ماذا يمثل هذا العام 1979م لما قبله وما بعده ؟ ولي العهد السعودي الأمير الشاب محمد بن سلمان وصف هذا العام بالعام الفاصل ما بين الإسلام الوسطي والإسلام المتطرف، نعم سمو الأمير ليس فقط بالنسبة للمملكة العربية السعودية، بل لكل العرب والمسلمين هذا التاريخ مهم على المستوى الجمعي، وحتى نضع الموضوع في سياق موضوعي تاريخي سياسي، لابد من قراءة الواقع التاريخي والسياسي والإجتماعي ما قبله وما بعده، منذ الحرب العالمية الأولى وإلى ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت مشكلة الحرية والإستقلال والتنمية هي الشغل الشاغل للشعوب والمجتمعات العربية والإسلامية التي رزحت تحت نير الإستعمار البريطاني والفرنسي، وما أن عمت موجة الإستقلال أربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي معظم الدول العربية، بات بعدها أم القضايا تكمن في مواجهة العدوان الصهيوني وتحرير فلسطين ومواجهة آثار التجزئة في الوطن العربي والتنمية بكل أبعادها الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والسياسية، وقد شهدت هذه الفترة نمو الأحزاب القومية واليسارية والإسلاموية، والتي ترى جميعها أنها في مواجهة مع الدولة القُطرية العربية فلا تقرُّ بها وإنما تتطلع إلى فضاء جغرافي وسياسي أوسع منها، وترى أن الدولة القُطرِية عاجزة عن تحقيق أمانيها وتطلعاتها في مواجهة التحديات الإستراتيجية التي تواجه الأمة على مستوى التحدي مع العدو الصهيوني أو على مستوى الوحدة والهوية العربية والإسلامية، وقد صدم التيار القومي واليساري بالهزيمة التي لحقت بالدول العربية في العدوان الإسرائيلي عام 1967م، وأقام تيار الإسلام السياسي حينها الأفراح والليالي الملاح شماتة بالتيار القومي واليساري في تلك المرحلة، ولكن رغم تلك الهزيمة المدوية إستطاعت الدول العربية وخصوصاً جمهورية مصر العربية وبدعم من أشقاءها إستعادة بعض الروح بعد حرب أوكتوبر 1973م، كما استطاع الشعب الفلسطيني أن يفجر طاقاته ويعلن ثورة شعبية في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي يلتف حولها الشعب الفلسطيني والأمة العربية وقوى التقدم والسلام في العالم، وكانت المحصلة أن تقع حرب 6 أوكتوبر عام 1973م والتي حققت نصراً عسكرياً أعاد الثقة والإعتبار للجندي العربي وللمواطن العربي الذي فقده في حرب العام 1967م، فقد إجتازت القوات المصرية قناة السويس ودمرت خط الدفاع الإسرائيلي (خط بارليف)، فكان هناك تغير في الواقع العربي دون الدخول إلى التفاصيل فيه، نستطيع أن نقول أنه قد حصل تضامن عربي شكل لأول مرة تهديداً خطيراً لأمن الكيان الصهيوني، يضاف إلى ذلك التلويح بإستخدام النفط وما له من بعد إقتصادي سياسي في الضغط على القوى المساندة للكيان الصهيوني وعدوانه على فلسطين والأمة العربية، من هنا قامت الدوائر الإستعمارية بمراجعة سياساتها إزاء الصراع العربي الإسرائيلي من جهة، وإزاء التعاطي مع الشؤون العربية كافة السياسية والإقتصادية والثقافية، وتقرر وضع سياسات وإستراتيجيات جديدة تحول دون الإبقاء على الصراع العربي الإسرائيلي ملتهباً، لما يمكن أن يحدثه من حالة تضامن بين العرب، وما يمكن أن ينتج عنه من تهديد خطير لأمن الكيان الصهيوني، وبالتالي كان قرارها (لابد من العمل الجاد على تبريد هذا الصراع إلى أقصى درجة ممكنة عبر التوصل إلى إتفاقات سلام أو