تسعة وستون عاما على النكبة الفلسطينية ، منذ أن احتل الغزاة الصهاينة أرض فلسطين عام 1948، وعاثوا فيها قتلاً وتدميراً وخراباً ، وطردوا معظم سكانها من أراضيهم وقراهم ومدنهم إلى خارج أرض الوطن ليصبحوا لاجئين يسكنون مخيمات اللجوء ، وتصبح لهم قضية عرفت بقضية اللاجئين التي باتت أبرز صورة من صور القضية الفلسطينية .
تسعة وستون عاماً والنكبة يتعمق جرحها في الجسد الفلسطيني ، فقد فـَقـَدَ الفلسطيني هويته الوطنيّة الفلسطينية ، وغاص في وحل المخيمات حيث سـُدت عليه الأبواب ومنعت عليه الطرقات ، لكنه في اللحظة الحرجة من التيه انفجر ثورة مسلحة في الفاتح من عام 1965 ، لتعيد له هذه الثورة هويته الوطنية عبر فوهة البندقيّة التي راح يقارع بها الاحتلال الصهيوني لأرضه ، معبّراً بذلك عن حقيقة الصراع العربي الصهيوني بأنه صراع وجود ، صراع على الأرض وليس نزاعاً على الحدود ، مؤكداً عبر منطلقات وأهداف الثورة الفلسطينية بكل فصائلها بأنّ الكيان الصهيوني الذي فرض نفسه بدعم مطلق من الدول الاستعماريّة وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية هو مشروع استعماري صهيوني استيطاني يحقق مصالح الاستعمار في المنطقة العربية خاصة وفي منطقة الشرق الأوسط عامة ، وأنّ المشروع الوطني الفلسطيني هو النقيض لهذا المشروع الاستعماري الذي أصبح سيفاً مسلطاً على الشعب الفلسطيني وتهديداً عسكرياً مباشراً للأمة العربية بكافة أقطارها .
تسعة وستون عاماً استطاع العدو الصهيوني أن يهزم فيها الأمة العربية بدءاً من حرب 1948 إلى حرب حزيران 1967 وإلى حرب 1973 إضافة إلى عدوانه المتكرر على جنوب لبنان وقطاع غزة ، محققاً وبالتعاون مع المحيط العربي تحجيم الثورة الفلسطينية وإنهاء وجودها في دول المواجهة ، عاملاً بذلك على إخراج الدول العربية من دائرة الصراع العربي الصهيوني وتقزيمه إلى صراع فلسطيني صهيوني الذي تحول بدوره اليوم من صراع وجود إلى نزاع حدود ، حيث استطاع أن يجر الفلسطينيين إلى مربع الاعتراف به كدولة ذات سيادة على أرض فلسطين ، دون أن يعترف هو بحق الفلسطينيين بدولة لهم على أرضهم ، وأصبح الفلسطينيون بذلك أسرى الرؤية الصهيونية لحل النزاع الصهيوني الفلسطيني ، فالسلام المطلوب صهيونياً اليوم ليس سلام الشجعان ، وليس السلام العادل المتكافىء ، وإنما السلام مقابل الأمن ، فالسلام المطلوب صهيونياً هو السلام الذي يحقق الأمن الداخلي للكيان الصهيوني ، وقد تعاطى الفلسطينيون مع هذه المعادلة أملاً بضغط أمريكي من أجل قيام دولة فلسطينية على ما تبقى من الأرض الفلسطينية بعد أن انقسمت الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 إلى كيانين متصارعين لا يملكون من مقومات الكيان إلا ما يجعلهما في صراع دائم وأن بعـُدت الشـُقة بينهما .
تسعة وستون عاماً أضاع الفلسطينيون ما أنجزوه خلال سنواتهم الخمسين الماضية وهو منظمة التحرير الفلسطينية التي استمات الفلسطينيون من أجل أن تكون هي الممثل الشرعي والوحيد لكل الشعب العربي الفلسطيني ، وإذا بالمنظمة بعد أن فرضت نفسها على الساحة العربية والدولية وكان لها حضور قوي في كل مكان تنكفىء على ذاتها بعد اتفاق أوسلو ويصيبها الوهن والضعف والضمور وتصبح رهينة بكل أركانها للسطلة الوطنيّة التي هي إنجازها بدل أن تكون السلطة الوطنيّة هي أداة من أدوات منظمة التحرير الفلسطينية .
تسعة وستون عاماً على النكبة لم تكن كافية لوحدة وطنية فلسطينية تعبّر عن وحدة الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده ، في الأرض المحتلة عام 1948 وفي الأرض المحتلة عام 1967 وفي مخيمات اللجوء في الشتات ، لأننا لم نتوافق على أدوات النضال ضد الاحتلال ، بل أصبح الكفاح المسلح أحد أدوات النضال ملاحقاً سياسياً وقانونياً وقضائياً ، بينما المقاومة الشعبيّة لم تتجاوز المكان والزمان اللتان انطلقت فيهما .
