في ذكراه المئوية.. وعد بلفور في مدار سايكس – بيكو
1- مبضع سايكس بيكو 2- فلسطين.. العقدة في منشار سايكس- بيكو 3- وعد بلفور.. تقاطع الظرفي مع الإستراتيجي 4- صك الإنتداب.. غلاف لوعد بلفور 5- الإنتداب .. حاضنة المشروع الصهيوني 6- في العلاقة مع الإحتلال والمحيط وأشكال النضال 7- في إقامة السلطة الوطنية 8- وعد بلفور..أسقط فلسطين من «نظام الإنتداب» 9- وعد بلفور.. خطر ماثل أمام شعوب المنطقة ■ ملاحق ■ مراجع
مطلع تشرين الثاني فهد سليمان (نوفمبر) 2017 نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
|
وعد بلفور في مدار سايكس – بيكو
وعد بلفور
«وزارة الخارجية – 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917
إنه من دواعي سروري الكبير أن أنقل إليكم باسم حكومة صاحب الجلالة الإعلان التالي عن التعاطف مع الأماني اليهودية والصهيونية الذي تمَّ عرضه وإقراره بواسطة مجلس الوزراء. ونصه كما يلي:
إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بالعطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين. وسوف تبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف. ومن المفهوم أن هذا الإعلان لا يمثل تحيّزاً ضد الحقوق المدنية والدينية لطوائف غير يهودية موجودة في فلسطين. كما أنه لا يؤثر على الأوضاع القانونية أو السياسية التي يتمتع بها اليهود في البلاد الأخرى. وسأكون شاكراً لكم إذا تفضلتم وأبلغتم هذا الإعلان لعلم الإتحاد الصهيوني
المخلص
آرثر بلفور»
■■■
The Balfour Declaration
«(…) His Majesty's Government view with favour the establishment in Palestine of a national home for the Jewish people, and will use their best endeavors to facilitate the achievement of this object, it being clearly understood that nothing shall be done which may prejudice the civil and religious rights of existing non Jewish communities in Palestine, or the right and political status enjoyed by the Jews in any other country(…)»■
■■■
(1)
مبضع سايكس – بيكو
1- إندلاع الحرب العالمية الأولى(8/1914-11/1918) طرح مصير السلطنة العثمانية – بما فيه ولاياتها العربية – على مائدة بحث متواصل بين فرنسا وبريطانيا أفضى إلى إتفاقية بينهما، كانت روسيا القيصرية – وإن بمسافة- شريكة فيها، قبل أن تخرج منها، ومن الحرب عموماً، إثر صلحها المنفرد مع ألمانيا في بريست – ليتوفسك (3/1918). وعلى الرغم من توقيع روسيا وإيطاليا عليها، فقد إقتصر مسمى هذه الإتفاقية على صاحبيها: البريطاني مارك سايكس، والفرنسي جورج بيكو، وشملت المنطقة العربية الممتدة من شمال سوريا والعراق إلى الخليج.
أدى إندحار الجيش العثماني من أمام الجيش البريطاني من رفح – فلسطين جنوباً، والبصرة – العراق شرقاً، ودخول الجيش الفرنسي إلى مسرح العمليات من لبنان غرباً، إلى وضع المشرق العربي خلف أسوار الإحتلالين البريطاني والفرنسي. وقاد تطبيق إتفاقية سايكس – بيكو، بما هي إتفاقية إقتسام وتقاسم إقليمي بين قطبين إمبرياليين لمغانم الإحتلال، بالنتيجة قاد إلى إقامة خمسة كيانات سياسية(1) في المنطقة: العراق في بلاد الرافدين، و4 كيانات أخرى في ما يُصطلح على تسميته بسوريا الطبيعية أو التاريخية: لبنان، شرق الأردن، سوريا، وفلسطين.
بقيت هذه الكيانات تحت السيطرة البريطانية والفرنسية المباشرة حتى مابعد الحرب العالمية الثانية بفترة قصيرة، وبما يقارب ثلاثة عقود من الزمن، شهدت سلخ مناطق واسعة عن سوريا، أهمها تم ضمها إلى تركيا الحالية(2)، فضلاً عن ترسيم الحدود بين هذه الكيانات(3)، التي تحوَّلت – باستثناء فلسطين- إلى دول مستقلة، وبفضل نضال حركات التحرر الوطني في هذه البلدان أساساً.
مورست هذه السيطرة الإستعمارية بأشكال وصيغ مختلفة، شكل الإحتلال قاعدتها الثابتة والأهم، وكانت واجهتها «القانونية» هي الإنتدابات المرسَّمة بتفويض من عصبة الأمم. أما فلسطين فكان لها مصير آخر، تواطأت فيه بريطانيا وفي جيبها وعد بلفور، مع الحركة الصهيونية، وإختتمت إنتدابها بالنكبة وقيام دولة إسرائيل، ما أدى إلى نشوء القضية، أو المسألة الوطنية الفلسطينية، المتواصلة فصولاً حتى يومنا.
2- تمثل إتفاقية سايكس – بيكو الحل الإستعماري الماثل لما كان يدعى في المحافل السياسية الأوروبية منذ زمان الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون (1798)، وعلى إمتداد القرن التاسع عشر بـ «المسألة الشرقية»(4)، وهي العنوان الكودي لمسألة البت بالمصير النهائي للإمبراطورية العثمانية(5)، التي إنتهت بعد الحرب العالمية الأولى إلى تكوين تركيا الحديثة، دولة قومية في مناطق الإمبراطورية الآفلة الناطقة باللغة التركية، وإلى تقاسم الولايات العربية في المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا.
