في مثل هذا اليوم فقدت مدينة القدس علماً من اعلامها،وقائداً ورمزاً شكل عنواناً ومرجعيةً لأهلها،ولعل رحيله شكل خسارة لكل المقدسيين،وهذا واضح من حجم المشاركة الشعبية الكبيرة في جنازته التي خرج فيها كل المقدسيون لوداعه،فهي تثبت حجم الفاجعة والخسارة التي حلت بالمقدسيين برحيله،وقيمة وشعبية وجماهيرية هذا الرجل عندهم،حيث يجمع الجميع بان الحسيني قائد وطني بإمتياز،كان محط ثقة وإجماع وإحترام المقدسيين،والراحل القائد الحسيني كسب ثقة المقدسيين وإحترامهم،لا من خلال إرث وتراث ووطنية والده القائد الشهيد عبد القادر الحسيني فقط،بل استحقها عن جدارة في سياق صيرورة عملية،كفاحية،نضالية،مجتمعية وجماهيرية متواصلة،فهو على الصعيد الشخصي إمتلك "الكاريزما" القيادية،وابتعد الى حد كبير عن الفئوية،وكان حاضنة وعنواناً توافقت عليه كل مركبات ومكونات العمل الوطني والسياسي والمجتمعي الفلسطيني،حيث وجدت في مؤسسة بيت الشرق التي يقودها،عنوانا سياسيا تستطيع من خلاله مخاطبة سفراء الدول الأجنبية والزوار من الوفود الأجنبية،لكي تطلعها على ما تتعرض له مدينة القدس من إجراءات قمعية وإذلالية من قبل دولة الإحتلال،وما تقوم به من اعمال وتعديات وتجاوزات بحقهم خارجة عن القانون الدولي،وتشرح لها كل ما يتصل ويتعلق بالموقف الفلسطيني من مجمل قضايا المنطقة وفي مقدمتها الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي...والحسيني بطيبته وبساطته واخلاقياته المسيحية التي تربى عليها في بيته وحركة القوميين العرب التي انتمى اليها وعدم تلوثه بالفساد الذي طبع ويطبع الكثير من العاملين في السلطة ومؤسساتها بنسبة كبيرة،وقربه من الناس وهمومهم وتطلعاتهم،ومشاركتهم في أتراحهم واحزانهم،والوقوف على تفاصيل حياتهم،وكذلك المساهمة الجادة في إيجاد حلول لهم لما يتصل بمشاكلهم في العلاقة والصراع على الوجود في القدس مع الإحتلال،جعلت هذا الرجل يمتاز ويتميز عن وعلى غيره ممن عهد اليهم بقيادة ملف القدس،رغم العديد من العراقيل والعقبات التي وضعت له في الطريق،ومحاولة خلق البدائل والمنافسين،حيث كان هناك هاجس عند البعض بأن الحسيني،قد يشكل بديلاً لهم كقيادة وعنوان،ولكن كل هذا لم يجعل الحسيني يتراجع عن دوره او يفقده مكانته وحضوره الطاغي بين اهل القدس...فالقدس سكنت في عقله وقلبه كمقدسي أصيل،كان جل إهتمامه بان لا نخسر معركتنا في صراعنا مع المحتل على المدينة،هذا المحتل الذي يملك من الطاقات والإمكانيات والقدرات عشرات،بل مئات أضعاف ما نملك...ولذلك كان حريص على ان يوفر للمقدسيين أقصى ما يستطيع من مال وإمكانيات وحلول تمكنهم من الصمود والبقاء،حتى انه في اكثر من محطة ومناسبة وقضية وضائقة لجأ لإقتراض الأموال من اجل المصالح العامة للمقدسيين،كان بيته ومكتبه محجاً لكل أبناء الشعب الفلسطيني حتى من خارج مدينة القدس،حيث يتوسم فيه أبناء شعبه الخير والعطاء،ولذلك كان دوماً عنوان توحيد وتجميع،لا عنوان فرقة وإنقسام،شعاره الدائم القدس فوق الجميع.
