نظرياً، يفترض أن تزامن إعلان حماس عن وثيقة سياسية جديدة، مع قيادة جديدة على رأسها الأخ إسماعيل هنية، يعني أن حماس أمام مرحلة جديدة، ولكونها، حركة فاعلة وقوية، وجزءا أساسيا من مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية، فإن الوضع الفلسطيني، أيضاً، سيكون أمام مرحلة جديدة.
هذه الفرضية الصحيحة نظرياً ومن حيث المبدأ لكونها تنطبق على حماس كما تنطبق على ظواهر مشابهة في أماكن كثيرة، تعني، أيضاً، أن الترحيب الذي حظي به هذان الحدثان، يرتبان على حماس أن تقدم خطاباً وسلوكاً مختلفاً عما قبل.
لندع جانباً المنطق النقدي، والملاحظات التي تنطوي على تشكيك وقراءات سلبية لنرى الجزء المملوء من الكأس وذلك انطلاقاً من حق المواطن الفلسطيني في أن يحقق بعضاً من تطلعاته، إزاء العديد من القضايا والهموم التي أرهقته أيما إرهاق، فضلاً عن أنها أرهقت القضية الفلسطينية.
لا نقصد بطبيعة الحال، أن الوثيقة، لا تحتمل تسجيل العديد من الملاحظات والعديد من الانتقادات، ولا، أيضاً، أنها لا تحتمل تفسيرات متباينة، بعضها ينطوي على إسقاطات ذاتية، تقوم على مبدأ الشك، والاختلاف الشامل والكلي مع الحركة مهما كانت برامجها، ومهما كانت سلوكياتها.
في كل الحالات، فإن الوثيقة الجديدة، والقيادة الجديدة، ستخضع منذ إعلانها لاختبارات الواقع والممارسة، فلقد أجاد العرب عموماً في فن الكلام ولكنهم أجادوا، أيضاً، فن التناقض بين الكلام وبين الأفعال، وهذه السمة واحدة من أسباب الوضع المتردي الذي تعيشه الأمة العربية.
عن الوثيقة وهي فعلاً جديدة، وتعكس تجديداً واضحاً وملموساً في منطلقات الحركة، وفي فكرها السياسي، من المحظور والخطأ محاكمتها وتقييمها انطلاقاً من رؤى، تنتظر من حماس، أن تتحول إلى حركة علمانية، ديمقراطية أو ليبرالية وأن تغادر كلياً منطلقاتها الفكرية، وتتنصل من تاريخها، وشهدائها وأسراها وأعضائها ومناصريها.
الوثيقة تجدد الفكر السياسي لحركة حماس المعروفة بانتمائها العقائدي، ولو لم يكن الأمر كذلك، لكان على مؤسسيها، الانخراط في أحد فصائل العمل الوطني، والتي تعكس تنوعاً شديداً يستوعب كل الأفكار والمنطلقات ما عدا المنطلقات الإسلامية كأيديولوجيا.
لا تتطلع حماس لأن يكون مثل هذا التجديد، لذاتها وفي ذاتها، بل هي تسعى لأن تجدد ذاتها، لكي تكون قادرة على التعامل المختلف مع الكل الفلسطيني، في دائرة الصراع المحتدم مع الاحتلال، ولكي تكون قادرة، أيضاً، على التعامل مع الأوضاع العربية والدولية، المتبدلة، والتي تخضع لقوانين التغير المستمر، وغير المستقر على حال ما.
إذا كان الأمر كذلك، فإن آليات وحركية التعامل مع مضامين الوثيقة، واحداث التغيير في السلوك، لا يمكن لها أن تنجح إن هي بدأت بالعوامل الخارجية، بمعنى البدء بتحسين العلاقات مع المحيطين العربي والدولي.
في الحقيقة فإن هذا الاختيار كأولوية للحركة والتغيير، محكوم بالفشل سلفاً، إذ سيبدو أنه محاولة لتوظيف التحسن في العلاقات الخارجية للضغط على الحالة الفلسطينية الداخلية، فضلاً عن ذلك فإن من الصعب أن تحقق حماس حتى في ظل وثيقتها الجديدة، اختراقاً في جدار علاقات مع أطراف فاعلة تتمسك بأولوية التعامل مع الشرعية الفلسطينية ومع منظمة التحرير الفلسطينية، التي فرضت بنهجها السياسي، على الكل بما في ذلك الاحتلال، أولوية التعامل معها.