ولا يمكن فهم إتفاقية سايكس-بيكو بما ترتب عليها، وباعتبارها القاعدة المؤسسة للتطورات اللاحقة، إلا من خلال معاينة ما تحدَّر من صُلبها من تصريحات ومؤتمرات ومعاهدات: وعد بلفور، مؤتمر سان ريمو، معاهدة سيفر، معاهدة لوزان، صكوك الإنتدابات من عصبة الأمم(6)، وغيرها..
في هذا الإطار، أضفى ميثاق/ عهد عصبة الأمم المتحدة (28/6/1919) شرعية قانونية دولية على الإحتلالين البريطاني والفرنسي للمشرق العربي من خلال المادة 22 (الفقرة 3)(7) بالتحديد، التي أرست أسس «نظام الإنتداب» في هذا الإقليم. وفي 25/4/1920، قام «مجلس مؤتمر السلام الأعلى» (أي مجلس الحلفاء الذين إنتصروا في الحرب) أثناء إنعقاد مؤتمر سان ريمو بتوزيع الإنتدابات على الولايات العربية (العثمانية سابقاً) بين فرنسا وبريطانيا، وهي التي كرستها – فيما بعد- صكوك الإنتداب الصادرة عن عصبة الأمم المتحدة، المعبرة عن الإرادة الدولية الرسمية في ذلك الوقت.
3- بعد التوقيع على إتفاقية سايكس – بيكو بصيغتها الأولى في 9/5/1916،كان لا بد من مفاتحة وإشراك روسيا بالأمر، فمشاريع التقاسم الإقليمي المطروحة كانت تشمل الإمبراطورية العثمانية بأسرها، ولم تكن تقتصر على ولاياتها العربية، ولروسيا نصيب في كل هذا، فهي الشريك الرئيسي في الحرب على السلطنة العثمانية، وهي الدولة الإمبريالية الطامحة إلى بسط سيطرتها على مضائق الدردنيل ( التي تتحكم بالطريق المائي بين البحرين الأسود والأبيض المتوسط، والبري بين أوروبا وآسيا)، كما أنها القوة العظمى الساعية إلى توطيد نفوذها (السياسي، الديني، الثقافي) في المنطقة، وبالذات في الأراضي المقدسة. غير أن ما تم التوصل إليه مع روسيا بشأن «حصتها» من التركة العثمانية، أضحى خارج البحث، بعد خروجها من الحرب التي إختتمت بإنتصار الحلفاء(8)..
وبهذا تكون دائرة البحث مع روسيا قد أغلقت، حيث كانت المفاوضات قد بدأت معها منذ مطلع العام 1915 من أجل تقسيم أراضي الدولة العثمانية، حينما طلبت روسيا أن يكون لها نفوذ في القسطنطينية (إسطنبول، أو الآستانة) والمضائق. لكن بريطانيا وفرنسا تخوفتا من تلك المطالب التي تعني إمتداد النفوذ الروسي إلى البحر الأبيض المتوسط، بما يُنذر بتهديد مصالح الدولتين في المنطقة.
أمام إصرار روسيا القيصرية على مطالبها كشرط لاستمرارها في الحرب تم التوصل إلى «إتفاق القسطنطينية» (3/1915)، الذي وافقت من خلاله بريطانيا وفرنسا على مطالب روسيا بشرط أن تكون القسطنطينية ميناءً حراً، وأن تضمن حرية الملاحة في المضائق للبواخر التجارية. وأما الأراضي التي صارت من نصيب روسيا بفضل هذا الإتفاق فقد شملت القسطنطينية وكل أراضي الدولة العثمانية في أوروبا (تراقيا) وأجزاء من آسيا الصغرى والجزر الواقعة في بحر مرمرة وبعض جزر بحر إيجة. وعليه، أصبح على بريطانيا وفرنسا أن تتقاسما باقي أملاك الدولة العثمانية فيما بينهما، ما أطلق المفاوضات الثنائية التي توجت – كما جرت الإشارة - بإتفاق سايكس – بيكو الأول(1916)■
(2)
فلسطين .. العقدة في منشار سايكس – بيكو
1- لم تحسم إتفاقية سايكس – بيكو مسألة التقاسم الإقليمي بين الإمبريالتيين، فالتسليم البريطاني بسوريا الطبيعية (أوالتاريخية) كمنطقة نفوذ فرنسي، لم يرفع الخلاف عن مشتملاتها وحدودها، وبالذات الجنوبية منها، حيث إعتبرت فرنسا أن جنوب سوريا – أي فلسطين- يجب أن يبقى ضمن ولايتها، بينما أصرت بريطانيا على المطالبة بها. وبالنتيجة رست صيغة الإتفاق على وضع فلسطين تحت إدارة دولية، مع بقاء كل من الطرفين على موقفه. بكلام آخر: بقيت المسألة مفتوحة بانتظار التوصل إلى حل.
إستمر هذا الخلاف على إمتداد سني الحرب، وكلما كان الوضع العسكري لبريطانيا يتقدم في مواجهة الجيش العثماني، كانت لندن ترسل إشارات، وتصدر عنها تصريحات تفيد بتنصلها من إتفاقية سايكس – بيكو، وذلك على لسان مصادر مسؤولة ليس أقلها مارك سايكس نفسه، أحد صاحبي الإتفاقية، الذي إعتبر أنها ليست أكثر من مشروع وضعه جورج بيكو، ولا يمكن للحكومة البريطانية قبوله دون إجراء تعديلات عميقة عليه. أما لويد جورج، رئيس الحكومة البريطانية، فقد مضى إلى أبعد من هذا عندما إعتبر أن بريطانيا أقدر على حماية الأراضي المقدسة من أي كان، وجزم أن موضوع «فلسطين الفرنسية» ليس وارداً أصلاً.