تسويات بينه وبين بعض الدول العربية وصولاً إلى دمجه مع دول المحيط الرافضة له، وفي نفس السياق، العمل على إحداث صراعات بينية داخلية، داخل الدول العربية، وفيما بينها وبين دول الجوار، تعلو حدة على الصراع العربي الإسرائيلي، بل يصبح الصراع العربي الإسرائيلي بجانبها صراعاً ثانوياً، كما هو حاصل الآن)، لم يكن العرب في غفلة عن كل هذه السياسات الإستعمارية بل كان هناك بعض الإدراك من بعض النخب والزعامات السياسية، ولا أدل على ذلك من وجود قيادات تاريخية حينها مثل الملك فيصل بن عبد العزيز والرئيس هواري بومدين رحمهم الله واللذان تصدرا مواجهة هذه السياسات بثبات مواقفهم من قضايا الأمة، وفي مقدمتها قضية فلسطين، فكان إندلاع الحرب الأهلية في لبنان الشقيق عام 1975م، وإنسحاب أسبانيا من طرف واحد أيضاً في نفس العام 1975م من الصحراء الغربية دون تنسيق مع أي من الأطراف ذات العلاقة، فغرق لبنان في حرب أهلية أغرقت الثورة الفلسطينية في أتونها وقسمت الشعب اللبناني إلى قطع متناثرة بعدد طوائفه وأحزابه، وأغرقت دول المغرب العربي في صراع حول مستقبل الصحراء الغربية لم ينتهي لغاية الآن ...
لكن الإنجاز الأهم في مواجهة هذه السياسات يَكمُن في إنجاز الجزائر وبدعم من المملكة العربية السعودية، من لعب دور أساسي وإستراتيجي في إطفاء صراع متفجر بين العراق وإيران الشاه وذلك من خلال عمل دبلوماسي كبير مَكَنّ العراق وإيران الشاه من التوصل إلى توقيع إتفاق آذار 1975م في الجزائر أنهى الخلافات الحدودية بين الطرفين، وأنهى ثورة أكراد العراق بقيادة مصطفى برزاني التي كانت تجد الدعم من إيران ودول الغرب وإسرائيل وكان معولاً عليه أن يكون بديلاً للصراع العربي الإسرائيلي، في نفس الوقت الذي شهدت جبهة الصراع العربي الإسرائيلي نشاطاً دبلوماسياً دولياً وأمريكياً بحثا عن تسوية له قد تمخض عن توقيع إتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978م، وفرض سياسة الإتفاقات والحلول الإنفرادية ما بين الدول العربية والكيان الصهيوني، وإسقاط مفهوم وحدة الصراع ليحل مكانه سياسة تجزئة الصراع والبحث عن حلول انفرادية له، حيث تحول بذلك من صراع قومي مع الكيان الصهيوني إلى صراع يعني كل دولة منفردة على حدة مع هذا الكيان، هذا الفهم وهذه السياسة التي باتت تحكمه لغاية الآن وما نتج عنها من إتفاقات إنفرادية أخرى مع الأردن ومع م.ت.ف وما يجري بحثه الآن على مستوى فردي يؤدي إلى إتفاقات ثنائية ما بين الأطراف العربية والكيان الصهيوني .. مثل إتفاق أوسلو 1993م ثم إتفاق وادي عربة 1994م ..الخ، بالعودة لإتفاق آذار 1975م والذي لم يَرُقْ للدوائر الغربية والإسرائيلية فقد جرى بعده شيطنة نظام شاه إيران وإتهامه بإنتهاك حقوق الإنسان وجرى رفع الغطاء الغربي عنه وتحديداً الأمريكي والنفخ بالقوى المعارضة له وتمَ إحداث ثورة شعبية عليه شاركت فيها جميع قوى المعارضة الإيرانية كما حصل تماما في الربيع العربي في مصر في يناير 2011م، أدى إلى الإطاحة بحكم الشاه في يناير 1979م وعودة القوى المعارضة له لإستلام السلطة بزعامة أية الله الخميني وجرى سرقة الثورة الشعبية من قبل تيار إسلاموي مستبد ممثلاً بالخميني والملالي أسس لنظام ديني طائفي وسعى لتصدير نموذجه إلى دول الجوار العربي والإسلامي، عبر شعارات براقة وهدامة تهز إستقرار دول الجوار، مما أعاد الأمور بين