معوقات المصالحة مبهمة وذرائعها محيرة

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

يحار الفلسطينيون أنفسهم في معرفة الأسباب الحقيقة التي تعيق المصالحة وتعرقل الاتفاق، ويختلفون في بيان مواقف طرفي الانقسام وتفسير سياستهما، ومعرفة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تعذر المصالحة وتأخر الاتفاق، فقد ضاقوا ذرعا بمسار الحوار ويأسوا من مستقبله، ونفضوا أيديهم من خيره، وباتوا يتندرون بانعقاده، ويصفونه بالمسلسل المكسيكي الكثير الحلقات الذي تستجد أحداثه وتتوالى فصوله ولا تعرف له نهاية.
ذلك أنه قد طال عمره فتجاوز العشر سنوات، وتعقدت ملفاته وتشعبت قضاياه، وكثر وسطاؤه وتعدد رعاته، وتبدل المفاوضون وتغير المتحاورون، وتنوعت ساحاته، ولكن الاستعصاء ما زال قائما، والحل ما زال متعذرا، ولا يبدو أن في الأفق ما يبشر بخير، أو يومئ بقرب انتهاء حقبة الانقسام، فلا غيوم في سماء الوطن، ولا أجواء إيجابية توحي بالثقة والطمأنينة والصدق والارتياح، رغم ما يشاع ويعلن عن توصل الفرقاء إلى اتفاق، وإعلان الوسيط المصري عن انتهاء الأزمة وبداية مرحلة جديدة.
أما الأخوة والأشقاء، العرب والمسلمون، والغرباء والأجانب، المتضامنون والمساندون والمتعاونون، فهم أكثر حيرة وأشد تيها من أبناء القضية وأصحاب الشأن، ولديهم من التساؤلات ما يصدع رؤوسهم ويذهب بالكثير مما بقي لديهم من فهم نقي وصافي للقضية الفلسطينية، وإن كانوا يعرفون أن الفرقاء يختلفون في النهج السياسي، ويفترقون في استراتيجيات المواجهة، ولكل طرف منهما برنامج سياسي ومرجعيات وحلفاء ووسائل نضالية مختلفة عن الآخر.
إلا أنهم لا يبررون لهم انقسامهم الجغرافي، وخصومتهم الدموية، ومماحكاتهم المسيئة للشعب والقضية، كما لا يفهمون عجزهم لسنوات عن الاتفاق، وفشلهم المتكرر وكأنه مقصود ومتعمد، وعدم مقدرتهم على اللقاءات الثنائية إلا بجهود وسطاء، وعلى أرض أخرى وعواصم مختلفة غير موطنهم الذي يستطيع أن يجمعهم، ويمكنه التوفيق بينهم، إلا أن جغرافيا الوطن باتت بالنسبة لهم سياسة وهوية، فلا يتسع لهم الوطن ولو كان رحبا، ويضيق عليهم ولو كان فضاء، رغم أن جزءا من الوطن بات محررا، وفيه يمكن اللقاء، وعلى أرضه قد يتحقق الوفاق، ولكن الذي لا يطهره الماء، لا يذهب عنه النجس كثرة التراب.
كلاهما لا يستطيع أن يدرك إلام الاختلاف والانقسام في ظل وجود الاحتلال، واستمرار حالات الاعتقال، وعمليات القتل اليومية التي يمارسها جيش العدو ومستوطنوه، وفي ظل تعثر مسار المفاوضات وتخلي الرعاة الدوليين عن أدوارهم المفترضة، وتفرد فيه الولايات المتحدة الأمريكية بادعاء الرعاية، رغم أنها لا تخفي انحيازها، ولا تمتنع عن ممارسة الضغط على الطرف الفلسطيني الضعيف المغلوب المظلوم.
الفلسطينيون يعرفون أن الانقسام يضعفهم، والاختلاف يمزقهم، وتأخر الاتفاق يفقدهم النصير والسند، وفرقتهم تغري العدو وتبرر لغيره عدم الجدية والمسؤولية، ويعرفون أن صورتهم لدى المجتمع الدولي باتت مشوهة، وقضيتهم لم تعد جامعة ولا جاذبة، وهمومهم لم تعد تثير في الأمة شيئا، ولا تحرك جراحاتهم أحدا، ولا تعني معاناتهم غيرهم ولا تشغل أحزانهم سواهم، ورغم ذلك تمعن القيادة الفلسطينية والقوى والفصائل في الاختلاف، وتتمادى في الإساءة، وتبني حولها جدرا من المقاطعة، وتدعي أنها على الحق، وأن غيرها هو الذي حاد وابتعد، وأخطأ وأساء، وعليه إن أراد المصالحة أن يعترف بالحق وأن يعتذر عن الخطأ، وأن يسلم بالأمر، ويقبل أن يكون تابعا لا شريكا، ومقودا لا قائدا.