2– بقيت هذه المسألة موضع تجاذب بين لندن وباريس حتى عشية إفتتاح مؤتمر السلام في كانون الثاني (يناير) 1919 في باريس، عندما إنتزع لويد جورج من كليمنصو رئيس حكومة فرنسا قرار إنتقال فلسطين إلى منطقة النفوذ البريطاني؛ وعلى خلفية إكتشاف النفط فيها، جرى ضم الموصل – بعد سلخها عن سوريا – إلى بلاد الرافدين، حيث أقامت بريطانيا في الأخيرة حكماً مباشراً.
في كل هذا، لعبت الغلبة العسكرية البريطانية دوراً حاسماً في تغيير الموقف الفرنسي، فبعد أن إنطلق أللنبي على رأس الجيش البريطاني من قاعدته المتينة في مصر (المحتلة منذ عام 1882) كرَّت مسبحة إنتصاراته، فاحتل فلسطين من بوابة القدس (12/1917) وأعلن الحكم العسكري فيها ضد إرادة فرنسا المطالبة بإدارة مشتركة لفلسطين، وتابع أللنبي حملته، فدخل دمشق (10/1918) ونصَّب الأمير فيصل حاكماً على سوريا (دون لبنان وفلسطين). وكان الجيش البريطاني إحتل بغداد نهاية العام 1917، ودخل كركوك والموصل في صيف 1918؛ وفي المقابل لم يتجاوز الحضور العسكري الفرنسي بيروت ومعها جزء من الساحل اللبناني.
على إمتداد فترة إنعقاد مؤتمر السلام في النصف الأول من العام 1919، وعلى الرغم من إتفاق التقاسم الإقليمي بين كليمنصو ولويد جورج الآنف ذكره، لم تتوقف محاولات الأخير لوضع اليد على سوريا، ولم تهدأ مساعيه (ومناوراته) لإقناع الرئيس الأميركي ويلسون بمقاومة مطالبة فرنسا بسوريا. والمعروف أن هذه المحاولات لم تتوقف إلا في مطلع العام 1920، عندما كفَّت بريطانيا عن الوقوف في طريق فرنسا في سوريا، وخاصة بعد حلول مييران على رأس حكومة فرنسية يمينية ذات نزوع إستعماري واضح قررت إحتلال سوريا، وفعلت (صيف 1920)(9).
3- إنطلاقاً من هذه الوقائع التي حسمتها حقائق الميدان، باتت الطريق أخيراً ممهدة أمام باريس ولندن لتقاسم إقليمي واضح المعالم، أصبحت فيه فلسطين (وفي إمتدادها شرق الأردن) وبلاد الرافدين تحت السيطرة البريطانية، وسوريا ولبنان تحت السيطرة الفرنسية. أما الجزيرة العربية، فبقيت مستقلة، إنما في دائرة النفوذ البريطاني.
وهكذا رست إتفاقية سايكس – بيكو على صيغتها المعدَّلة بعد أكثر من سنتين ونصف السنة من إقرار صيغتها الأولى. ولكن هذا لم يعنِ أن الصراع لم يستمر بأشكال متعددة بين الأطراف المعنية على إمتداد العقود الثلاثة التي إستغرقها الإحتلال ومعه الإنتداب. لقد أتت إتفاقية سايكس – بيكو، كما رست عليها في العام 1922 (عام إصدار صكوك الإنتداب وغيرها من الإتفاقات) بتسويات قلقة، غير مستقرة، تخللتها عمليات تغيير حدود وضم مناطق (أي سلخ أراضٍ عن كيان، وإلحاقها بكيان آخر) ولَّدت عداوات؛ والأكثر خطورة، فقد زرعت إتفاقية سايكس – بيكو معطوفة على وعد بلفور دولة إسرائيل، كياناً غاصباً، ومشروعاً مفتوحاً على عدوان متمادٍ في قلب الإقليم. ومن هذه الزاوية، فقد كان لاتفاقيات سايكس – بيكو وفي إمتدادها وعد بلفور(لما تحدَّر منها، أو دار في فلكها من وعود وإتفاقات الخ..) التأثير العميق على مصائر المنطقة ومستقبل شعوبها، وبما أسسته، أيضاً، لصراعات متوالدة مازالت تداعياتها قائمة حتى يومنا■
(3)
وعد بلفور.. تقاطع الظرفي مع الإستراتيجي
1– إرتقى مؤتمر بازل التأسيسي عام 1897 بالدعوة الصهيونية إلى مستوى البرنامج السياسي الذي تحمله حركة منظمة تسعى لتحقيق أهدافها من خلال كسب تأييد دول فاعلة من جهة، وخلق أمر واقع إستيطاني على أرض فلسطين من جهة أخرى. وتؤكد الوقائع – حتى إندلاع الحرب العالمية الأولى وإلى أن وضعت أوزارها – أن مشروع إستيطان فلسطين بقيت نتائجه متواضعة، ليس بسبب ضعف إستجابة اليهود فحسب – وهذا عامل مهم بكل تأكيد -، إنما بالأساس، لأن المشروع الصهيوني لم يلقَ إستجابة من قبل الجهة التي تملك السيادة على الأرض، أي الدولة العثمانية.