مع رحيل أبا العبد الحسيني،الكل في القدس متفقين على انهم اصبحوا أيتاماً،لا عنوان او مرجعية لهم،رغم وجود اكثر من عشرة مرجعيات وعناوين تنطق باسم القدس،ولكنها للأسف ليست محط ثقة وإجماع وإحترام المقدسيين،بل ينظر لها المقدسيون على انها يافطات ودكاكين،إستحدث البعض منها من اجل حل خلافات وإشكاليات ومواقع لهذا القائد او ذاك،ليس لها علاقة او حضوراً او مساهمة في معالجة جادة وحقيقة لما يواجه المقدسيون من حرب شاملة تشن عليهم من قبل دولة الإحتلال وبلديتها ودائرة معارفها واجهزتها المختلفة،من اجل طردهم وتهجيرهم عن مدينتهم،عبر مجازر ترتكب بحق البشر والحجر والشجر،مجازر الإقتلاع والطرد والتهجير القسري،وخنقهم حتى في أدق تفاصيل حياتهم اليومية،ودفعهم نحو الإحتراب العشائري والقبلي والطائفي والجهوي،وتفكيك وتدمير نسيجهم المجتمعي والوطني،وأسرلة وعي أبنائهم وتطويعه وصهره،عبر فرض منهاج التعليمي الإسرائيلي عليهم من المرحلة الإبتدائية.
إن من يتحمل المسؤولية المباشرة في تعدد العناوين والمرجعيات،وحالة "التوهان" والضياع التي يعاني منها المقدسيون،نتيجة التضارب والتنافس فما بينها،هو المستوى السياسي ممثلاً باللجنة التنفيذية وقيادة السلطة الفلسطينية،والتي هي من يمتلك القرار والصلاحية،في توحيدها ووقف حالة التشرذم والتعددية فيها،وتبديد وهدر المال العام على مثل هذه المرجعيات،التي لا يلحظ لها أي فعل وعمل جدي لخدمة أبناء المدينة،وبالذات القرى والبلدات الواقعة تحت مسؤولية وسيطرة بلدية الإحتلال،ومن هنا أقول بانه آن الاوان لكي يتم وضع النقاط على الحروف،بان تتحرك المرجعيات السياسية لكي تستجمع كل الإمكانيات والطاقات،عبر مرجعية وعنوان واحد،تتفرع عنه عناوين ولجان ذات إختصاص،فالمقدسيون وصلوا حالة الكفر،بكل ما هو قائم،ويعتبرون بأنهم أصبحوا فئران تجارب ومصدر رزق ودخل و"شحدة" و"تسول" للبعض ولكن دون ان يقدم لهم من دعم ومال وإمكانيات وحتى مواقف سياسية،بما يمكنهم ويعزز صمودهم وبقاءهم.
في الذكرى السادسة عشرة لرحيل امير القدس وفارسها،نقول آن الآوان لنا كمقدسيون ان نغادر لغة الندب والبكاء والتشكي،وان نستجمع كل طاقاتنا وإمكانياتنا ونوحد جهودنا وإمكانياتنا عبر مرجعية شعبية علنية يجري فرضها على صناع القرار بان تكون العنوان التمثيلي لأهل القدس،فيما يتصل بهمومهم ومشاكلهم اليومية،فالقدس تهود وتأسرل في تسارع غير مسبوق،ولن ينفعنا ولن يفيدنا،استمرار الجدل البيزنطي حول جنس الملائكة ذكر أم انثى...الخطر داهم،جدي وحقيقي،فحكومة الإحتلال عقدت جلستها الحكومية على بعد عدة امتار من الأقصى،ومشاريعها التهويدية لا تتوقف،وكذلك هي مشاريع أسرلة وصهر الوعي الطلابي،وقادة الإحتلال يقولون بان القدس لنا موحدة غير مقسمة وعاصمة أبدية،والتهويد يتم بالأقوال لا بالأفعال،حسب وصف المتطرف بينت،ونحن مستمرون في رفع الشعارات وبيانات الشجب والإستنكار و"الهوبرات" و"الزعبرات" الإعلامية،بان القدس عاصمتنا الأبدية،والقدس خط احمر،دون ترجمة فعلية لذلك على الأرض،فهل نصحو مما نحن فيه وننقذ قدسنا من الضياع،ام نستمر في جدلنا البيزنطي حول جنس الملائكة ذكر ام أنثى ...؟؟.
بقلم/ راسم عبيدات