السلطة الفلسطينية تعاني من انفلات أمني أم ماذا

بقلم: عبد الرحيم محمود جاموس

بمناسبة الذكرى الثانية عشرة لإغتيال وإستشهاد اللواء موسى عرفات القدوة، أعيد نشر هذه المقالة التي كتبت إثر إستشهاده بتاريخ 07092005م ونشرت يوم 10092005م كما هي للتذكير وإعادة طرح التساؤلات الواردة فيه

لقد كثر الحديث من قبل المراقبين وكذلك المسؤولين في السلطة الفلسطينية عن حالة الانفلات الأمني التي تتعرض لها مناطق السلطة الفلسطينية ، ومع كل حادثة أو جريمة تقع هنا أو هناك يعلو الصوت المطالب بضبط الأمن ، ويعزو البعض هذه الحالة إلى عدم الانضباط لدى فصائل المقاومة تارة أو إلى وجود عصابات خارجة عن القانون تارة أخرى أو إلى الاحتلال نفسه صاحب المصلحة الرئيسي في تكريس هذه الحالة ولكن الفاجعة التي أفاق عليها الفلسطينيون في كل مكان صباح يوم الأربعاء 792005 م قد هزت وجدانهم وكيانهم والتي ذهب ضحيتها اللواء موسى عرفات وبغض النظر عن البيانات والبيانات المضادة التي صدرت عن نفس الجهة التي ادعت مسؤوليتها عن تلك الجريمة الشنيعة ومهما تسترت بثوب الطهر الثوري ومحاسبتها الخارجين على القانون أو الفاسدين ... الخ ، فمن خلال أسلوبها وطريقة تنفيذها وتوقيتها وضحيتها كشفت عن عمق الأزمة التي تعاني منها أولا السلطة الفلسطينية ثم منظمة التحرير الفلسطينية وعلى رأسها حركة فتح الفصيل القائد للسلطة وللمنظمة معا . مؤدى ذلك أن السلطة والمنظمة وفتح مجتمعات تواجه كل منها أزمة بنيوية ووظيفية وسياسية عميقة تحتاج إلى العلاج باجتثاث أسباب الأزمة لا الاقتصار على مواجهة مظاهر الأزمة فقط لأن بقاء الأسباب كامنة في العمق سرعان ما تعكس مظاهرها بشكل أو بآخر

إن استهداف شخصية مثل اللواء المغدور موسى عرفات لا يمكن أن يتم المرور عليها مرور الكرام وتسجيل القضية ضد مجهول وأن يدفن السر مع الضحية ، فمن حق أسرته ومن حق حركة فتح التي ينتسب إليها منذ انطلاقتها ، ومن حق السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني أن يقف الجميع على حقيقة هذه الجريمة ومن يقف وراءها وأن يقدم أولئك للعدالة كي تصدر حكمها في حقـهم ، بغض النظر عن المبررات والمسوغات التي حاول مرتكبـو هذه الفعلة الشنيعة أن يبرروا بها فعلتهم ، لأنه ليس من مصلحة الشعب الفلسطيني ، أن يصادر قانونه وعدالته فرد أو فصيل أو جماعة مهما علا شأنها ومهما اتصفت بالنبل أو الطهارة لا بد أن يتوفر للمتهم محاكمة عادلة وهذه لا يمكن توفرها إلا على أساس القانون والقضاء الذي ارتضاه الشعب الفلسطيني لنفسه وأقرته هيئته التشريعية .

لقد كان المغدور موسى عرفات من طلائع المناضلين في صفوف قوات العاصفة منذ العام 1965 م وواكب حركة فتح والثورة الفلسطينية في كل محطاتها ومراحلها وشغل مواقع عسكرية مهمة خلال هذه المسيرة إلى أن تم تكليفه بمسؤولية جهاز الاستخبارات العسكرية بعد توقيع اتفاق أسلو الذي أنجب السلطة الفلسطينية وقد وضعه هذا الموقع الأمني الحساس في موضع جدل وتساؤل ووصل بالبعض لاتهامه باستغلال النفوذ أو بالفساد أو بهما معا شأنه في ذلك شأن جميع من كلفوا بمسؤوليات أمنية في مختلف أجهزة الأمن الفلسطينية المتعددة ، ونحن في هذه المقالة لا ندافع عنه أو عن غيره كما لا نتهمه ولا نبرئه ولا نتهم ولا نبرئ غيره لأن هـذه مهمة القضـاء العادل أن ينظر في أي اتهام يقدم أو يحال إليه ليقول فيه كلمته ولكن ما يهمنا هو الوقوف على أسباب الأزمة التي أشرنا إليها والتي تكشفت بوضوح من خلال هذه الحادثة التي ذهب المغدور ضحيتها