أما بريطانيا، الأكثر إستجابة لهذا المشروع (سواء من زاوية طبيعة البيئة الثقافية وسط النخب المتقبلة للفكرة الصهيونية، أو من زاوية محصلة الأجواء السائدة في الوسط السياسي، كما والشركات الكولونيالية ورجال المال والأعمال..)؛ نقول بريطانيا على إفتراض أنها كانت عازمة – وهي لم تكن كذلك في تلك الفترة – لم يكن بوسعها تطويع أو إختراق القرار السيادي للدولة العثمانية التي، وإن لم تكن كلية القدرة، كانت تملك ما يكفي منها لصون إستقلال قرارها السياسي المنسجم ومصالحها كدولة.
2- بقيت هذه المعادلة صامدة، إلى أن بدأت بالإهتزاز مع إندلاع الحرب العالمية الأولى التي طرحت مصير الإمبراطورية العثمانية (كما والإمبراطورية النمسوية – الهنغارية) (11) على بساط البحث.
وعلى هذا، ترتب بالنسبة لفلسطين مايلي: مع تقدم الجيش البريطاني في أراضيها (2/1917)، إفتتحت المفاوضات الرسمية بين الحركة الصهيونية والحكومة البريطانية، تلتها مفاوضات أخرى مع الحكومتين الفرنسية والإيطالية، فتحت الموافقة رسمياً على المشروع الصهيوني في باريس وروما، كما في لندن. وأرجيء نشر هذه الموافقة حتى أواخر شهر 10/1917، عندما ظهر أن إنتصار الجنرال أللنبي في حملته بات أمراً محققاً. وفي 2/11/1917 نشرت الحكومة البريطانية بياناً بسياستها، عُرف بتصريح أو وعد بلفور. وكان هذا التصريح قد عُرض قبل نشره على الرئيس الأميركي ويلسون وحظي بموافقته. وفي 14/2/1918، أيدته الحكومة الفرنسية تأييداً علنياً، ثم تلتها الحكومة الإيطالية فأيدته بتاريخ 9/5/1918.
3- روّجت الحكومة البريطانية لوعد/ تصريح بلفور، كأمر «إقتضته موجبات الدعاية» لتحشيد الرأي العام اليهودي وإمكانياته خلف الحلفاء في ظرف حرج كانت تجتازه العمليات الحربية(12)، فقد أملت ظروف الحرب إصدار الوعد الذي أيدته فرنسا، إيطاليا والولايات المتحدة.
قد يضاف إلى هذا إعتبارات أخرى، من بينها: أن وعد بلفور يخدم حجة بريطانيا في خلافها مع فرنسا على فلسطين، التي أحالتها إتفاقية سايكس – بيكو الأولى إلى «إدارة دولية»؛
ومنها أيضاً: الدافع العقيدي في البلدان الأنجلو- سكسونية بالذات (الولايات المتحدة، بريطانيا ومعها دول الدومينيون: كندا، جنوب إفريقيا، أستراليا، نيوزيلندا)، حيث تعاطُف البروتستانتية بمرجعيتها التوراتية أيضاً، مع طموح (أو حنين) اليهود في الإلتحاق بـ «أرض الميعاد»..
هذه الإعتبارات وغيرها صحيحة في تبرير صدور وعد بلفور، ولكنها ليست كافية، فالإعتبار الظرفي المحكوم بمتطلبات الحرب والمدعوم بالموقف العقيدي المتعاطف مع الأهداف الصهيونية، يتجاهل أن إتفاقية سايكس – بيكو سبقت وعد بلفور بعام ونصف العام ورسمت حدود المكاسب الإمبريالية بين طرفيها. صحيح أنها كادت تفشل بسبب الخلاف على توزيع «الحصص»، لكنه كان خلافاً بمضمون إستراتيجي، فهو لم ينشب –مثلاً- على الموصل النفطية على أهميتها الإقتصادية، بل على فلسطين لأهميتها الإستراتيجية التي لا تضاهى في الإقليم، وبخاصة في حماية قناة السويس وخطوط المواصلات عموماً، معبراً آمناً إلى الهند، وما تمثله الهند في قلب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
4- ضمن هذه الأولوية الإستراتيجية تقاطعت بريطانيا مع المشروع الصهيوني، الذي إفترضت أنه باستيطانه وإرتباطه العضوي بالغرب، إنما يخدم مواقعها الإستراتيجية في فلسطين، في زمن كان الإستعمار الإستيطاني الحديث (أي الذي بوشر به في النصف الثاني من القرن التاسع عشر) قائماً في أكثر من مكان في العالم (الجزائر، روديسيا، جنوب غرب إفريقيا/ ناميبيا، جنوب إفريقيا..) لاعتبارات إقتصادية وسكانية، لكن أيضاً لاعتبارات متصلة بالمصالح الإستراتيجية.. ومن هذا المنظور تقاطع وعد بلفور مع المصالح الإستراتيجية في المنطقة وما يتجاوزها. وقد تبيّن مع مرور الزمن أن الرهان الإمبريالي كان في محله، فبعد أن حلّت الإمبريالية الأميركية، بعد الحرب العالمية الثانية، مكان الإمبريالية البريطانية، باتت إسرائيل هي القاعدة الإستراتيجية الأهم للولايات المتحدة في الإقليم وما يتجاوزه.
5- إن الإضاءة على الأهمية الإستراتيجية لفلسطين بالنسبة لبريطانيا في ذلك الحين، لا يعني أن المصالح الإقتصادية الكبرى، لم تكن لدى فرنسا وبريطانيا أيضاً هي الدافع الرئيسي لاحتلال الإقليم بواجهة الإنتداب، بل على العكس تماماً، كانت المصالح الإقتصادية لدى الإمبرياليتين أكبر من أن تُحجب في المنطقة.. كسوق إستهلاك، وطرق تجارة، وكمصدر للمواد الخام■
(4)
صك الإنتداب.. غلاف لوعد بلفور
1– إذ أسست الفقرة الثالثة من المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم (28/6/1919) لأنظمة الإنتداب على الولايات العربية التي تقرر فصلها عن السلطة العثمانية، فقد تفاوتت بشدة في التطبيق، حيث ميّزت معاهدة سيفر (10/8/1920) فيما يتعلق بصيغة الحكومات التي ستقام في هذه البلدان لاحقاً، بين سوريا والعراق من جهة، وفلسطين من جهة أخرى.
