بادئ ذي بدء، يجب أن يتذكر الجميع ونُذكّر من لا يتذكر أو يتناسى أن القدس والحرم الشريف جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، وأن من الحقوق الطبيعية والتاريخية والقانونية المكرسة في القانون الدولي حق الدفاع عن النفس، بما يشمل المقاومة بكل أشكالها، وخصوصًا في ظل مخططات استعمارية صهيونية استيطانية عنصرية عدوانية تستهدف تهويد القدس وأسرلتها، وطرد أكبر عدد من سكانها الأصليين، وجعل من يتبقى منهم يعيش في جحيم لا يُطاق، إضافة إلى استهداف الحرم الشريف بادعاء أنه مقام فوق "هيكل سليمان"، ومفترض هدمه وإقامة الهيكل بدلًا منه.
هناك من يكاد يصل عمى العقل والقلب عنده إلى أن المقاومة هي من تسببت بنكبة فلسطين وكل الكوارث، وليس أنها ردة فعل وإحدى روافع القضية الفلسطينية، ومن دونها لاندثرت واستطاعت إسرائيل استكمال مشروعها الاستعماري. هل يمكن أن ننسى أصل الصراع، وطبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه، ومغزى إقرار قانون القدس في الكنيست؟ وهل يمكن تجاهل حجم الخطر ومنبعه، وأن أفكارًا في قمة "كامب ديفيد" العام 2000 طرحت أن تكون السيادة فوق أرض الحرم فلسطينية وتحته إسرائيلية، وأن هناك جماعات ورجال دين وقادة سياسيين وأعضاء كنيست ووزراء يتبنون هذا المطلب بإقامة الهيكل بدلًا من الحرم، لدرجة أن وزيرًا إسرائيليًا قال "إنه يحلم كل ليلة بأن الأقصى هدم وأن الهيكل بني بدلًا منه"؟
كما أن هناك مخططًا معلنًا ومطروحًا للتنفيذ لإقامة كنيس يهودي في إحدى باحات الأقصى، ومن الممكن أن يُنفذ في أي وقت مناسب. فكما قال نتنياهو إن الظروف الإقليمية لا تسمح بتغيير الوضع القائم حاليًا، ما يؤكد وجود نية مبيتة لتغييره.
ما يعزز كل ما سبق أن الاعتداءات على الأقصى ودخول اليهود، بمن فيهم قادة ورجال دين وأعضاء كنيست، للصلاة في الحرم أصبح شيئًا روتينيًا ويوميًا، وبالمئات، بعد أن كان بالآحاد والعشرات. كما أن الحفريات حول الأقصى وتحته مضت بعيدًا، لدرجة أن بعض المهندسين ذهبوا إلى حد الاعتقاد بأن أي زلزال تتعرض له فلسطين بدرجة متوسطة يمكن أن يؤدي إلى انهياره.
إنّ كون المقاومة حقًا لا يعطي لكل إنسان الحق بأن يقاوم أينما وكيفما ووقتما يشاء، فالمقاومة ليست صنمًا نعبده، وإنما وسيلة يجب أن تخدم إستراتيجية وطنية مشتركة تقودها قيادة واحدة وعبر مؤسسات الإجماع الوطني.
ما العمل مع استمرار الانقسام وتعميقه، وحالة التوهان، وتغليب البقاء والانتظار على أي شيء آخر، وفي ظل غياب القيادة الواحدة والمؤسسات الوطنية والإستراتيجية المشتركة؟ هل يرفع الفلسطينيون الراية البيضاء، أم يطرقون جدران الخزان إلى حين بزوغ الأمل؟
لقد أوجد هذا الواقع فراغًا تسعى لملئه إسرائيل، وأطراف عربية وإقليمية ودولية، وجماعات وأفراد: منها من يريد تصفية القضية، ومنها من يريد توظيفها لأغراضه، ومنها من الفلسطينيين من أصبح لا يهمه سوى مصالحه الخاصة، ولو على حساب كل شيء، ومنها من يواصل الصمود والمقاومة تعبيرًا عن إرادة الأغلبية ومصلحتها، ولو عن طريق مقاومة فردية عفوية اتسمت بها عمليات المقاومة في السنوات الأخيرة كما تشير المصادر الفلسطينية والإسرائيلية، بما فيها عمليات الطعن والدهس واستخدام السلاح الناري وإضرابات المعتقلين الفردية والجماعية وحركة المقاطعة والمقاومة الشعبية، التي يغلب عليها فقدان الحاضنة السياسية والقيادة والبرنامج والتنظيم والإمكانيات.
هل يكون الرد بإدانة هذه العمليات، أم النظر إليها باعتبارها ردة فعل طبيعية على الاحتلال وممارساته، وعلى غياب الأفق السياسي، وعلى عدم تحمل القيادة والقوى مسؤولياتها؟
إن من يتحمل المسؤولية عن تفشي هذه الظواهر هي القيادة والنخبة والقوى، وليس من يقدم روحه فداء لشعبه وأرضه ودينه. ومن هنا لا يمكن محاكمة العمليات الفردية التي تدل على أن الشعب لا يزال حيّا ومستعدًا للصمود والمقاومة تحت أسوأ الظروف، ولو بشكل فردي. لو كانت عمليات منظمة لتوجب تقييمها في ميزان الربح والخسارة وسلامة التوقيت والقدرة على التوظيف ... إلخ، لأن البندقية من دون هدف تسعى لتحقيقه ومن دون مراكمة للإنجازات بندقية تائهة تبحث عمن يقودها ويرشدها إلى المقاومة المثمرة والمناسبة لكل مرحلة.
