فكرة الدولة الواحدة ليست جديدة، والقيادي صلاح خلف(أبو إياد) تحدث عنها صراحة (حوالي 1968/1969م) بأنها دولة ديموقراطية على امتداد فلسطين التاريخية يتعايش فيها العرب واليهود على قدم المساواة..وقتها كان الوضع الدولي والإقليمي والفلسطيني إلى حد ما يعطي هامشا لدراسة أو تقبل هذه الفكرة، استنادا إلى عوامل قوة مختلفة.
الآن الأوضاع بعد حوالي 50 عاما قد تغيرت وتبدّلت كثيرا، وكيف ولماذا يقبل قادة إسرائيل من مختلف الأحزاب الصهيونية مثل هذه الفكرة التي تنهي الفكر الصهيوني وتنسفه من أساسه؟ما الذي يجبرهم؟عسكريا إسرائيل ارتاحت من خطر الجيوش العربية التي انشغلت بما نعلم، ولم تعد تفكر في خوض أي نوع من الحروب الصغيرة أو الكبيرة مع إسرائيل، والمقاومة ما زالت في طور الاستراتيجية الدفاعية، وهي موسومة بالإرهاب عند القوى العظمى والكبرى، علما بأن هذه القوى دعمت وتدعم إسرائيل بما هي عليه من عنصرية وعدوانية، ويبعد أن تضغط عليها ولو قليلا، وإذا ضغطت سيكون ضغطا دبلوماسيا لا نتيجة له على أرض الواقع.
وفي حالة فلسطين المحتلة ثمة كوابح أو ألغام أمام فكرة/حل/خيار الدولة الواحدة أهمها:-
1) الوجه الحضاري والثقافي للصراع:ففلسطين ليست أرضا محتلة فقط بسبب موقعها الجغرافي في المشرق؛ أو بسبب ثروات طبيعية ومعادن، هي لا تمتلك مخزونا مغريا منها أصلا؛ بل هناك وجه آخر يتمثل في سرديتين متناقضتين، محورهما المسجد الأقصى ومدينة القدس؛ ولا يمكن الركون إلى ما كان يسمى بـ(الحل الإبداعي) بجعل القدس دولية أو مدينة لكل الديانات، ففكرة الهيكل المزعوم تسيطر بتزايد على عموم الفكر الإسرائيلي، وهذا يعني أنه لن يكون هناك مسجد أقصى للمسلمين، و المسلمون لم ولن يقبلوا بتقسيم هذا المسجد، أو التنازل عن مليمتر مربع واحد منه، وقد برهنوا على ذلك قولا وفعلا منذ ثورة البراق في 1929 وحتى الهبة الأخيرة قبل أسابيع...فالدين والثقافة والمفاصلة الحادة التي لا تقبل التفكير او التفاوض تلوح معالمها في الأفق عندما يذكر اسم القدس...فإذا قبلنا جدلا بفكرة أن تكون القدس عاصمة لدولتين، فكيف سيكون المسجد الأقصى هو (جبل الهيكل) في ذات الوقت؟وهنا قد يقال بأن إسرائيل قامت واستمرت حوالي 20 سنة دون أن تسيطر على شرق القدس والمسجد الأقصى، وقرار التقسيم لا يعطيها حقا خاصا في القدس، وهذا صحيح، ولكن حلم السيطرة على القدس كان حاضرا في فكر قادة الحركة الصهيونية قبل أن تحط رحال أي مهاجر منهم في أرض فلسطين، ولكن الظروف العسكرية والسياسية لم تكن مهيأة لهم؛ وهنا يجب أن ننوه إلى أن جميع الحملات الصليبية كانت تعتبر القدس هدفها المركزي، ولهذا اعتبرنا صلاح الدين الأيوبي البطل رقم واحد والمحرر الأعظم في تلك الحقبة التاريخية، مع أنه حتى بعد تحرير القدس بقيت ممالك صليبية بعد ذلك قرنا من الزمان، وكان تسليم القدس على يد الكامل الأيوبي(وهو ابن العادل أخو صلاح الدين) بعد حوالي 40 عاما من تحريرها محل حزن وكمد وغضب عند جموع الأمة، مع أن التسليم وتبعاته لم يكن بالصورة التي احتلت بها في (1099م) حيث لم يمس بالمسجد الأقصى تدنيسا وتغييرا للمعالم(للاستزادة يمكن مراجعة المراجع التاريخية أو كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب،أمين معلوف).
وحتى لويس التاسع ملك فرنسا عندما هاجم مصر في الحملة الصليبية السابعة كانت عينه على القدس..باختصار:لا توجد قدس في جنوب أفريقيا!
