قراءة أولية في “انتفاضة القدس“

بقلم: هاني المصري

جاء على لسان مصدر عسكريّ إسرائيليّ أنّ "الشيء الوحيد الذي لا تريده إسرائيل الآن هو انتفاضة فلسطينية ثالثة، وهي موجودة في التقديرات الأمنية في الأيام الأخيرة". أما غادي أيزنكوت، رئيس أركان جيش الاحتلال، فقال "نحن أمام تصعيد مختلف كليًا عن هبة أكتوبر 2015. الآن نتكلم عن دافع إضافي لما كان عليه الوضع حينذاك، وهو الدافع الديني".

وبلغ الارتباك الإسرائيلي أشده من خلال عقد اجتماع المجلس الوزاريّ الإسرائيليّ المصغّر (الكابينت)، الذي لم يستطع اتخاذ قرار نظرًا للخلافات، ولأن كل الخيارات سيئة وغير مضمونة. فإذا أزالوا البوابات والكاميرات سيجعل الفلسطينيين يثقون بأهمية الانتفاضة لتحقيق أهدافهم، وإذا أبقوها يمكن أن تندلع انتفاضة عابرة للحدود والقارات.

فعلًا، نحن أمام احتمال متزايد لاندلاع انتفاضة، فما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحديدًا في القدس، يبشر بذلك. وهذا الاحتمال يكبر إذا لم تتراجع حكومة نتنياهو عن إجراءاتها ما بعد 14 تموز، وخصوصًا تركيب البوابات الإلكترونية، لأن الاحتفاظ بها وبالكاميرات الذكية، والتفتيش من خلال عصا كشف المعادن؛ ينذر بأن لحظة تطبيق التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى تقترب، وهو سيكون مجرد مرحلة على طريق هدم الأقصى وإقامة هيكل سليمان المزعوم بدلًا منه.

من يشاهد أو يسمع ماذا يفعل اليهود الإسرائيليون في الأيام الأخيرة داخل الحرم المستباح لهم بلا حسيب أو رقيب، يدرك أن الحديث عن التقسيم والهدم ليس ادعاءات فلسطينية، وإنما مخطط إسرائيلي زاحف يهدف للسيادة بدعوى العبادة، وينتظر اللحظة المناسبة للتنفيذ.

إن أركان اندلاع الانتفاضة متوفرة في معظمها، فأول وأهم ركن هو العمق الشعبي، وهو متوفر بدليل الانخراط الواسع من كل الأطياف الفلسطينية في التحركات والصلوات، الأمر الذي دفع قائد الشرطة الإسرائيلية، والمدافع الأكبر عن تركيب البوابات، إلى القول بأن الشرطة فقدت السيطرة على القدس، نظرًا لحجم المصلين والمتظاهرين، ونفى أن يكون الجيش والشاباك الذين عارضوا نصب البوابات كان لهم تقدير بأن مثل هذا التدهور الذي شهدناه يمكن أن يحصل، فهو يدافع عن نفسه ويلقي المسؤولية عن الجميع مع أنه كان صاحب التقدير بأن الشرطة الإسرائيلية قادرة على السيطرة على الموقف.

أما الركن الثاني فهو الاستمرارية، وهي متوفرة، بدليل أن "الانتفاضة" مستمرة للأسبوع الثاني، وسط احتمالات وتقديرات أنها مرشحة للاستمرار أسابيع عدة على الأقل إذا لم تتراجع سلطات الاحتلال عن إجراءاتها الاستفزازية، ويساعد على الاستمرارية أن جميع الفئات والأجيال، والمرأة إلى جانب الرجل، والغني إلى جانب الفقير، يشاركون في معركة حماية الأقصى بأعداد فاقت كثيرًا أكثر التوقعات تفاؤلًا.

وَمِمَّا يمكن أن يساهم في مواصلة "الانتفاضة" أن القضية قضية حياة ووطن ودين، ففضلًا عن الدافع الديني والوطني لرفض نصب البوابات والكاميرات، هناك دافع حياتي اقتصادي، إذ سيؤدي إلى تقليل عدد المصلين في الأقصى والزائرين للبلدة القديمة والقدس عمومًا، خصوصًا في أيام الجمع والأعياد الإسلامية والمسيحية وطوال شهر رمضان، ما يؤدي إلى إضعاف كبير في الحركة التجارية، ويساعد على استكمال تطبيق تهويد وأسرلة الأقصى والقدس.

وحتى تتجسد الاستمرارية لا بد من امتداد الانتفاضة من كونها حتى الآن "انتفاضة القدس" التي يتضامن معها الفلسطينيون وغيرهم، لتغدو انتفاضة الشعب الفلسطيني.

أما الركن الثالث فهو الهدف والبرنامج، وهما متوفران ولكن بشكل غير كافٍ وليس متبلورًا بما فيه الكفاية. فتحقيق هدف إزالة البوابات لا يكفي لاستمرار الانتفاضة مدة طويلة، لأن الوضع السابق على تركيبها إذا عدنا إليه فقط لم يكن جيدًا، بل سيئًا، ويتدهور باستمرار. فإسرائيل رغم عجزها عن

تحقيق أهدافها إلا أنها حققت إنجازات لا يمكن الاستهانة بها. فالآن، بات الحرم عمليًا مقسّمًا زمانيًا بعد أن أصبح دخول اليهود إليه والصلاه فيه عادة يومية، وتحديدًا من الساعة السابعة صباحًا وحتى الحادية عشرة قبل الظهر.

كما أن عمليات الحفر تحت الأقصى وبجواره مستمرة، مع مواصلة جميع أشكال التضييق على المقدسيين الصابرين المرابطين، عبر الاعتداءات والإهانات، وفرض الضرائب الباهظة، وهدم المنازل، والاعتقالات، وفرض الإقامة الجبرية، وسحب الهوية، والاستيلاء على الأراضي والمنازل، ونشر الجريمة والعنف والمخدرات والدعارة.