وبالفعل، فقد نصّت المادة 94 من معاهدة سيفر على الإعتراف بكل من سوريا والعراق «كدولة مستقلة بشرط أن تمد بالمشورة والمعونة الإدارية من قبل دولة منتدبة إلى أن تصبح قادرة على حكم ذاتها بذاتها وفقاً للفقرة 3 من المادة 22»؛ وفي المقابل نصّت المادة 95 من المعاهدة المذكورة على أن يعهد بإدارة فلسطين إلى دولة منتدبة «تكون مسئولة عن تنفيذ تصريح بلفور الذي أصدرته الحكومة البريطانية (..) وأقرته دول الحلفاء الأخرى فيما بعد».
2- إثر معاهدة سيفر، صدر عن مجلس عصبة الأمم إستناداً إلى المادة 22 من ميثاقها (لكن من دون ذكر لفقرتها الثالثة)، مشروع صك الإنتداب على فلسطين، الذي نصَّ على «أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن تنفيذ تصريح بلفور». وبما أن هذه الإشارة الصريحة إلى وعد بلفور (المدرج بكامل نصه) يتعارض مع الفقرة 3 من المادة 22 التي سرت على سوريا والعراق باعتبارها دول مستقلة، وإن مؤجلة الإستحقاق، فقد تم إسناد صك الإنتداب هذا إلى الفقرة 7 من المادة 22 التي «تنص على أن درجة السلطة أو السيطرة أو الإدارة التي تمارسها الدول المنتدبة، إذا لم يكن هناك إتفاق سابق بشأنها بين أعضاء عصبة الأمم، سيحددها بصراحة مجلس عصبة الأمم»؛ أي - بكلام آخر – دول الحلفاء الكبرى الموافقة أصلاً على تطبيق وعد بلفور.
3- إجتاز صك الإنتداب على فلسطين 3 محطات في عصبة الأمم: إعلان المشروع في 6/7/1921، والمصادقة عليه في 24/7/1922، ووضعه موضع التنفيذ في 29/9/1923. إن إنقضاء حوالي السنتين بين معاهدة سيفر والمصادقة على صك الإنتداب، يُعزى إلى طلب الولايات المتحدة، الدولة غير العضو في عصبة الأمم – وبسبب من إشتراكها في الحرب - أن يؤخذ رأيها حول شروط الإنتدابات. وهذا ما وقع، حيث عُرضت مشاريع الإنتدابات على مجلسي النوب والشيوخ (30/6/1922)(12) وحازت على موافقتهما، بما في ذلك الموافقة على «تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين»، ما جعل وعد بلفور يتمتع ليس بشرعية عصبة الأمم فحسب، إنما أيضاً بموافقة تلك الدولة العظمى التي أبقت نفسها خارج إطار المؤسسة الأممية الفاعلة في حينها.
بين إقراره من الحكومة البريطانية والمصادقة عليه من عصبة الأمم إستغرقت رحلة وعد بلفور خمس سنوات، لكن الشروع بتنفيذه لم ينتظر طويلاً، فقد باشرت بريطانيا، بعد أن أصبحت قوة محتلة، بتوفير شروط تطبيقه، ما أن تم التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة (ومن ضمنها المادة 22) في منتصف عام 1919، أي حتى قبل عام من إعلان بريطانيا رسمياً نهاية الحكم العسكري في 1/7/1920، وبداية الحكم المدني، الذي إفتتحه المندوب السامي هربرت صموئيل المعروف بالتزامه الصارم، العقيدي والوظيفي، بالمشروع الصهيوني، وكان هو أول عضو في الحكومة البريطانية إقترح إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين برعاية بريطانيا في العام 1914 عندما بدأت الحرب ضد الدولة العثمانية■
(5)
الإنتداب.. حاضنة المشروع الصهيوني
1– صك الإنتداب حوَّل وعد بلفور إلى إلتزام أممي. وكما تجاهل وعد بلفور الفلسطينيين، أصحاب البلد الأصلي، وأنكر وجودهم، فانحدر بالتعريف عنهم –بالإنكار- إلى مستوى «الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين»، أتى صك الإنتداب في إمتداد هذا الإنكار ليستخدم نفس الصيغة، وأحياناً ليلطفها دون تغيير مضمونها بصيغة «فئات الأهالي الأخرى»، لكنه أبداً لم يُشر إلى الفلسطينيين.
إستخدام صك الإنتداب الصيغة الصحيحة لفلسطين (التاريخية) عندما أسماها فلسطين، معترفاً بجغرافيا الكيان السياسي المتحوِّل – مبدئياً - إلى دولة مستقلة بمساعدة نظام الإنتداب. غير أن الإعتراف بهذا الكيان الصائر إلى دولة، لم يترتب عليه الإعتراف بشعبها وبحقه في تقرير مصيره على أرضه، بل بشعب آخر، غير موجود في فلسطين، عندما «إعترف بالصلة التاريخية التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين وبالأسباب التي تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي في تلك البلاد»؛ كما إعترف صك الإنتداب بوكالة يهودية معنية بجميع القضايا المتعلقة بإنشاء«الوطن القومي اليهودي، ومصالح السكان اليهود في فلسطين».