2) الدور الوظيفي لإسرائيل: هذا كيان مزروع لأهداف تكتيكية واستراتيجية، ينفذ مهمات خاصة بالآلة الرأسمالية، حتى وإن شطح قادته وتمردوا فإنهم لن يستطيعوا الخروج عن الدور المرسوم لهم، حتى لو رأينا هامش مناورتهم واسعا؛ لنتذكر مثلا كيف أن شامير وقادة جيشه كانوا يهددون ويتوعدون بأنهم سيردون على صواريخ صدام حسين، ولكن القول الفصل كان عند(المعلم الكبير) في الولايات المتحدة...فهل انتهى هذا الدور الذي وجدوا من أجله؟إذا قلنا :نعم انتهى، فلا داعي للتفكير بحلول من أصله لا دولة واحدة ولا دولتين، لأن المستوطنين سيهاجرون من حيث أتوا، وإذا قلنا لم ينتهي، فمن سيقوم به؟هل الدولة الواحدة ذات الأغلبية الفلسطينية ستنفذ المهمات والخطط؟
3) العامل الديموغرافي:من السهل الاستنتاج أن الدولة الواحدة مع مر الزمن إذا كان سيقودها نظام مهما كان شكله قائم على الانتخابات، فهذا يعني أن الحاكم سيكون عربيا فلسطينيا بلا شك، ولو حتى كانت الدولة الواحدة أتوقراطية(نظام حكم الفرد المطلق) بزعيم يهودي فإن القنبلة الديموغرافية ستنفجر في وجهه سريعا، وتركيبة العقل الصهيوني الاستعلائية المستندة إلى أساطير تلمودية وعوامل أخرى غذتها نزعة التفوق والتميز لن تقبل بهذه المعادلة أو الحل، فهؤلاء قوم يختلفون عمن يمكن أن نقارنه بهم في أماكن أخرى.
4) انفجار الإثنيات والنزوع إلى الانفصال:نرى العالم من حولنا، وآخره كان كتالونيا في إسبانيا، وكردستان في العراق، والنزاعات الطوائفية المتفجرة أو الكامنة في محيطنا العربي، تشير بوضوح شديد إلى رغبات جامحة في تأسيس كيانات على أسس عرقية أو طائفية منفصلة عن محيطها سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وفي ظل هذه السيولة الداهمة للنزعات الانفصالية إقليميا ودوليا، من سيقول لإسرائيل:عيشوا مع الفلسطينيين في دولة واحدة وتقاسموا الأرض والحقوق والواجبات؟على أي أساس ووفق أي منطق؟خاصة وأن قادة بعض الأعراق والطوائف الذين تجمعهم روابط هي أقوى وأشد متانة مع أعراق وطوائف يساكنونها يسعون للانفصال عنها، فلم يقبل مستوطنون يهود مختلفون كليا عنا هذه الصيغة؟وقد يرى بعض المتابعين والمحللين أن لإسرائيل بصمات وتدخلات ساهمت في تفجير أو زيادة وتيرة هذه النزعات الانفصالية، كي ينشغل عنها الفرقاء من جهة، وكي تصبح فكرة الدولة اليهودية مقبولة وعادية جدا في خضم هذه الصراعات؛ ربما هذا صحيح وعليه براهين وأدلة، ولكن هو أمر واقع، وبالتأكيد في ظل هذا الواقع الصعب تبدو المطالبة بدولة واحدة في فلسطين يتساوى سكانها في حقوق المواطنة بغض النظر عن دينهم أو قوميتهم أشبه بصرخة في حفل مملوء بضجيج مكبرات الصوت!
هذه أهم الكوابح والألغام التي تعترض فكرة الدولة الواحدة، ولكن هل معنى هذا نبذ الفكرة، والتخلي عن التلويح بها، أو المطالبة بها في المحافل الدبلوماسية والإعلامية؟لا طبعا، لأن طرح الفكرة هو بمثابة هجوم دبلوماسي إلى الأمام، يغير من حسابات الاحتلال، الذي صبّ جهده وأنفق مئات المليارات وسن القوانين وبذل وما زال جهودا معلومة ومجهولة كي يصبح حل الدولتين غير قابل للتطبيق الفعلي، فعليه سيحاول تغيير خططه باتجاه آخر.
وحينذاك يجب أن تكون للفلسطينيين خطة تحرك على مختلف الصعد، غير آبهين بتنكر القريب والبعيد لهم والقدس هي قلب هدفهم، والحرية جوهر خطتهم.
بقلم/ سري سمّور