القصور الأموية في القدس

بقلم: حنا عيسى

 (تعتبر منطقة جنوب المسجد الأقصى والقصور الأموية منطقة هامة جدا في العقلية الاسرائيلية الداعية إلى بناء مدينة داود المزعومة وإقامة الهيكل المزعوم)

مقدمة تاريخية: القدس في عصر الأمويين

الفترة الأموية (661م – 750م)

نشب نزاع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان على الخلافة، انتصر في النهاية بنو أمية، وأقاموا سنة 661م أول دولة يرث فيها الخلفاء السلطة عن آبائهم، كما انهم نقلوا عاصمة الخلافة من المدينة المنورة إلى دمشق. أعلن معاوية بن أبي سفيان نفسه خليفة، واستهل عهده بالذهاب إلى بيت المقدس، حيث تمت البيعة له في العام 661م، وظهر اهتمام معاوية بالقدس من خلال ترميم سورها والعناية ببساتينها وغاباتها، ولعبد الملك بن مروان وابنه الوليد أعمال خالدة في القدس ما زال بعضها قائما إلى اليوم، فبناء المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة هما من أعمال عبد الملك والوليد، وقد رصد عبد الملك لبناء قبة الصخرة وحدها خراج مصر سبع سنين، كما عبّد طريق القدس إلى الشام، وطريق القدس إلى الرملة. أما الوليد، فقد بويع بالخلافة ـ فيما يقال ـ على سطح الصخرة المقدسة، وواصل عمل أبيه في بناء المسجد الأقصى حتى أتمه، ورتب له الخدم والرعاة لصيانته.

القصور الأموية في القدس:

بنى عبد الملك وابنه الوليد قصورا في القدس، إلا أن زلزالا شديدا دمر هذه القصور.

قامت القصور الأموية وفق مبدأ موحد وشكل معماري متماثل، فالقصر الأموي يمتلك التفاصيل نفسها التي تبدأ من السور المحيط بالمبنى ثم الصحن الداخلي الذي تشرف عليه أروقة تعقبها غرف في طبقة واحدة أو طبقتين، ويتخذ السور الخارجي طابع التحصين بعيداً عن الفتحات والزخارف.

الفن المعماري الأموي هو الفن الذي انسجم أولاً مع التقاليد والمناخ ومع ضرورات الوظيفة وشروطها، ويتجلى بهاء الفن والزخرفة بالآثار المكتشفة في مناطق هذه القصور، ففي القصور الثلاثة في القدس التي بناها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أو قصور ابنه الخليفة الوليد بن عبد الملك نجد أن كلاً منها محاط بجدران خارجية ذات أبراج دائرية في الزوايا وأبراج نصف دائرية في منتصف كل ضلع.

وقد كشفت التنقيبات عن أجزاء من هذه القصور المتهدمة تصل إلى إرتفاع أربعة أمتار، ولوحظ أن أسوار القصور يفصلها عن الحرم شارع عرضه 430 سم، كان مبلطاً ببلاط صقيل بأبعاد 25×35 سم و60×70سم. وآثار هذه القصور الثلاثة تدل على وجود أحدها جنوب سور الحرم والثاني غربه، أما القصر جنوب الحرم كبير أبعاده 48×96م، وله باب من جهة الشرق وآخر من الغرب، وفي الوسط فناء محاط بأروقة وراءها غرف واسعة يبلغ طولها 17م أو 20م، ولقد عُثر في هذا الموقع على أعمدة وتيجان وقطع من الدرابزين، كما عثر على زخارف ملونة في الجناح الغربي.. أما المبنى الآخر فهو أصغر مساحة، ولكنه يشابهه في المخطط، والمبنى الثالث أيضاً مشابه في مواد إنشائه وطرازه وفسيفسائه للبنائين السابقين.

أما قصر الخربة الذي بناه الوليد بن عبد الملك، فهو بناء مساحته 73×67م، تقوم فيه زوايا وأبراج مستديرة، وله في الوسط من الناحية الشرقية باب ضخم يحيط به برجان من الجانبين، ويمتاز هذا الباب بقبته المربعة التي يقوم في كل من جانبيها نصف برج، وكانت القبة مفتوحة. كان للقصر قاعة مزينة بتيجان مرمرية، ويلي ذلك البهو العظيم ذو الأجنحة الثلاثة، وهو مربع ضلعه 20م، ولقد كسيت أرضه وجدرانه إلى ارتفاع مترين بالمرمر، وفي أعلى الجدران كانت الفسيفساء الزجاجية والنباتية، والبهو كان مسقوفاً بالقرميد المائل، ويجاور البهو خمس حجرات فرشت بالفسيفساء الحجرية بلون أسود وأبيض أو أحمر فاتح وأحمر قاتم أو أصفر مع البني.