2- لم يلتزم صك الإنتداب الصادر عن عصبة الأمم بمبدأ حق تقرير المصير، كما ورد في النقاط الـ 14 الشهيرة للرئيس الأميركي ويلسون، وهو المبدأ الذي كان في أساس قيام عصبة الأمم، لا بل أعادنا صك الإنتداب في واقع الأمر إلى القاعدة الإمبريالية إياها، التي تعتبر أن حق التصرف بالبلاد المحتلة لا يعود لسكانها المحرومين من حق تقرير المصير، بل لمحتليها الذين وحدهم يقررون لمن يعود هذا الحق. وفي الحالة الموصوفة تكون بريطانيا، الدولة القائمة بالإحتلال، قد إعترفت ومن ثم فرضت حق تقرير المصير لمن لم يتشكل بعد كشعب، فضلاً عن كونه ليس من سكان البلاد أصلاً، فكان لا بد من توفير شروط إستقدامه وتوطينه في فلسطين من خلال ممارسة أقصى درجات الضغط (coercion)، لا بل العنف (violence) بأشكاله على سكان البلاد الأصليين (13).
وعليه، يكون صك الإنتداب – في إمتداد وعد بلفور، بالتوافق معه وتفصيلاً لفحواه - قد إعترف، لا بل إلتزم أمام الحركة الصهيونية بالأركان الثلاثة التي تقوم عليها الدولة بمفهومها الحديث: الأرض (فلسطين)، الشعب (اليهودي)، الحكومة (ونواتها الوكالة اليهودية)، بينما حجب هذا الحق عن شعب فلسطين، من بوابة إنكار وجوده كشعب – إبتداءً – وبحقه في تقرير المصير – إستتباعاً .
بهذا، يكون صك الإنتداب بالنظام الذي أقامه، قد خلق مشكلة دستورية كبرى للفلسطينيين، باعتباره لم يأتِ صراحة على ذكرهم، لا بالتسمية ولا بالتصنيف كشعب، ولا بذكر حقوقهم، ذلك أن بنية نظام الإنتداب قد صممت لمنع الشعب الفلسطيني بالتحديد من إكتساب حقه بتقرير المصير. ومن هنا تمسك الحكومات البريطانية المتتالية – ومعها الحركة الصهيونية – بالرفض المبدئي لقيام حكومة تمثيلية حقيقية في فلسطين، وبرفض أية تعديلات دستورية تجعل ذلك ممكناً، ما شكَّل عائقاً حقيقياً أمام الفلسطينيين، عجزوا عن تجاوزه طيلة فترة الإنتداب■
(6)
في العلاقة مع الإحتلال والمحيط وأشكال النضال
في البدء كان سايكس – بيكو، تلاه وعد بلفور ومعه الإحتلال بمحطاته الثلاث: الحكم العسكري، فالمدني، ومن ثم الإنتداب، وفي كل المحطات بوظيفة خلق الشروط المؤاتية لتنفيذ إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
لقد كانت المهمة الرئيسية للإنتداب البريطاني والمندوبين الساميين الذي تعاقبوا على رأس حكومة فلسطين الإنتدابية توفير الشروط السياسية والسكانية والإقتصادية والعسكرية من أجل تعزيز كيانية المستوطنين اليهود، وتعظيم كتلتهم السكانية، وتسهيل إقامة البنى التحتية للدولة الصهيونية قيد التأسيس؛ وفي المقابل إنصب جهد الإحتلال على تقويض أي مسمى لإقامة كيانية وطنية فلسطينية ببنية مؤسسية ذات صلة بمشروع إقامة سلطة فلسطينية.
ثلاثة عقود إستغرقها هذا المسار (1918 – 1948)، فكيف تعاطت معه، في غالبية الأحيان، القيادة المتنفذة للحركة الوطنية الفلسطينية، المتحدرة – بمعظمها – من وجهاء المدن وكبار التجار وملاك الأراضي؟
1– في تعيين التناقض الرئيسي؛ هل هو مع الصهيونية؟ أم مع الإحتلال بمسمى الإنتداب؟ أم مع الإثنين معاً؟ وفي كل هذا تشير الوقائع إلى مايلي:
إنطلقت القيادة المتنفذة للحركة الوطنية بأن العدو هو الصهيونية وحدها، وساورها وهم إقناع بريطانيا بوقف الدعم للمشروع الصهيوني، وبإلغاء وعد بلفور من خلال عرض المزايا التي يمكن أن تتوفر لبريطانيا من خلال تعاون العرب معها، بدل الحركة الصهيونية.
لقد تأخر الوعي لأهداف السياسة البريطانية وصلتها الوثيقة بالصهيونية، بسبب الجهل بطبيعة الصهيونية وطبيعة الإمبريالية البريطانية والآصرة العميقة بينهما. وفي هذا أغفلت قيادة الحركة الوطنية أن الإحتلال البريطاني المتدثر بثوب الإنتداب هو العدو الأول الذي أدخل الصهيونية إلى البلاد. ولم تدرك أن النكبة التي حلَّت بشعب فلسطين قد بدأ العد العكسي لوقوعها مع اليوم الأول للإنتداب؛ وهي – بالنتيجة- ثمرة التحالف الوطيد بين الصهيونية والإمبريالية البريطانية و – بدرجات متفاوتة - تواطؤ الإمبرياليات الأخرى.