العرب والعراق تحديدا مع إيران إلى أسوء ما كانت عليه قبل إتفاق آذار 1975م، وجرى سقوط هذا الإتفاق تمهيداً لإنفجار الحرب العراقية الإيرانية التي دامت عشر سنوات طوال حصدت ما حصدت من الأرواح البريئة من الطرفين، وألهبت المشاعر والغرائز كما شهد العام ذاته 1979م التدخل السوفيتي الغبي والمباشر في أفغانستان نصرة للنظام الشيوعي الحاكم فيه على أنقاض سلسلة من الإنقلابات بدأت في أفغانستان ضد النظام الملكي المستقر في سبتمبر من عام 1973م ليجري تأجيج المشاعر الإسلامية في مواجهة الشيوعية الكافرة وبعث روح الجهاد ضده وبدعم من دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة، وتواكب مع ذلك حادثة إحتلال الحرم المكي الشريف في نوفمبر 1979م، وتأجيج الغرائز الدينية، والتي لقيت الدعم المباشر من الحركات الإسلاموية السياسوية وفي مقدمتها (جماعة الإخوان المسلمين) والتي رأت في هزيمة القوى القومية واليسارية سابقاً إنتصاراً لها، ففتحت لها المنابر والساحات في كافة أقطار العرب والمسلمين للتحشيد ضد الشيوعية والجهاد وحتى في فلسطين المحتلة لم تكن بعيدة عن هذه المتغيرات، فقد أفتتح رسمياً المركز الإسلامي في غزة في العام 1978م برعاية إسرائيلية ودعم مباشر من بعض الأقطار العربية وبقيادة تنظيم الإخوان المسلمين فرع فلسطين (فرع غزة) والذي سيأخذ على عاتقه التأسيس للبنية التحتية لبناء جسم سياسي خارج عن م.ت.ف وموازي لها مستقبلاً، والذي تبلور مع الإنتفاضة الفلسطينية المجيدة في عام 1987/1988م بإعلان قيام حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وبذا يكتمل المشهد لما عرف بعد العام 1979م (بالصحوة الإسلامية) وتكتمل مفاعيله في التسيد على عرش الجماهير الإسلامية والعربية والدخول في صراعات داخلية وبينية تلعب فيها قوى الإسلام السياسي (دور حصان طروادة) في أحداث المنطقة حتى يبرز هذا الدور بشكل جلي في نهاية 2010م وما بعده فيما عرف (بالربيع العربي) في مختلف الدول العربية والسطو على الإنتفاضات الشعبية وصرفها عن أهدافها في الحرية والعدالة والمساواة إلى محاولة الهيمنة على المشهد وخطف هذه الإنتفاضات من قبل التيار الإسلاموي، الذي رأت فيه الولايات المتحدة إلى نهاية ولاية الرئيس أوباما رهانها في (الفوضى الخلاقة)، وطبعاً لا ننسى تلك التحولات التي شهدها تيار الإسلام السياسي الذي بدأ مع أحداث أفغانستان أنه يحظى بالرعاية الرسمية من قبل الولايات المتحدة والعديد من الدول العربية إلى أن تناسخ منه تيارات أكثر تشدداً وعنفاً وأنقلبت على ذاتها وعلى حاضنتها بعد هزيمة الإتحاد السوفيتي في الحرب الباردة وسقوطه حيث ظهر (تنظيم القاعدة) من أحشاء هذا التيار، وبالتالي إنقسام تيار الإسلام السياسي بين تيارين معتدل يحظى بالدعم والرعاية ووضع محل الرهان، وتيار متشدد تكفيري إرهابي، والحقيقة أن التيارين ينهلان من منهلٍ واحد ويتغذيان من مصدر واحد، وهو فكر جماعة الإخوان المسلمين وتوظيفاته حسب الحاجة وحسب المواجهة المطلوبة، هذه بإختصار شديد ملامح (الصحوة التخريبية) التي شهدتها العقود الأربعة المنصرمة والتي قادت المنطقة إلى ما هي عليه الآن من تشدد وتشرذم وضياع للأهداف الوطنية والقومية، وخلط بالغ التعقيد فيما هو وطني وقومي وديني وسياسي إلى آخره من تعقيدات المشهد السياسي العربي والإسلامي، وصراعاته الداخلية والخارجية.
