تتجه أنظار المهتمّين بالشأن الفلسطيني اليوم إلى ما آلت إليه الأوضاع في قطاع غزة، و لربّما يكون ذلك حلقة جديدة من حلقات المأساة الغزّيّة التي تتجذّر في التاريخ منذ سنوات، و كأنّ أهلَ غزة مصرّون كل الإصرار على تأكيد الحديث النبوي الشريف : طوبى لمن أسكنَهُ اللّهُ تعالى إحدى العروسين غزّة و عسقلان..
حصارٌ خانقٌ له وقعٌ جديد هذه المرّة، فالظلام المجازي الذي عاشته غزّة سابقاً يتحوّل اليوم إلى واقعٍ حقيقيّ يقتاتُه المواطنُ الفلسطيني عندما تدركه سدنة المساء، فالتيار الكهربائي ينعدم، و يعود الفلسطينيون هناك إلى الطرق البدائيّة للحصول على الكهرباء..
واقعٌ مريرٌ يعيشه سكّان القطاع اليوم مع اندلاع أزمة الرواتب هناك، و التي بدأت تعمّق الشرخ الفلسطيني من خلال تحميل الأطراف الفلسطينية بعضها بعضاً للمسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع هناك .
طرفٌ يُلقي بالمسؤولية على مَن سمّاهم بالانقلابيين ، و يطالبهم بتحمّل تَبِعاتِ استقلاليتهم في القطاع، أو تسليم السلاح و العودة إلى أحضان السلطة الشرعية، بل راح يهدّدُ باستعادة قطاع غزة و لو بالقوة و مهما كان الثمن المترتب على ذلك، لتخليص أهالي قطاع غزة مما هم فيه..
في حين راح الطرف الآخر يتهم الأول بالولاء و العمالة لإسرائيل و كيل الحقد و الغضب على قطاع غزة بسبب سلاحها الموجّه ضد الصهاينة..
و بين زَيدٍ و عمرو، وقعت غزّة بين فكّي الانقسام الحادّتين، ليعيشَ أهلها اليوم في واقع الحصار و الانقسام والذي يدفع ثمنه اليوم المواطن الغزّي الذي يلتحفُ الظلام الدامس، و يرتقبُ مرتّبه الشهري المبتور الذي بَتَرَتهُ آلةُ الانقسام ..
ثمّ بعد ذلك يتساءل الفلسطينيون عن دور الدول العربية التي تشاهد ظلام غزة الدامس اليوم، في حين أنّها لم تحرّك ساكناً كعادتِها، و كأنّ الأمر لا يعنيهم، بل إنّ منهم من راح يؤازرُ الإسرائيليّين في تضييقهم الخناق على قطاع غزة، إمّا بوسائل مباشرة كإغلاق المعابر و المنافذ الحدودية، أو بوسائل غير مباشرة كاستخدام لسان التصريحات المشينة التي يكون الهدف من ورائها زيادة مسافة الانقسام الفلسطيني و استمرار معاناة أهالي قطاع غزّة الذين سيتجاوزون هذه المحنة بإرادة الله و دون أدنى شكّ ..
و ربّما تكون مكابدة المواطن الفلسطيني في قطاع غزة لِهمُوم الحياة اليومية، دَفَعَتهُ إلى صَمّ أذنيه عن التهديدات الإسرائيليّة بِشَنّ عدوان واسع عليه بذريعة سقوط صواريخ بين الفينة و الفينة على إسرائيل ، مصدرها قطاع غزة..
و كأنّ المواطن الفلسطيني يقول لإسرائيل : فلتفعلي ما تريدين، لا وقتَ لديّ للخوف من أسلحتك المحرّمة دولياً ، لأننّي مُنْهَمِكٌ و تَعِبٌ من سلاحٍ أحدّ و أقسى، ألا و هو سلاح التجويع و الانقسام..
و الجديرُ بالذّكْرِ أنّ مأساة قطاع غزّة ممزوجةٌ هذه المرّة بِعَلقَمٍ جديد لم تألفه من قبل إلا قليلاً ..
فارتفاع نسبةُ الجريمة هناك في الآونة الأخيرة واضحٌ للعيان، و بأحداثيّاتٍ غريبة الشكل و الأطوار، فأن يقتل رجلٌ زوجته ذبحاً بالسكين، يستوجبُ من الجميع التوقّف و التساؤلُ ، و أن يرمي لصٌّ رجلاً مُسِنّاً من الطابق الثاني بعد أن نهبَ رزقه، ليلاقي ذلك المُسِنّ مصرعه، كذلك يستوجب التوقّف و المساءلة و لو بسؤالٍ سِعرُه كلمةٌ واحدةٌ هي: لماذا؟
و أن يتشاجر أبناءُ العموم و الأقارب فيما بينهم و تكون لغةُ السلاح هي المدوّية، ليسيلَ الدمُ الفلسطينيّ مظلوماً مضطهداً جالباً مع سيلانه الدامي شماتةَ الأعداء، و من دار في فلكهم، فهذا كله يستوجب الوقوف و التساؤل عن الأسباب و الدوافع..
فإذا كان غيابُ الرادع الديني هو السبب، فلابدّ من تفعيل دور المساجد و منابر الجمعة في توعية الناس بالخطر المحدق، و تنبيههم من هذه الظاهرة و توعيتهم بحرمة دم المسلم.
و إذا كان غياب الرادع القضائي هو السبب، فلا بدّ من القصاص من القتلة، و تطبيق الأحكام العادلة بحقّهم، و عدم استخدام مصطلحاتٍ هشّة مثل : مدمن مخدّرات، أو يعاني من اضطرابات نفسيّة، والتي يكون المقصد من ورائها تبرئة القاتل أو التخفيف من حدّة الحكم الصادر بحقه..
ولكنْ ، و إن كان السببان السابقان دفعا القاتل إلى ارتكاب جريمته، إلّا أنّ السبب الحقيقي الذي يكمن وراء ارتفاع نسبة الجريمة في قطاع غزة، هو الحالة المأساوية التي يعيشها القطاع اليوم، فالجوعُ كافرٌ ، و الهَمُّ هو العدوّ الأول للإنسان، و معظم الدراسات القانونيّة أكّدت أنّ وراءَ كل جريمةِ قتلٍ همّاً أو فقراً أو تقصيراً قضائياً ..
إذاً لِتُعالَج المسألة من جذورها و ليُنْهَ الانقسام، و لتتظافر الجهود مع بعضها البعض لإيجادِ حلول سريعة لأكبرِ كارثةٍ يعيشها قطاع غزة اليوم..
عبد السلام فايز / كاتب فلسطيني