لكن عامة الفلسطينيين وبسطاءهم، نساءهم ورجالهم وأطفالهم، ممن يجلسون على قارعة الطريق عاطلين بلا عمل، أو يعيشون على هامش الحياة السياسية ولا يشاركون قيادتهم بالرأي، وممن لا ينتمون إلى الفصائل والأحزاب، أو التلاميذ الذين يجلسون على مقاعد الدراسة في المدارس أو الجامعات، أو النساء اللاتي يتحلقن في الصباح والمساء ويتحدثن معا، فإنهم جميعا يعرفون أن قيادتهم غير مخلصة، ومرجعياتهم غير صادقة، وأن القوى نفسها لا تريد الاتفاق، ولا تحرص عليه ولا تسعى إليه، بل هي معنية باستمراره، ومستفيدة من بقائه، ومتضررة من زواله، ولهذا فإنهم لا يسعون لحل الأزمة، ولا يعجلون في احتوائها والسيطرة عليها، إذ باتت بالنسبة لهم مادة للكسب، وخبزا ليومهم وشغلا لأنفسهم، ومبررا لبقائهم ومسوغا لاستمرارهم.
الفلسطينيون لا يؤمنون أبدا بأن العدو لا يريد للمصالحة أن تتم ولهذا فهي معطلة، لأنهم يعلمون يقينا أن العدو مستفيد من الانقسام ومعني به، ويرى أن المصالحة تضره والاتفاق يزعجه، والوحدة تنغصه، ولهذا فإن كانت قيادة أطراف الانقسام عاقلة وواعية، وصادقة ومخلصة، فإن عليها أن تعمل على الضد من إرادة العدو، وأن ترفض أن تكون أداة له، يستخدمها كيفما ووقتما يريد لخدمة أهدافه وتحقيق أغراضه، وإلا فإنها تنسق معه وتعمل من أجله، وتفيده وتنفعه من حيث تدري أو لا تدري، وهي بموجب المعايير الوطنية والقوانين النضالية فإنها خائنة تستحق العقاب، وعميلة يتوجب القصاص منها.
الفلسطينيون يقولون بأن العيب ليس في الوسطاء ولا هو فيما يسمى بالرباعية العربية، وإن كانت تضع شروطا وتفترض تصورات، وتمارس ضغوطا وتحاول أن تملي مواقف، وتنسق فيما بينها وتتحد في الموقف وتتوافق في السياسة، إلا أنها تبقى عاجزة عن فعل شئ لا يريده الفلسطينيون أو لا يوافقون عليه، ولهذا فلا يتحمل الوسطاء ولا غيرهم مسؤولية الانقسام وتأخر المصالحة أو تعذرها، إنما العيب فينا نحن الذين لا نريد أن نتفق، ونرفض أن نلتقي، وننقلب على أنفسنا إذا اتفقنا، لأن الاتفاق يهدد مصالحنا ويفسد منافعنا.
لا يعقد الفلسطينيون الأسباب والمعوقات، ولا يتفلسفون في تحليل الموقف ومعرفة الأسباب الكامنة وراء استمرار الانقسام وتعذر المصالحة، إذ أنهم يعرفون الحقيقة ويدركون العلة والمرض، فهم لا يبرؤون أنفسهم وأطرافهم من المسؤولية المباشرة، ولا ينفون عن أنفسهم العيب والخطأ، وإن كانوا يدينون العدو لتدخلاته، والمجتمع الدولي لانحيازه، والوسطاء لعدم نزاهتهم، والرباعية العربية لتدخلاتها، والرباعية الدولية لشروطها، وينسبون الانقسام لاختلاف البرامج وتعدد السياسات، إلا أنهم يتهمون قيادتهم، ويشككون في نوايا أطراف أزمتهم، ويقولون ببساطة ووضوح، وبكلمات سهلة وتعبيرات بسيطة، أن الأطراف الفلسطينية لا تثق ببعضها، ولا تصدق نفسها، ولا تصون أمانتها، ولا تتق الله في شعبها، ولا يعنيها أمره، وإنما تهمها مصالحها، وتشغلها منافعها، وهذه كلها يضمنها الانقسام وتهددها المصالحة وتقضي عليها الوحدة الاتفاق.

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 22/9/2017
httpswww.facebook.commoustafa.elleddawi
moustafa.leddawigmail.com