ولا يختلف قصر المفجر الذي بناه هشام بن عبد الملك عن باقي القصور الأموية في مخططه وأبعاده، فهو شبه مربع وضلعه 64.50م. وفي أركانه الأربعة أبراج دائرية مدعّمة، وفي منتصف الجدارين الشمالي والغربي أبراج نصف دائرية، وفي الجنوب برج رباعي يضم محراباً لعله كان مئذنة، كان صحن القصر واسعاً 28×29)م).

ويحيط بالصحن أروقة فوقها شرفات الطبقة العليا، وأرض الصحن مبلطة ببلاط أسود وتحته مصارف للمياه حسنة التنظيم.

إمتاز هذا القصر بزخارفه الفسيفسائية المهمة جداً، والمؤلفة من مكعبات حجرية ملونة تشكل صوراً تشبيهية أو زخرفية رائعة التصميم والتنفيذ.

كانت المنحوتات الحجرية لرجال ونساء كاملة أو نصفية موجودة في الداخل وتعتمد على دعائم الأقواس الجانبية، وكانت تقوم بين دعائم هذه الأقواس تماثيل لأشخاص ذكور كانوا يحملون أوراق الخرشوف فوق صف من الخراف. ويتألف عنق القبة من اثني عشر تجويفاً محرابياً يقف في كل منها تمثال ذكر أو أنثى متتاليين، وتضم واجهة المدخل محرابين عثر في أحدهما على تمثال يعتقد أنه للخليفة هشام بن عبد الملك، وذلك بمقارنته مع تمثال هشام في قصر الحير الغرب، وثمة تماثيل كانت تملأ المحاريب القائمة على جدران القاعة، وهذه التماثيل أحد أوجه أهمية قصر المفجر.

الحفريات

تعتبر منطقة جنوب المسجد الأقصى والقصور الأموية منطقة هامة جدا في العقلية الاسرائيلية الداعية إلى بناء مدينة داود المزعومة وإقامة الهيكل المزعوم.

بدأت الحفريات في هذه المنطقة منذ عام 1868 حين حفر تشارلز  وارن مجموعة من الحفريات عند الزاوية الجنوبية الشرقية من المسجد الأقصى المبارك، حيث حفر نفقا طولياً على بعد 34 متر من الزاوية المذكورة، عند الباب المنفرد بالجدار الغربي للمسجد الأقصى، وأجرى كذلك عدة حفريات عند منطقة البوابة الثلاثية التي تطل على المصلى المرواني داخل الأقصى، وقال وارن: "أن حجارة هذه البوابة لا تشبه أبدا حجارة حائط البراق السفلية، بل تعود هذه الحجارة إلى القرن السادس والسابع ميلادي أي الفترة الإسلامية الأموية". وقد زعم وارن أن حجارة البراق السفلية من آثار الهيكل المزعوم، ونفى أن تكون حجارة الجدار الجنوبي والبوابة الثلاثية من حجارة الهيكل.

لقد كانت نتائج الحفريات التي قامت بها العالمة البريطانية كينيون منذ عام 1961 في جنوبي الحرم، وفي بساتين الأرمن، وقرب بوابة دمشق، وفي منطقة المرستان، مخيبة لجميع الآمال الاسرائيلية، بل كشفت عن خطأ التأويلات التوراتية للمكتشفات الأثرية السابقة.

وعندما كانت كينيون تبحث عن الهيكل في جنوبي الحرم الشريف، عثرت فقط على آثار ثلاثة قصور ومسجد.

لم يقتنع الاسرائيليون بنتائج وارن وكينون، فعمدوا إلى خلق المزاعم والأكاذيب. بدأ بنيامين مزار بحملة حفرياته المشؤومة في المنطقة عام 1968م واستمرت ستُ سنوات، ادعى فيها أن البوابة الثلاثية التي يبلغ عرضها قرابة 15 مترا هي أحد بوابات الهيكل الثاني المزعوم، وأن الدرجات الأثرية الموجودة أمامها من بقايا فترة الهيكل الثاني.

تابع مائير بن دوف عمليات الحفر، حيث كشفت عن 6 قصور أموية تتوزع على طول السور الجنوبي حتى الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد الأقصى بجوار القوس الأموي. قال مائير أن هذه الآثار وجدت بين سنوات 660م و 750م، وهذا الاكتشاف لمائير بن دوف أثبت عدم صحة النظرية التي زعمها مزار حول تلك الآثار، ومع هذا فقد تبنى مائير نظرية مزار حول البوابة الثلاثية!.