أمر آخر أثارته هذه العملية، وهو الحديث أنها تمكن الاحتلال من تنفيذ أهدافه التي كان يتعذر عليه تحقيقها بلا عمليات، وردًا على ذلك يمكن استعراض ما حدث منذ الاحتلال الإسرائيلي لبقية القدس الذي وقع عام 1967، إذ اعترفت إسرائيل في البداية بالأمر الواقع القائم في الحرم، ولم تتدخل به وفق اتفاق عقده موشيه ديان مع الأوقاف الإسلامية.
وبعد محاولة حرق الأقصى في العام 1969، بدأت الشرطة الإسرائيلية بدخول الحرم بأعداد قليلة، ثم تطور الأمر كميًا ونوعيًا في العام 1990 إثر المجزرة التي ارتكبت حينذاك، إذ لم تكتف الشرطة بالدخول، وإنما افتتحت مراكز شرطية، ووضعت حراسات حول البوابات.
وفِي العام 2000، فجرت زيارة أرئيل شارون بمرافقة ألفين من الشرطة والجنود المدججين بالسلاح "انتفاضة الاقصى"، واستطاعت الشرطة أن تدخل الحرم بعد العام 2001 دون استشارة ولا تنسيق مع الأوقاف رغم الرعاية الأردنية للأقصى والمستندة إلى ما جاء في معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية الموقعة العام 1994.
وحاولت إسرائيل بعد العام 2013، وباتفاق أردني إسرائيلي برعاية أميركية، تركيب كاميرات في الأقصى، ولكن تم التراجع عنها بعد المعارضة الفلسطينية الأردنية الواسعة. وفِي العام 2014، وبعد محاوله اغتيال يهودا غليك، المتطرف والمعتدي الدائم على الأقصى، أغلقت إسرائيل الحرم ولكنها تراجعت بسرعة عن هذا القرار قبل موعد صلاة الجمعة بعد ردود الفعل الفلسطينية والأردنية الواسعة.
بعد كل ما سبق، نجد وبصورة واضحة وضوح الشمس أن إسرائيل هي التي استباحت الأماكن المقدسة عندما حولتها إلى ساحات للمواجهة وإطلاق الرصاص والقنايل لحماية المستوطنين والمتطرفين أثناء دخولهم واعتداءاتهم المستمرة على الأقصى، وإلى ثكنة عسكرية لخدمتها في تنفيذ أهدافها المعلنة والمستمرة في تنفيذها، سواء كانت هناك مقاومة أو لم تكن، بل تتزايد معدلات التنفيذ في ظل الهدوء وعدم تنفيذ عمليات.
والآن بعد "عملية الحرم" الأولى من نوعها يجب التحذير من مغبة استمرار تطبيق السياسات الإسرائيلية في نفس الوقت الذي يجب ألا ينطلي فيه على أحد، سواء كان مؤيدًا أو معارضًا لهذا النوع من العمليات، أن الاحتلال هو المسؤول، وعليه يجب أن تتركز الإدانة والأنظار.
إغلاق الأقصى سابقة خطيرة جدًا لم تحدث منذ حوالي خمسين عامًا، ولكنها قابلة للتكرار، وهي مجازفة محسوبة لجس النبض واختبار ردة الفعل الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية، فإذا كانت محدودة، كما حصل فعلًا، يمكن اتخاذ المزيد من الخطوات الرامية إلى تغيير الأمر الواقع الذي يتغير كما نلاحظ باستمرار رغم الادعاء بعكس ذلك، بدليل تركيب الكاميرات والبوابات التي تذكرنا بما حصل للحرم الإبراهيمي، الذي جرى تقسيمه زمانيًا ومكانيًا بعد المجزرة التي ارتكبها باروخ غولدشتاين في العام 1994 ضد المصلين أثناء صلاتهم وليس بعد عملية مقاومة.
إن الفلسطيني، خصوصًا المقدسي المرابط قي الأقصى وأكنافه، مستعد رغم المعاناة والإحباط وترديد عبارة "يا وحدنا" لمواصلة الصمود والكفاح وحده إلى حين قيامة الشعوب العربية مهما طال الزمن وغلت التضحيات، فهو الذي حمى ويمكن أن يواصل حماية الأقصى، وأبقى القضية الفلسطينية حية لا تموت بانتظار النجاح بتغيير موازين القوى القادرة على تحرير القدس، وفِي القلب منها الأقصى وكنيسة القيامة، بدعم كل قوى التحرر والتقدم والسلام والعدالة في العالم كله، التي خذلناها ولم تخذلنا عندما نكون بمستوى القضية وتحدياتها.
بقلم/ هاني المصري