لا يعني ذلك أن حماس، ستجد نفسها أمام أبواب مغلقة، وربما تحقق، تحسناً في علاقاتها مع عديد الأطراف العربية والدولية، لكن كل هذه الأطراف ستدعوها مجدداً، لإعادة صياغة وضعها ضمن النظام السياسي الفلسطيني.
وحدها إسرائيل ستعمل كما دائماً على خط اللعب على التناقضات الفلسطينية من واقع التزامها بسياسة تعميق ظاهرة الانقسام الذي يشكل خطراً متزايداً على الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية، ومؤسسات صنع القرار الفلسطيني بما في ذلك حركة حماس ذاتها.
إذاً فإن أولوية الحركة والتغيير ينبغي أن تبدأ من الداخل الفلسطيني، ومظاهر هذا التغيير تتجسد في عدد من العناوين العامة أولها ما يتعلق بإنهاء الانقسام، وإعادة توحيد المؤسسة، والصفوف، يساعدها في ذلك اقترابها من البرنامج السياسي لمنظمة التحرير، أما العناوين الأخرى فتتصل بإعادة النظر في علاقتها بالمجتمع، حتى المجتمع الغزي، حيث دأبت منذ وقوع الانقسام على إدارة جماعة وليس إدارة مجتمع. يقال إن الجمل لا يرى اعوجاج رقبته، ولذلك سيدافع أنصار الحركة عن دورها، وربما يتهمونني بالتحامل على الحركة، ولكن من يبحث عن الجواب الصحيح، فإن عليه أن يذهب إلى المجتمع غير الموالي لحركة حماس.
وإذا كانت الحركة من خلال وثيقتها الجديدة، ملتزمة بما ورد فيها عن الشراكة والتعددية، والحوار، وحق الاختلاف والاعتراف بالآخر، فإنها معنية بإصلاح علاقاتها مع القوى الوطنية والمجتمعية، وتقديم نماذج مختلفة عن حالة التفرد والهيمنة، والاحتكار التي تمارسها في العمل السياسي.
ثمة أخيراً حاجة لفحص مصداقية الوثيقة، ومدى الالتزام بها، إزاء ما تدعيه بشأن الديمقراطية، وصناديق الاقتراع.
هناك حاجة ماسة لإطلاق الحريات تجاه إجراء الانتخابات وتجديد الشرعيات المضروبة على صعيد النقابات والاتحادات الشعبية، واللجان الطلابية ومؤسسات المجتمع المدني.
في الضفة تجري مثل هذه الانتخابات، ويتاح للجميع المشاركة وفي انتخابات الطلبة، تفوز أحياناً كتلة حماس، أو تتدنى النسب التي تحققها حركة فتح، وبالتالي فإن الانتخابات في المؤسسات المطلبية والحقوقية لا تحتاج إلى قرارات وطنية، ولا تنتظر المصالحة.
هموم قطاع غزة متكاثرة وأزماته عميقة واحتياجاته كثيرة، فإن كانت حماس لا تستطيع معالجة بعضها مثل قضية أزمة الكهرباء ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ أو قضية المعابر، فإن بإمكانها، أن تتصدى للظواهر الاجتماعية التي تتصاعد فيها الاعتداءات على الناس، من سرقات إلى عمليات خطف، إلى استدعاءات أمنية لا طعم لها.
أخيراً، فإن اختيار إسماعيل هنية رئيساً للمكتب السياسي للحركة، يدعونا للتفاؤل أولاً، لأن ذلك يعني انتقال ثقل القرار في الحركة لفرعها في قطاع غزة، وهو أمر طبيعي نظراً لما يتحمله هذا الفرع من أعباء ثقيلة، ولما تمثله الحركة من ثقل.
وثانياً، لأن هنية ابن غزة، ومخيم الشاطئ وهو لا يحتاج إلى من يشرح له عن بعد، طبيعة الأزمات والمشكلات والهموم التي يعاني منها الناس.
أخيراً، فإن هنية يتميز بشخصية مقبولة، مرنة، مريحة، وعلاقات جيدة مع القيادات الفلسطينية، وبالإجمال، فإن مميزاته تتناسب وتنسجم مع محتويات الوثيقة التي تنطوي على اعتدال واضح.
طلال عوكل
2017-05-08