تكمن أهمية وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في كونها الشاهد الأممي الحي على مأساة الشعب الفلسطيني، الذي اقتلع من أرضه ووطنه خلال أعوام النكبة الأولى، بتواطؤ من الأمم المتحدة وجمعيتها العامة، التي كانت تخضع بالكامل للدول الاستعمارية، والتي اعتمدت قرار تقسيم فلسطين 181 بغير وجه حق. تشريد ثلثي الشعب الفلسطيني، الذي كان من المفروض أن يكون مؤقتا، أصبح دائما، والمخيم المكون من خيم تحول إلى مدن صفيح، ومدن الصفيح تحولت إلى بيوت من طوب، وتشتت اللاجئون في الدول المضيفة وبقية أصقاع الأرض، ولكنهم لم يتخلوا عن حق العودة التي كفلتها لهم المنظمة نفسها التي أنشأت الكيان في ديارهم.
اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 194 في ديسمبر 1948 الذي يقر بحق العودة، ثم أنشأت في ديسمبر 1949 بموجب القرار 302 وكالة خاصة للاعتناء باللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى، كما كان يسمى عندما كانت بريطانيا دولة عظمى، إلى أن تسيدت الولايات المتحدة فأسمته الشرق الأوسط. ويشير القرار المذكور مرتين (البندان 5 و20) إلى حق العودة، كما ورد في قرار 194.
طلب من الوكالة أولا أن تعرّف من هم اللاجئون الفلسطينيون، فأقرت بأنهم الذين كانوا يعيشون في فلسطين بطريقة عادية، خلال الفترة من 1 يونيو 1946 لغاية 15 مايو 1948 والذين فقدوا بيوتهم ووسائل عيشهم ورزقهم. وينسحب هذا التعريف على أولادهم والمتحدرين منهم من الذين يولدون بعد هذا التاريخ، كما ينطبق حتى على الأولاد بالتبني. وعندما بدأت الوكالة عملها الميداني عام 1950 سجلت اللاجئين الذين ينطبق عليهم التعريف، فوجدت عددهم نحو 750000 وصل عددهم هذه الأيام نحو 5.3 مليون موزعين على 58 مخيما في فلسطين والأردن ولبنان وسوريا. أما بقية اللاجئين الذين تشردوا في أصقاع الأرض، فلم يحسبوا ضمن هذا العدد المتواضع.
من بين شوائب هذه الوكالة المهمة تمويلها بطريقة لئيمة ومقصودة، حيث جعلت ميزانيتها تعتمد على التبرعات، بدل اعتماد نظام المحاصصة الإجباري. وبما أن جل المتبرعين من الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، إذن بشكل أو بآخر وضع مصير الأونروا في أيدي تلك الدول نفسها، التي أنشأت الكيان الصهيوني وشرعنت وجوده عبر قرار التقسيم. وكان موقف الدول العربية لغاية عام 1990 عدم المساهمة في ميزانية الوكالة، تحت حجة أن الدول الغربية هي التي خلقت مشكلة اللاجئين وعليها أن تتولى أمورهم.
مؤامرة مكعبة
بين عامي 1950 و1974 كانت اللجنة السياسية الخاصة تناقش بند الأونروا، من منظور إنساني كقضية لاجئين، وتعيد كل مرة بطريقة آلية التأكيد على القرار 194 وحق العودة في غياب كامل للقضية الفلسطينية.
عاد "بند فلسطين" إلى الأمم المتحدة عام 1973 كقضية سياسية وليست إنسانية فحسب، بقوة الشعب الفلسطيني الذي امتشق السلاح وأعلنها ثورة عارمة رقعتها أرجاء المعمورة كلها، وبعد أن تغيرت تركيبة الجمعية العامة لتشمل ممثلي الدول التي اكتوت بنيران الاستعمار، وبعد أن عاد العرب إلى الأمم المتحدة كقوة بعد حرب أكتوبر المجيدة، قبل أن يبيع السياسيون ما أنجزه العسكر في كامب ديفيد. فأكدت العديد من القرارات اللاحقة، خاصة القرار 3236 (1974) على حق العودة، كما اعتمدت العديد من القرارات التي تلغي كافة الإجراءات الإسرائيلية المتعلقة بنتائج الاحتلال.
بعد اتفاقية أوسلو المشؤومة بدأت إسرائيل تعمل بجدية مطلقة وبشكل متواز ٍعلى ثلاث جبهات- إلغاء حق العودة وإعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني وتفكيك الأونروا. طرحت إسرائيل عن طريق الولايات المتحدة فكرة استبدال قرارات الأمم المتحدة السابقة المتعلقة، بالتأكيد على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وممارسة حقوقه غير القابلة للتصرف، التي تشمل حق العودة وحق إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، وحق تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني، بالتأكيد على العملية السلمية وما جاء في اتفاقيات أوسلو واعتبار مرجعية أوسلو بديلا لما سبق واتخذ من قرارات. وقد باءت هذه المساعي بالفشل، وظل قرار حق تقرير المصير والحقوق الأخرى غير القابلة للتصرف موضع تأييد كبير من المجتمع الدولي ولغاية الآن.
إن أول وثيقة تتضمن استبدال حق العودة نصا لم يأت من الأمم المتحدة، بل من مشروع الملك السعودي عبد الله، الذي اعتمد تحت اسم "مبادرة السلام العربية" في قمة بيروت عام 2002 والذي نص لأول مرة على "حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.