إن كثيرين ممن كلفوا بمهام حساسة سواء كانت أمنية أو اقتصادية أو إدارية أو سياسية ... في إطار مؤسسات سلطة الحكم الذاتي هم في موضع تساؤل وجدل في الشارع الفلسطيني ، ومن حق الشعب الفلسطيني أن يحصل على إجابات واضحة على تلك التساؤلات

لقد أخذت المهام الأمنية ومسؤولوها نصيب الأسد من تلك التساؤلات بل والشك والريبة في أحيان كثيرة في مسؤولي تلك الأجهزة الأمنية لما لها من حساسية تفوق غيرها من المهام المدنية والسياسية الأخرى .

وذلك لاعتبارات متعددة منها

1طبيعة المهمة الأمنية في أي كيان سلطوي تقوم على أساس مبدأ الزجر والمنع مما يضع صاحبها في موضع الرفض جماهيريا .

2يعتبر مسؤول الأمن دائما القامع للحريات والمانع من تحقيق الذات لدى فئات كثيرة تعتقد أنه يحول دون تحقيق مصالحها وأهدافها .

3الاعتبار الأهم هو ممارسة هذه الأجهزة الأمنية لمهامها في المجتمع الفلسطيني وهو في مرحلة الاحتلال أو ما قبل الاستقلال ، والذي يفرض على المؤسسات الأمنية الفلسطينية ومسؤوليها شكلا من أشكال التنسيق والارتباط والتعاون الأمني مع المؤسسات الأمنية للمحتل وفقا للاتفاقات المنشئة لسلطة الحكم الذاتي .

لهذه الاعتبارات السابقة وغيرها من الاعتبارات التي لم نأت على ذكرها وضعت الأجهزة الأمنية ومسؤولوها موضع الشك والريبة في نظر الكثيرين من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وخصوصا في نظر المعارضين لاتفاقات أوسلو والقوى والفئات المشاركة في المقاومة ، رغم ما تعرضت له الأجهزة الأمنية من تدمير وتخريب واضعاف على يد الاحتلال وقواته ورغم التضحيات التي قدمها أفراد وضباط الأجهزة الأمنية خلال المواجهات التي تعرضت فيها لقوات الاحتلال على مدى السنوات الماضية . ولكن مع حصار الرئيس المرحوم ياسر عرفات في سنواته الثلاث الأخيرة من عمره بدأت تضعف سيطرته بصفته القائد العام والناظم والموجه للأجهزة الأمنية والقوات التابعة لها لحساب إزدياد دور ونفوذ وتأثير قادتها ومسؤوليها المباشرين ، وقد تحولت هذه الأجهزة إلى مراكز قوى واستقطاب لحساب مسؤوليها في كثير من الأحيان ، وقد تغلب فيها دور الشخص على دور الجهاز أو المؤسسة فطغت شخصيات مسؤوليها على دورها المنـوط بها والذي يحدده النظام المؤسس والمؤطر لها وبالتالي سجلت انجازاتها القليلة واخفاقـاتها الكثيرة في حـسابات المسؤولين عنها.