استمرت الحفريات في هذه المنطقة حتى قامت دائرة الآثار الاسرائيلية ببناء درج تهويدي بمزاعم توراتية بثلاثين درجة وعلى امتداد 64 متراً،  وذلك في عام 1999م تمهيداَ للسيطرة على البوابة الثلاثية. وفي عام 2001م افتتحوا متحفاً على نفقة الثري "ديفدسون" في المنطقة الجنوبية الغربية من القصور الأموية، وأصبحت الساحة تعرف بـ "ساحة الاحتفالات" وحديقة أثرية تعرف بـ "حديقة المطاهر".

في الفترة الأخيرة أعلنت العالمة الاسرائيلية "إيليت مزار" أنها عثرت على بقايا آثار سليمانية في منطقة القصور الأموية، وادعت مزار أن هذه الآثار هي عبارة عن أسوار وتحصينات عسكرية بناها سليمان في فترة الهيكل الثاني.

ان التناقض الذي يعتري ادعاءات علماء الاثار الاسرائليين يدل – من جهة - على الهوس لتحويل القدس إلى منطقة توراتية، ومن جهة أخرى على عدم أحقية اليهود في هذه المنطقة، بل يعطي كل الأحقية للعرب والمسلمين في منطقة المسجد والقصور الأموية، إلا أن الفراغ الذي خلّفه إهمال العرب والمسلمين لهذه المنطقة من المسجد الأقصى، سمح لليهود العبث فيها ولصق كل تلك الأكاذيب حولها.

ففي نيسان 2009، قامت سلطات الاحتلال بواسطة أذرعها التنفيذية ومنها "سلطة الآثار الإسرائيلية" بنقل الآثار الإسلامية التي تسرقها من منطقة القصور الأموية إلى مكب النفايات الموجود عند مستوطنة "معاليه أدوميم" بالقرب من بلدة العيزرية شرقي القدس المحتلة، فيما تقوم بنقل جزء مما تسرقه من حجارة كبيرة إلى مخازن تابعة لـ "سلطة الآثار الإسرائيلية" ضمن بناية "متحف روكفلر" وسط المدينة، بحيث يتم إخضاعها لعمليات تزييف وتهويد. وقد تم وضع أحد الحجارة المسروقة في باحة "الكنيست" الإسرائيلي.

ومن جهتها دانت الحكومة الفلسطينية "بشدة قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالسطو والاستيلاء على حجر ضخم من حجارة القصور الأموية بالخاتونية قرب المسجد الأقصى المبارك، واخذه إلى جهة مجهولة".

وفي كانون أول 2009م، واصلت أطقم تابعة لسلطة الآثار الإسرائيلية حفرياتها في منطقة القصور الأموية جنوب المسجد الأقصى المبارك من الجهة القريبة من حي وادي حلوة ببلدة سلوان.

أما في الوقت الراهن  فإن الإحتلال الإسرائيلي يسارع خطواته بتدمير بقايا القصور الأموية جنوبي المسجد الأقصى المبارك، وذلك من خلال عمليات حفر وطمس للمعالم التاريخية الإسلامية، كما يقوم الإحتلال بمدّ شبكة من الجسور والدُرُج الحديدية في أنحاء المنطقة الأثرية الملاصقة للمسجد، بهدف تحويل المنطقة بأكملها الى مرافق للـ "الهيكل المزعوم" تحت مسميات "مطاهر الهيكل المزعوم" و "متنزة توراتي"، الذي يرتبط بنفق مع مدخل حي وادي حلوة في بلدة سلوان المجاورة وبالتحديد مع المنطقة التهويدية المسماة "مركز الزيارات - مدينة داوود"، ومن المتوقع ان يمر هذا النفق أسفل مدرسة البنات التابعة للوكالة "الأنروا" التي انهار جزء من صفوفها قبل نحو سنتين، بسبب حفريات الإحتلال حيث تم وضع مولّد كهربائي كبير في الموقع يتلاءم مع حجم الأعمال التهويدية المتسارعة.

ويشار إلى أن أعمال الحفريات تجري في نحو تسعة مواقع، حيث غطيت مساحات من الحفريات بغطاء بلاستيكي أسود يخفي مجريات الحفريات.

وفي إطار حملتها التهويدية تقوم سلطات الاحتلال بتسيير قوافل مكثفة من السياح الأجانب والجماعات اليهودية في ساعات النهار وأخرى في ساعات الليل، حيث يتم إجراء حلقات دراسية، احتفالات وشعائر دينية يهودية تلمودية، خاصة في منطقة المدرج المستحدث الواقع خلف الباب الثلاثي المغلقة في الجدار الجنوبي للمسجد الأقصى، وهو المدرج الذي افتتحه رئيس الحكومة االعبرية السابق ايهود باراك عام 1998م كجزء من مخطط الهيكل المزعوم "..

بقلم/ د.حنا عيسى