الحملة ضد الأونروا
بالنسبة لإسرائيل ظل وجود الأونروا يؤرقها، لأنه يعني ببساطة الإقرار بحق العودة. وقد عملت منذ اتفاقيات أوسلو وإلى اليوم على هز الثقة في نزاهتها واتهامها بالإنحياز للرواية الفلسطينية، وبتشغيل موظفين من أنصار حماس، والسماح لحماس بتخزين السلاح في مستودعاتها وتدريس مواد في مدارسها لا تعترف بإسرائيل، بل وتحرض عليها. وقد ساهمت بعض الحوادث الهامشية تعزيز هذه الدعاية مثل اكتشاف أنفاق تحت مدارس الأونروا، رغم نفي حماس، حيث استخدم نتنياهو هذا الحادث ليعلن: أن "حماس تستغل المدارس وتستعملها كدروع بشرية، فهذه جرائم حرب مضاعفة". كما وجّه داني دانون رسالة إلى مجلس الأمن الدولي بهذا الخصوص، متهما الوكالة بتشغيل مناصرين لحركة حماس واستغلال مدارس الأونروا لتخزين السلاح واستخدامه واستغلال الأطفال كدروع بشرية.
تضاعفت مخاوف الأونروا مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وسفيرته لدى الأمم المتحدة، التي جعلت من الدفاع عن إسرائيل جوهر برنامجها في المنظمة الدولية. وقد نجحت إسرائيل والولايات المتحدة بإحباط جلسة للجمعية العامة في شهر يوليو الماضي، لزيادة ميزانية الأونروا، حيث تم إلغاء البند من جدول الأعمال الذي تقدم به الفلسطينيون بدعم من مجموعة دول عدم الانحياز.
بلغ الأمر أخيرا أن تشكلت مجموعة ضغط في إسرائيل برئاسة عضو الكنيست شارين هاسكيل عن حزب الليكود مهمتها مراقبة عمليات الأونروا والضغط على المجتمع الدولي لإجراء تغييرات جوهرية في ولايتها. وقد قامت المجموعة برئاسة نائبة وزير الخارجية تسيفي حوتوبيلي بزيارة واشنطن للقاء المسؤول الأمريكي المكلف بهذا الملف، السيناتور تيد كروز، الأكثر ليكودية من أعضاء حزب الليكود، لشرح الموقف الإسرائيلي من الأونروا، بل أعلن نتنياهو أنه طرح مسألة تفكيك الأونروا مع السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة نيكي هيلي أثناء زيارتها في يونيو الماضي للكيان. وقد حاول نتنياهو أن يتذاكى وطالب بدمجها مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. وطبعا هذا أمر بعيد المنال فلكل من الوكالتين ولاية مختلفة ويحتاج أي تغيير إلى قرار من الجمعية العامة.
أما التكتيك الجدي الذي طرحته إسرائيل مؤخرا هو إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني لينطبق فقط على من خرجوا من فلسطين عام 1948 ولا ينطبق على أولادهم وذرياتهم من بعد. الكاتب الصهيوني دانيل غرينفيلد، ومقره نيويورك، المتخصص في الإسلام الراديكالي، كما يعرف نفسه، كتب سلسة مقالات أخطرها بتاريخ 13 يوليو 2014 تحت عنوان "أوقفوا دعم الأونروا – ذراع حماس في الأمم المتحدة" قال فيه إن الأونروا "ليست درعا بشريا لحماس، بل هي حماس". ويؤكد في المقال على أن حماس تسمح للأونروا بالعمل بحرية في غزة وتشرف على 245 مدرسة فيها 232000 طفل، وتشغل عشرة آلاف موظف، لأن الأونروا هي منظمة عربية إسلامية حمساوية ترفع شعارات أممية، ويتم تمويلها من قبل المجتمع الدولي. ويصر غرينفيلد على أن اللاجئين الذين أنشئت أونروا لمساعدتهم قد ماتوا أو بقي منهم القليل وما تقوم به اليوم تقديم الدعم لدولة المخيمات، التي تفوق في تطورها كثيرا من المدن العربية. إذن لا بد من إلغاء حق العودة وقصر تعريف اللاجئ على أولئك الذين خرجوا من فلسطين. ولو اعتمد هذا التعريف لانخفض عدد اللاجئين من 5.3 مليون إلى أقل من 20 ألف مسن في طريقهم إلى الانقراض في العشر سنوات المقبلة.
حملت هذه المخاوف مؤخرا إلى المفوض العام للوكالة السويسري بيير كراهانبول فقال: "دعني أقول لك إن الشيء المهم والمؤثر هو هذا التأييد التي تلقته الأونروا في اجتماع الجمعية العامة في ديسمبر الماضي لتجديد ولايتها لثلاث سنوات أخرى، فقد صوتت 167 دولة لصالح التجديد. وهذه رسالة واضحة في تأييد عمل الأونروا".
لكن لا يطمئن أحد إلى أن الحملة الشعواء ستنتهي غدا أو تفشل، فإسرائيل ترى أن فرصتها الآن مواتية بوجود إدارة ترامب في البيت الأبيض ونيكي هيلي في مقر الأمم المتحدة وسفير المستوطنات داني دانون نائبا لرئيس الجمعية العامة. على الفلسطينيين والعرب وأنصارهم من دول عدم الانحياز التحرك لتشكيل مجموعة اتصال قوية لحماية الأونروا لغاية الوصول إلى حل سياسي شامل وعادل، يشمل حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم وأراضيهم أو التعويض لمن يختار عدم العودة، حسب منطوق القرار 194 والذي لا يموت بالتقادم.
د. عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجيرسي
القدس العربي