إذا أردنا استمرار الانتفاضة فهناك حاجة ماسة لرفع هدف أكبر من إزالة البوابات والكاميرات، يمكن أن يكون منع دخول اليهود إلى الحرم، والعودة إلى الاتفاق (الحفاظ على الأمر الواقع) الذي كرسه موشيه دايان باتفاقه مع الأوقاف الإسلامية بعيد وقوع بقية القدس تحت الاحتلال خلال حرب 1967. كما يجب عدم الانزلاق إلى حرب دينية، فالأقصى رمز وطني ومنع تهويده جزء لا يتجزأ من المعركة لتحريره والقدس وفلسطين عامة من الاحتلال والاستعمار الاستيطاني العنصري.

أما الركن الرابع والحاسم من أركان الانتفاضة فهو القيادة، وهذا الركن ضعيف، فقد كان هناك فراغ كبير لدور القيادة والقوى حاول أن يملأه رجال الدين وغيرهم من النشطاء والفعاليات الوطنية المحلية، ولكنهم لن يستطيعوا وحدهم سد الفراغ والاستمرار في تبوء القيادة لأنها تجعل الصراع دينيًا، مع أنه وطني له بعد ديني أساسي، ما يفرض ضرورة إيجاد مرجعية سياسية وميدانية (قيادة وطنية موحدة) تقود الانتفاضة، ويكون سقفها أعلى من إزالة البوابات الإلكترونية. قيادة لا ترتهن للقيادة الرسمية التي لا تريد الانتفاضة ولا تقدر على قيادتها حتى لو أرادت، لأنها أصبحت أسيرة الأوضاع والمصالح والرهانات والبنية التي أوجدتها منذ أوسلو وحتى الآن، والالتزامات المترتبة عليه التي تجعل السلطة مقيدة ورهينة وأقرب ما تكون إلى وكيل أمني للاحتلال.

ولعل هذا ما يفسر لماذا أصبحت القدس هي مركز الهبات والانتفاضات في الأعوام الأخيرة، ويعود ذلك إلى أسباب عدة، أهمها أن القدس غير خاضعة لسيطرة السلطة.

إن أي انتفاضة بلا قيادة واعية ومخلصة ترفع برنامجًا وطنيًا واضحًا، ولا تستند إلى جبهة وطنية واسعة، ولا تتوفر لديها الإمكانيات اللازمة، ستكون ردة فعل وصفحة مجد جديدة في التاريخ الفلسطيني، ويمكن أن تؤدي كما علمتنا بعض الخبرات السابقة إلى الفوضى التي ستأكل الأخضر واليابس، ومن ضمنها إنجازاتها نفسها.

ما سبق يدعو إلى القول بصراحة وشجاعة إن الوضع الفلسطيني بسبب الضعف والانقسام والشرذمة والتوهان وتغليب الصراع على السلطة ونمو المصالح الفردية، غير مستعد لانتفاضة ثالثة شاملة قادرة على الانتصار، ما يرجح، وبما يتطلب، أن تأخذ شكل موجة انتفاضية، أكبر من هبة شعبية وأقل من انتفاضة شاملة.

وفي هذا السياق، لا يمكن إسقاط من الحساب أن القيادة الفلسطينية والقوى النافذة لا تؤمن بالانتفاضة الشعبية وتتجنبها، وتسعى دائمًا إذا اندلعت رغمًا عنها لاحتوائها وإجهاضها، بذريعة مصير الانتفاضات السابقة، وتحديدًا انتفاضة الأقصى، التي أسميها الانتفاضة المغدورة، فهي توصف بأنها دمرتنا رغم أنها حققت إنجازات لا تنكر، أهمها اعتراف العالم وجزء من إسرائيل بأهمية وضرورة قيام دولة فلسطينية، ومساهمتها في إعادة انتشار القوات الإسرائيلية في قطاع غزة، غير أنها فشلت لأنها كانت ضحية من ضحايا التنافس الداخلي، والأوهام بإمكانية تحسين شروط التفاوض في ظل اتفاق أوسلو من دون الجرأة على العمل على تجاوزه.

إن هذه العوامل وغيرها هي التي جعلت الانتفاضة الثالثة تأخذ في العقد الأخير شكل الهبات والموجات الانتفاضية، التي جاءت متتابعة وراء بعضها قصيرة الأمد، وحملت شعارات وأسماء مختلفة، وحققت إنجازات متراكمة في أتون معارك الدفاع عن الأرض في وجه ابتلاعها وتهويدها واستيطانها، والحفاظ على عروبة القدس والأقصى، إلى أن جاءت انتفاضة السكاكين والدهس، وإضرابات الأسرى أبطال الحرية، ونضالاتهم الفردية والجماعية.

ولعل من الأفضل أن تأخذ النضالات القادمة شكل الموجات الانتفاضية التي تأخذ بعين الاعتبار بأن المعركة طويلة، ويجب أن تسير الحياة جنبًا إلى جنب مع الصراع ضد الاحتلال، بحيث تندلع

موجة انتفاضية بعد الأخرى، ويكون لكل واحدة هدف، وتراكم الإنجازات، وتتبلور فيها شيئًا فشيئًا القيادة القادرة على قيادة انتفاضة شاملة بعيدة كليًا عن الأوهام السابقة والرهانات الخاسرة، وحينها سيكون هدفها ليس تحسين شروط الحياة تحت الاحتلال، بل إنهاءه، وإنجاز العودة والحريّة والاستقلال والمساواة.

بقلم/ هاني المصري