نُشرت هذه اليوميات للمرة الأولى في «الكرمل»، العدد 2، تموز (يوليو) 1981؛ الفصلية التي أطلقها محمود درويش من بيروت تلك السنة. واليوميات تغطي الفترة بين 1960 إلى 1965، وفي إعادة إصدارها على هيئة كتاب، تقدّم دار "راية" الحيفاوية خدمة كبيرة لقارئ كنفاني أولاً، إذْ تعكس اليوميات عناصر الصدق الإنساني والحرارة التعبيرية وحسّ المكاشفة؛ ولكنها أيضاً تخدم الباحث في أطوار الوجدان الفلسطيني المثقف خلال تلك الحقبة، حيث كان كنفاني أحد كبار ممثلي الإبداع الفلسطيني، في الشتات بصفة خاصة.
هنا يومية 4/1/1960:
"إنني مريض، نصف حيّ يكافح من أجل أن يتمتع بهذا النصف كما يتمتع كل إنسان بحياته كاملة. وكل المحاولات التي أفتعلها لكي أنسى هذه البديهية تقودني من جديد لكي أواجهها، وبصورة أمرّ.
لقد توصلت الآن إلى أن أؤمن بأن عنصر المشاركة يكاد يكون معدوماً بين الناس. إنهم يحسون أنك تتألم ولكنهم لا يعرفون كم تتألم، وليسوا على استعداد أبداً لأن ينسوا سعادتهم الخاصة من أجل أن يشاركوا الألم. وعلى هذا فعلينا أن نتألم بيننا وبين أنفسنا، وأن نواجه الموت كما يواجه واحد من الناس الآخرين نكتة يومية. وهذا يجعل من الإنسان عالماً بلا أبعاد، ولكنه في الآن ذاته، عالم مغلق على ذاته.
في الحقيقة إن المخرج الوحيد من هذه الدوامة الموحلة، هو أن يؤمن المرء بأن العطاء هو المقبول فقط لدى إنسان الحضارة. وأن الأخذ عمل غير مرغوب فيه. أن يعيش الإنسان باذلاً نفسه هو المقابل، ولا مقابل سواه. إنني أحاول الآن أن أصل إلى هذا الإيمان بطريقة من الطرق، أو أن الحياة تصبح ــ بلا هذا الإيمان ــ شيئاً لا يحتمل على الإطلاق.
دفعني لأكتب هذا الكلام جرح سببته الحقنة اليومية في هذا الصباح. وأعتقد أنه ما زال ينزف إلى الآن. لو قلت لإنسان ما إنني أتألم منه لاعتبره شيئاً يشبه النكتة الطريفة، ويرددها على هذا الأساس، متسائلاً: "كيف يستطيع إنسان أن يجرح نفسه؟ لا شك أنها تجربة طريفة!". أو أنه على أحسن الاحتمالات سوف يقول: "إنه يتألم!" ويغيّر الموضوع. أما بالنسبة لي فهي تعني، وسوف تبقى تعني كل يوم، أنني أريق جزءاً من احتمالي، وإنسانيتي، وسعادتي من أجل أن أعيش. وإنه لثمن باهظ حتماً. أن يشتري الإنسان حياته اليومية بالألم، والقرف، والنكتة. إنه ثمن باهظ بلا شك، أن يشتري حياته اليومية بموت يومي…".
دار راية، حيفا 2017