2- في مواجهة بريطانيا والمخطط الصهيوني عموماً؛ في إمتداد ما سبق نشير إلى مايلي: كانت هناك على رأس الحركة الوطنية قيادة تقليدية، ضعيفة.. لا تتمتع بالفعالية التي تقتضيها طبيعة المعركة، قيادة لم تفهم تماماً ولم تكن أصلاً بمستوى التحدي الإستراتيجي الذي يواجه شعبها، قيادة لم تستوعب ميزان القوى الحقيقي المتحكم في الميدان، ولا طبيعة العلاقة بالضبط بين القوة العظمى المسيطرة في كل مرحلة، وبين حلفائها في الحركة الصهيونية. وفي معظم الأحيان كانت هذه القيادة تسعى إلى عقد التحالفات الخارجية الخاطئة، إن لم تكن المدمرة في بعض الحالات. وبالنتيجة وقفت القيادة الفلسطينية في هذا الصراع الطاحن عاجزة، وبلا تحالفات تذكر.
3- في العلاقة مع المحيط المباشر؛ لم تقدِّر القيادة الفلسطينية بشكل صحيح درجة إهتمام البلدان العربية والمسلمة بالقضية الفلسطينية، وما يمكن أن تقدمه من دعم وإسناد سواء على مستوى الحكومات أو الشارع، كما أنها لم تستوعب تماماً في العلاقة مع الحكام العرب مدى تأثير العوامل المصلحية لديهم من موقع علاقتهم (التابعة في أحيان كثيرة) ببريطانيا خاصة، أو فرنسا، ما كان يؤدي إلى التأثير السلبي على القرار الوطني (ثورة 1936)، وصولاً إلى مصادرته (خاصة بعد إنتهاء ثورة الـ 36)، على طريق إلغاء التمثيل الفلسطيني المستقل (عملياً بدءاً من العام 1943).
4- في العلاقة مع أشكال النضال؛ أحجمت (أو تهيّبت في أفضل الحالات) قيادة الحركة الوطنية بأحوالها الطبقية آنفة الذكر، أحجمت عن اللجوء لاستخدام، أو لاعتماد أشكال النضال الصدامية في مواجهة الإحتلال البريطاني، ونأت بنفسها عن أشكاله العنفية بالذات، ما ترك هذا الخيار لحركة النضال في الميدان (ثورة 1936 والمحطات التي سبقتها) لقطاعات مؤثرة في المجتمع الفلسطيني سواء في الريف (الفلاحين) أو المدن (الطبقة العاملة، وفئات معيّنة من البورجوازية الصغيرة)، قدَّمت قيادتها المتحدرة بمعظمها من أصول كادحة (فلاحية بمعظمها، وعمالية بحدود معيّنة)، ما أدى إلى إنقطاع في سلسلة القيادة بين المستوى القاعدي والوسيط من جهة، والمستوى الأول المتآكل القدرة باضطراد على الإضطلاع بدوره القيادي المفترض، من جهة أخرى■
(7)
في إقامة السلطة الوطنية
1 – إن من أهم مظاهر فشل الحركة الوطنية الفلسطينية يعود إلى عدم إيلائها الإهتمام بالقدر المطلوب لمسألة بناء السلطة السياسية (الوطنية) على خلفية عدم إدراك كافٍ لأهميتها، وغياب طويل لأي تصور لما يمكن أن تلعبه هذه السلطة من دور. وفي هذا المجال بالتحديد، بدت الحركة الوطنية مشتتة بين رغبتها في جعل فلسطين جزءاً من وحدة سياسية أكبر (سوريا الكبرى، الخ..)، وبين هدف فلسطين مستقلة بحدودها الإنتدابية. وهذا ما رسا عليه خيار التيار الرئيسي في الحركة الوطنية، رغم إندفاع بعض الأوساط في قيادة الحركة، كان تأثيرها في القرار الفوقي أكبر مما تجيزه صفتها التمثيلية، لمساومة الإمبريالية البريطانية على إنتداب بغير وعد بلفور(!)، أو حتى حكم ذاتي فلسطيني تُصان فيه مصالح بريطانيا(!).
وبالنتيجة، فإن المشكلة الجوهرية التي واجهت الفلسطينيين على إمتداد عقود الإنتداب، تتحدد بفشلهم في إقامة بنى وطنية للإمساك أو للمشاركة بالسلطة السياسية الرسمية في دولة الإنتداب، أو – في حال تعذر الخيارات الأخرى – إنشاء بنى بديلة، أي بنى سياسية – إدارية، تقود البلد على طريق الإستقلال.
2- مما لا شك فيه أن قسماً مهماً من هذا الفشل يعود إلى الإنتداب البريطاني، الطرف الأقوى في المعادلة، فمنذ البداية سعت حكومة الإنتداب إلى صرف أنظار الحركة الوطنية عن توفير مدخل على السلطة الحقيقة في الدولة قيد الإنشاء، وعن مواجهة منع الإنتداب بشكل حاسم تشكيل المؤسسات التمثيلية الفلسطينية، وبالذات فيما خص الحكومة التمثيلية.
وتحقيقاً لهذا الغرض، رعت حكومة الإنتداب إنشاء وتطوير مؤسسات إسلامية لم تكن قائمة فيما مضى من أجل إلهاء الحركة الوطنية عن توحيد جهودها وتشتيت تركيزها على الأهداف الوطنية المناهضة للإستعمار، بما في ذلك صرف أنظار الحركة الفلسطينية عن التغلغل في حكومة الإنتداب.
3- في هذا الإطار، إستحدث الإنتداب بنى في الإدارة الدينية لم تكن موجودة فيما سبق، على غرار: «المجلس الإسلامي الأعلى»، أو منصب «مفتي فلسطين الأكبر»، الذي سمي أيضاً «مفتي القدس والديار الفلسطينية» بدلاً من الصيغة التقليدية المعتمدة:«مفتي الديار المقدسية».