تسعة وستون عاماً على النكبة يتحول خلالها الخطاب السياسي الفلسطيني لنقض الرواية الفلسطينية في حقيقة الصراع العربي الصهيوني أو حتى الصراع الفلسطيني الصهيوني بأنّ فلسطين محتلة منذ خمسين عاماً فقط ، متناسين أنّ فلسطين ليست الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 وإنما هي كل الأرض الممتدة من البحر إلى النهر ، هذه الأرض التي غزاها الصهاينة قبل مؤتمرهم الصهيوني الأول عام 1897 ، وأنّ العمر الحقيقي للقضية الفلسطينية تجاوز المائة والعشرين عاماً ، هذا الزمن كان كفيلاً بأن يكون خطابنا السياسي والإعلامي خطابا مقاوماً للاحتلال الصهيوني لا مترادفاً معه ، فأصبح المصطلح الذي يفرضه العدو الصهيوني علينا هو مفردات خطابنا اليومي ، فلم يعد الاحتلال احتلالاً صهيونياً بل أصبح وبكل أسف احتلالا ( اسرائيليا ً ) ، وهناك فرق كبير بين الاحتلالين ، احتلال معترف بحق وجوده كدولة ذات سيادة وهو الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948 ، واحتلال تراجعنا عن مقاومته هو الاحتلال ( الاسرائيلي ) للأرض الفلسطينية عام 1967 ، وهذا ما يدلل على تساوقنا مع المصطلح الذي يرضي عدونا ويبعدنا عن جوهر الصراع معه .
تسعة وستون عاماً والنكبة الفلسطينية تتجدد اليوم بقانون ( القومية ) ، فالغزاة الصهاينة يشعرون اليوم أنهم أصبحوا قادرين على إعلان دولتهم وطنا قومياً لليهود على أرض فلسطين ، هذا الوطن الذي وعدهم به بلفور قبل مائة عام ، والذي منحهم أياه قرار التقسيم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة علم 1947 ، هذا القرار الذي شطب اسم فلسطين جغرافياً وسياسياً مقسماً إياها إلى دولتين ، دولة عربية ودولة يهودية منهياً بذلك مرحلة الوجود الفلسطيني بشقيه التاريخي والقانوني ، فلذلك يقوم الصهاينة اليوم بتوصيف دولتهم بأنها البيت اليهودي وأنها الوطن اليهودي عبر قانون الوطن والقومية الذي مرروه على كنيسهم ونال الموافقة على القراءة الأولى له ، حيث يؤدي قانون القومية هذا إلى تشديد الحصار على أبناء شعبنا الفلسطيني الذين تمسكوا بأرضهم الفلسطينية المحتلة عام 1948 ، والذين عبروا عن ذلك بمسيرة العودة إلى قرية الكابري قضاء عكا التي نفذوها يوم الثاني من هذا الشهر ، كما عبروا بالأمس عن ذلك بمسيرة العودة التي ساروا بها إلى قرية الريان في منطقة أم الفحم .
ففي الذكرى التاسعة والستين للنكبة الفلسطينية يجد شعبنا نفسه محاصراً من جميع الجهات وخاصة بقانون القومية الذي يهدد أهلنا في داخل الـ 48 بطردهم من أرضهم ، على حين يجد اللاجئون الفلسطينيون أنفسهم في ظل قانون القومية أمام تهديد جديد بشطب قضية اللاجئين وإلغاء حق العودة ولا سيما أنّ المبادرة قد ساهمت في ذلك بأن حل قضية اللاجئين وعودتهم يتم وفق متفق عليه وليس تنفيذا للقرار 194 .
وفي الذكرى التاسعة والستين للنكبة أصبحنا مطالبين اليوم بأن نعيد النظر بإرثنا النضالي ضد الغزاة الصهاينة بأن نعيد الأمور إلى نصابها بالتأكيد على أنّ مشروعنا الوطني الفلسطيني المعبّر عن كامل حقوقنا الفلسطينية هو المشروع النقيض للمشروع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني ، وأنّ الولايات المتحدة الأمريكية ليست مجرد حليف أو صديق للكيان الصهيوني وإنما هي صاحبة هذا المشروع الاستعماري على أرضنا ، وأن الرهان على الولايات المتحدة هو رهان خاسر ، لأنه لا أحد يراهن على عدوه بأنه يمنحه حقوقه ، وعدوه يرى فيه الضعف والوهن ، فلماذا نجدد نكبتنا بأيدينا ونسمح لعدونا أن يتمادى علينا قدر ما يستطيع .
في الذكرى التاسعة والستين لنحوّل معركة الأسرى إلى حالة استنهاض جماهيرية فلسطينية عامة من خلال عودتنا جميعاً إلى وثيقة الأسرى ، وثيقة الوفاق الوطني ، لنجسدها واقعاً عملياً على الأرض موحدين على أساسها في مواجهة عدونا الصهيوني الذي يحتل أرضنا منذ نكبتنا في عام 1948 .
بقلم/ صلاح صبحية