هذا الوضع أظهر الأجهزة الأمنية بمظهر مراكز قوى متعارضة تتصارع فيما بينها ، وغابت عنها روح التكامل والتنافس في تأدية واجب الأمن للنظام وللشعب الفلسطيني . وأصبح هدفها في كثير من الأحيان هو العمل على تقوية هذا الجهاز ليتوازن أو ليتفوق في كثير من الحالات على الأجهزة الأخرى ، مما دفعها أن تذهب بعيدا في لعبة الصراع الداخلي وتوسيع النفوذ والمكانة لقادتها خصوصا بعد وفاة الرئيس أبو عمار مما حدا ببعض قادتها للتطلع للعب دور سياسي في حياة الشعب الفلسطيني

إن ضعف بنى منظمة التحرير الفلسطينية وكذلك حركة فتح ، والتعارضات الظاهرة والمستتر بين التزامات السلطة الفلسطينية وقوى المقاومة بالاضافة إلى استقلالية الأجهزة الأمنية للسلطة بعضها عن بعض كل ذلك أسهم بشكل مباشر في لعبة صراع الأجهزة أو صراع مراكز القوى فيها مما أسهم في تعميق الأزمة البنيوية والوظيفية لهذه الأجهزة الأمنية مجتمعة ، فمن هنا يمكن البدء في معالجة الأسباب التي أدت إلى ظهور حالة الانفلات الأمني وحصول حادثة اغتيال اللواء موسى عرفات وتبعاتها السيئة على مجمل الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية ووضع الحلول الكفيلة باجتثاث أسباب هذه الأزمة العميقة التي تواجهها السلطة الفلسطينية والتي تهدد المشروع الوطني برمته .

فللخروج من الأزمة يمكن الأخذ بالوسائل التالية

1حل الخلافات الداخلية التي تعصف بحركة فتح مهما كانت منهجية أو إجرائية أو شخصية ، لأن حركة فتح تمثل الفصيل القائد للسلطة الوطنية وللمشروع الوطني برمته فإن أي خلاف مهما كان صغيرا سوف يترك أثرا كبيرا على السلطة وأجهزتها وأدائها .

2تفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينيذة وتنشيط مؤسساتها التمثيلية والتشريعية والتنفيذية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني والمرجعية السياسية والتنظيمية والقانونية للسلطة الوطنية الفلسطينية .

3إعادة صياغة الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية بشكل ينهي حالة التنافس والصراع فيما بينها ويخضعها للقيادة السياسية مباشرة من خلال هيئة أركان يكون على رأسها الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الداخلية .

4إقرار قانون خاص للأجهزة الأمنية ينظم ويؤطر عملها بما يحول دون طغيان شخصية المسؤول عليها ويؤدي إلى مأسسة العمل الأمني الاحترافي بعيدا عن حالة الشخصنة لهذه المؤسسات كما هو سائد لغاية الآن .

5وضع ميثاق شرف بين السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة بهدف تحقيق أقصى درجات التكامل ما بين السلطة والمقاومة وتحقيق الأمن للمواطن الفلسطيني على قاعدة احترام القانون والمسؤولية الكاملة للسلطة الفلسطينية وأجهزتها عن تنفيذ القانون واخضاع الجميع لمقتضياته دون استثناء من أجل سد جميع الثغرات التي قد ينفذ من خلالها ضعاف النفوس والمجرمون أو المتمادون على القانون والنظام والحق العام والخاص .

إذن لا بد أن يبدأ الاصلاح على مستوى كافة المؤسسات الفصائلية والحركية وعلى مستوى كافة مؤسسات السلطة الفلسطينية سواء منها الأمنية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو القضائية أو التشريعية .. الخ ، وتأكيد انضباط السلطة لمرجعيتها السياسية والتنظيمية والممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية الفاعلة عندها فقط تكون الحالة الفلسطينية نظاما سليما معافى ، قادرة على السير نحو تحقيق الأهـداف الفلسطينية وإكمال مسيرة البناء الوطني ، وإلا فإن التجربة كلها سوف تكون معرضة للفشل لا سمح الله ، لأنها سوف ترتهن لصراع مراكز القوى والأجهزة الأمنية الفلسطينية ، التي ستفشل في بناء النظام وفي إدارة دفة الصراع مع الطرف الآخر ، الذي سيفرض عليها مشروعه الأمني الدائم كحل لإنهاء الصراع وتصفية القضية الفلسطينية

بقلم/ د. عبد الرحيم محمود جاموس