمعات المناضلة ضد الاحتلال والظلم تنظر إلى مكافحة "الارهاب" على الطريقة الأمريكية والغربية كأداة استعمارية منحازة وموجهة ضدها .
إن عداء الغرب وأمريكا للمجموعات التي تعارض سياساتها ، وتصنيف بعضها كمنظمات ارهابية ، قد ساهم إلى درجة كبيـرة في خلق تيارات متعاطفة ، إن لم تكن داعمـة ، لتلك التنظيمات من منطلق أولوية الحق ، هذاالمنطلق الذي اختارت أمريكا وإسرائيل وإلى حد ما الغرب أن تتجاهله لصالح مصالحها .
إن محاولة أمريكا والعديد من الدول الغربية الدمج بين بعض المفاهيم الفكرية والمواقف السياسية من جهة و"الارهاب" من جهة أخرى ، قد أدىّ إلى خلق فوضى دولية في التعامل مع موضوع "الارهاب" ، لأن هذا المسار قد أدّى إلى خـَلـَقَ العديد من المنابر التي ترفض ذلك التصنيف الغربي للارهاب وتعتبره محاولة لإبتزاز الشعوب وإرغامها على تبني مسارات تتنافى وقناعاتها السياسية أو مصالحها الوطنية كوسيلة لمنع تصنيفها أو إتهامها من قبل العالم الغربي بأنها مؤيدة للارهاب أو متعاطفة معه . وقد لعب هذا الأمر دوراً كبيراً في خلق بيئة داعمة لبعض المنظمات التي تم تصنيفها من قبل الغرب بالارهابية . إذ من الصعب وجود قبول لدى الجماهير العربية أو الاسلامية بتصنيف حزب الله مثلاً أو حركة الاخوان المسلمين أو حركة حماس الفلسطينية بأنها حركات ارهابية مهما كان حجم المعارضة التي يكنها البعض لأي من تلك التنظيمات ، في الوقت الذي يتم فيه تجاهل ما تقوم به بعض المنظمات الصهيونية واسرائيل من أعمال القتل والتنكيل الوحشي ضد المجتمع المدني الفلسطيني .
إن تنظيمات مثل حركة الاخوان المسلمون قد لا تكون في واقعها ارهابية بقدر كونها النبع الذي يستلهم منه بعض الارهابيين فكرهم وتزمتهم وتفسيرهم الدموي لما يعتبرونه انحرافاً عن مجرى الدين كما يفهموه ، الأمر الذي يستوجب في نظرهم عقاب المخلوق للمخلوق في الدنيا عوضاً عن عقاب الخالق للمخلوق في الآخرة . وهذا الأمر لا يشكل بحد ذاته عذراً لتصنيف مثل تلك التنظيمات بالارهابية كون ذلك أقرب إلى الابتزاز منه إلى الحقيقة . وقد تكون الحركة الوهابية في المملكة السعودية مثلاً مسؤولة أكثر من غيرها عن خلق وتشجيع بل وفرض مثل هذا الفكر الديني المتزمت على المنطقة بهدف تحويل المجتمعات المدنية إلى مجتمعات دينية متزمتة تدور حول نفسها في حلقات جهنمية مفرغة لا نهاية لها .
..... يتبع (الجزء الثاني) الارهاب : الرفض والحرب أم القبول والتعايش أم ماذا ؟؟
بقلم د. لبيب قمحاوي*
2017 / 04/ 17
*مفكر ومحلل سياسي