فلابد من إعادة الإعتبار أولاً للقيم السمحة للدين الحنيف الذي يقوم على أساس الحكمة والموعظة الحسنة، وعلى أساس التسامح الذاتي والداخلي والخارجي بعيداً عن كل صور الغلو والتطرف التي شوهت الدين وأهلكت الأمة ووضعت سلاحاً خطيراً وفتاكاً في يد أعدائها، ولابد من مواجهة هذه القوى المتشددة وإلحاق الهزيمة بها وتحرير الفرد والمجتمع من سطوتها وصحوتها وتشويهها الثقافي والمفاهيمي، لمفهوم الدولة والوطن والمواطنة، الذي يرسي قواعد الأمن والإستقرار ويخلق البيئة الملائمة للتنمية والتطور وردم الفجوة المعرفية والعلمية والتنموية بين المجتمعات العربية والإسلامية وبين المجتمعات الأخرى، هذه الفجوة التي باتت عميقة وواسعة، فهي تحتاج للتخطيط السليم والمواجهة على كل المستويات والإرادة السياسية الحاسمة، التي تعيد الأمور إلى نصابها القويم، ليست المسألة سهلة وليست الأمور بالتمني، بل هي بالعمل الجاد وإنهاء الدور الذي لعبه حصان طروادة (الجماعات الإسلاموية) خلال الأربعة عقود الماضية من التسيد على الثقافة والشارع الجماهيري تحت مسمى خادع (الصحوة) (والإسلام هو الحل) والذي هو في الحقيقة الفجوة والهدم والخراب والدمار لكل ما هو نافع للنهوض بالمجتمعات والدول والأمة، وتحقيق أهدافها في الحرية والعدل والمساواة والإستقلال وإنجاز حل واقعي للقضية الفلسطينية يؤدي إلى إنهاء إحتلال الكيان الصهيوني للأراضي المحتلة الفلسطينية والعربية في عام 1967م، وتمكين الشعب الفلسطيني من حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الفلسطينية وعاصمتها القدس، ذلك هو الضمان الأكيد لسيادة الأمن والإستقرار في عموم المنطقة وتحقيق النهوض لشعوبها وتحقيق التنمية المستدامة، وذلك شرط رئيسي للإنتصار على التطرف والإرهاب في المنطقة وفي مقدمته إرهاب الدولة المنظم الذي يمارسه الكيان الصهيوني، ويشكل موئلاً ومصدراً للتطرف والإرهاب والغلو الذي عانت وتعاني منه دول المنطقة، ويغلق الساحة الهامة والرئيسية أمام التدخلات الإيرانية ودعمها لقوى التطرف والتشدد.
نخلص إلى أن العام 1979م نعم كان علامة فارقة تاريخية سياسية وثقافية في تاريخ المنطقة لعبت فيه وما بعده قوى التيار الإسلاموي (أبناء كارتر) (دور حصان طروادة) الذي أوصل المنطقة إلى ما هي عليه اليوم.
هذا موجز سريع لمن يريد أن يلتقط اللحظة.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس