هي اللغة على الهواء وهي اللغة في الأروقة الإسرائيلية وهي اللغة في الشبكات على المواقع الشخصية، حيث الحيز حميم يُتيح المكاشفة: في كل هذه المواقع يبدو لي الخطاب الإسرائيلي بالعبرية وغير المترجم إلا نادراً، خطاباً خطيراً يُنذر بالشرّ المقبل. وهو خطاب يتناسب مع الإجراءات السيادية الإسرائيلية على الأرض - من البحر إلى النهر - ومع تحولات استراتيجية داخل المجتمع الاستراتيجي تتخذ شكل إجماع جديداً في صُلبه توسيع حدود الدولة العبرية - إن لم يكن إلى النهر تماماً، فبالتأكيد أبعد إلى الشرق من "الخط الأخضر"، ذاك الإرث الواهي من مرحلة ما قبل حزيران (يونيو) 1967.
إلا أن مسألة الحدود ليست الأهم هنا. فتحتها ما هو أدهى، وخلف الخطاب الإسرائيلي الراهن ما هو أكثر هولاً، إذا صحّ التعبير.
أحد الوزراء من رموز ليكود يكتب مهدّداً الفلسطينيين بنكبة ثالثة. وفي الخلفية رموز أخرى من مختلف الأحزاب تتحدث باللغة ذاتها وتقترح جهاراً تنفيذ حلّ الترانسفير جزئياً (من مناطق) أو كلياً: نكبة ثالثة! وتتحلّق حول هذه الطروحات أوساط شعبوية واسعة على خريطة السياسة الحزبية كلّها تقريباً.
وأساس هذا الخطاب هو تنافس علني وخفيّ بين وزير المعارف نفتالي بنيت الذي يقود معسكراً واسعاً نسبياً من اليمين الديني القومي قوامه المستوطنون وأطرهم ونفوذهم، ورئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتانياهو. فكلاهما يبني خطابه ويختار خطواته على وقع الآخر تبادلياً باتجاه المزايدة يميناً وإرضاء الناخب في أقصى اليمين.
وهما بهذا يضمنان كل الناخبين في المساحة ما بين مركز ويمين متطرف، وهي القاعدة الشعبية الأوسع في إسرائيل اليوم. بمعنى أن السياسة الإسرائيلية تتحرّك في أساسها قياساً بالعربي الفلسطيني من جهة، وانطلاقاً من فرضيات تترسّخ يوماً بعد يوم تقول بإمكان فرض السيادة اليهودية - ليس الإسرائيلية - على كامل فلسطين التاريخية.
صحيح ما يُمكن قوله من أن الصهيونية مشروع استحواذي واستيطاني وإحلالي، إلا أنها أنتجت ذاتها من جديد في العقدين الأخيرين على نحو باتت فيه مُقتنعة بإمكان استكمال المشروع الصهيوني الاستحواذي وصولاً إلى نهر الأردن، من خلال التنصّل تماماً من فكرة التقسيم وحلّ الدولتين. في الخلفية تطورات مهمة حصلت لدولة إسرائيل ذاتها كدولة وكمجتمع وكاصطفافات سياسية.
ففي مستوى الدولة - ولهذا إسقاطاته على كل شيء آخر تقريباً - تعتقد النُخب الإسرائيلية المتنفّذة أن وضع إسرائيل هو الأفضل استراتيجياً منذ أقيمت. فالمراكز العربية إلى انهيار والقضية الفلسطينية إلى وهن. الأخطار الوجودية غير قائمة في المدى المنظور واقتصادات الدولة في استقرار نسبي (تجاوزت الأزمة العالمية في 2008 وبعدها).
في مســتوى المجتمع ذاته طرأ عاملان مهمان يصبّان بالاتجاه ذاته، أولاً: تصالحت الفئات الوسطى مع مشاريع الاحتلال والاستـــيطان وطبّـــعت معـــها ســـياسياً وخطاباً. ثانياً: تصالحت الفئات الدينية المتشددة التي كانت غير صهيونية إلى سنين خلت، مع الدولة ومع الصهيونية وانخرطت في كل مشاريعها بما فيها الاستيطاني الاستحواذي.
علاوة على ما ذُكر فإن المناخ الدولي من حيث زهو اليمين وتنظيراته ومن حيث تداعي المنظومات والكوابح الحادّة من العنف، يساعد على دفع إسرائيل الرسمية والشعبية إلى حقبة تكون معمّدة بالدم.
نقول هذا في ضوء ما نعرفه من تضافر عوامل مساعدة داخل الوجود الجمعي اليهودي في فلسطين. فهناك - كما أسلفنا - الشعور بالتفوق والقوة، وهناك خوف يهودي جمعي من كل تغيير على الأرض يُحدثه الفلسطينيون، وهناك الخوف الجمعي اليهودي من الزوال في ضوء تجربة المحرقة المكرّسة لتوكيد التوجهات اليمينية، وهنا لتوكيد الأيديولوجيا العنصرية لتيارات نافذة في الصهيونية. وهناك أيضاً مُغريات في الجانب الآخر من المعادلة تتلخص في ضعف عربي شامل أو انشغال بألف قضية حارقة أخرى. كل هذا مندمج بعقلية مجتمع عسكري في تجربته كونه مهاجراً وافداً وكونه يمارس إلى الآن الاستيطان بعقلية أمنية خالصة تجعله مهاجماً أو مُدافعاً.
مِن هنا، فإن وجهة إسرائيل الرسمية إلى مواجهة مع الشعب الفلسطيني بين البحر والنهر ستتأسس على محورين: الإخضاع التام والترانسفير.
أما مسألة الأقصى والقدس على أهميتها فينبغي ألا تحرف أنظارنا عما هو آت من دورة للعنف. وأما المراهنة التي قد يقوم بها البعض على تغيير القـــيادة في حزب العمل أو على إدارة الرئيس ترامب فتبدو لي منزوعة من السياق، تعكس الأماني العِراض لا الواقع التصعيدي.