جميع هذه البنى كانت إختراعات بريطانية، رمت إلى تجنيد نخب فلسطينية إنطلاقاً من منح مؤسسات الإدارة الدينية سيطرة تامة على الإيرادات العامة الواسعة للأوقاف العامة وسلطات واسعة على الناس ومصالحهم. وكان ذلك أحد جوانب سياسة أشمل لتجنيد تلك النخبة، وإعطائها كل مظاهر ومكاسب السلطة دون أي مضمون (وبما يجعل المقارنة مع سلطة الحكم الإداري الذاتي حالياً، تفرض نفسها في هذا السياق).
إن خلق منافسة حادة بين النخب القيّمة على مؤسسات الإدارة الدينية المستحدثة، والنخب التي تُستبقى خارجها، يؤدي إلى تأجيج نار الصراعات فيما بينها، خاصة عندما يتم إسترضائها بمناصب أخرى على غرار رئاسة بلدية القدس التي خصصت لعائلة النشاشيبي، مقابل تخصيص رئاسة «المجلس الإسلامي الأعلى» لعائلة الحسيني■
(8)
وعد بلفور.. أسقط فلسطين من «نظام الإنتداب»
1– حوّلت أنظمة الإنتداب المشرق العربي من كيانات إدارية توحدها سياسياً وسيادياً الإمبراطورية العثمانية متعددة الأقوام، إلى دولة تحت الإحتلال بمسمى الإنتداب، تفصلها حدود دولية عن بعضها البعض. لقد شقّت هذه الدول، بنضال شعوبها، طريقها نحو الإستقلال، وأزاحت الإنتداب عن كاهلها، لكنها مازالت تخوض معركة الدفاع عن الدولة الوطنية، إن لم يكن إعادة بنائها في بعض الحالات.
إن هذا المسار بمحطاته الثلاث: إحتلال/ إنتداب، فاستقلال، ومن ثم بناء (أو إستكمال بناء) الدولة الوطنية، هو مسار مشترك ينطبق على عديد الدول العربية، وليس على دول مشرقنا العربي فحسب. ولا تغيّر التطورات التي نشهدها منذ العام 2011 شيئاً من حقيقة أن مهمة بناء، أو إعادة بناء الدولة الوطنية، هي المهمة المركزية المطروحة على جدول أعمال جميع القوى الحيّة في المجتمع، سوى أن هذه المهمة باتت متداخلة، أكثر من ذي قبل، بمهمة التحرر الوطني.
2- وحدها فلسطين خرجت عن هذا المسار، فلم ينطبق عليها نموذج الإنتداب، أي نموذج الشعوب التي لم تنضج ظروفها بعد لنيل الإستقلال، ما يستدعي وضعها تحت رعاية وحكم دول أكثر تطوراً(!)، تأخذ بيدها، وتعدّها تدريجياً للإستقلال من أجل نقل الحكم إليها في نهاية الأمر(!!).
ومع إدراكنا أن ما يدعيه أو يفترضه هذا النموذج غير صحيح، ولا يتعدى كونه تحايلاً على مبدأ حق تقرير المصير، الذي رفعت رايته عالياً ثورة أكتوبر المجيدة بقيادة لينين، والنقاط الـ 14 للرئيس الأميركي ويلسون التي أمطر بها مؤتمر باريس للسلام (لكنه أغفل المطالبة بتطبيقها على الدول العربية وفلسطين)، والذي تحوَّل إلى مبدأ تأسيسي لعصبة الأمم المتحدة؛
نقول، مع إدراكنا أن ما يرمي إليه هذا النموذج ليس أكثر من مناورة مكشوفة لإعادة الإحتلال من البوابة التي أخرجه منها مبدأ حق تقرير المصير، الذي ضلَّ سبيله عن فلسطين، فاستثناها بوعد بلفور من نظام الإنتداب الذي يقود، وإن عن طريق الآلام، إلى الإستقلال؛ إن وعد بلفور، رغم صك الإنتداب على فلسطين، أحالها من الإنتداب بأفق الإستقلال، إلى مشروع آخر، إستعماري إستئصالي بالجوهر، يقتلع الشعب الفلسطيني من بلاده، ويحرمه من كيانه، ويقطع «العلاقة العضوية، التي لا إنفصام فيها ولا إنقطاع بين الشعب والأرض والتاريخ».
وبالمحصلة، فقد أتى وعد بلفور ليخرج فلسطين من «نظام الإنتداب»، أي من نسق الدول التي كان من المقدَّر لها، طال الزمن أم قصر، أن ترتاد أفق الحرية والإستقلال، ووضعها في خانة الإستعمار الإستيطاني بأبشع أشكاله■
(9)
وعد بلفور.. خطر ماثل أمام شعوب المنطقة
لموقعيته، بحكم الدور الذي إضطلع به، ومرجعيته في القرارات الدولية التي أسست لإسرائيل، تحوَّل وعد بلفور بعد إنقضاء مئة عام على ولادته إلى ركن أساسي في العقيدة الصهيونية، وفي السياسة اليومية المشتقة في التعاطي مع الفلسطينيين والعرب وعموم شعوب المنطقة.
إن ما تعرضت له الأراضي العربية بعد النكبة، يشير إلى أن إسرائيل تضع هذه الأراضي في مهداف سياستها العدوانية التوسعية الخ..؛ وهذا ما تؤكده – على أية حال – وقائع الإحتلال في الضفة الفلسطينية، والقدس، والجولان، والشريط الجنوبي في لبنان، ما يعني أن فلسطين ليست وحدها في مرحلة تحرر وطني، بل أيضاً – وبحدود معيّنة - عدد من الدول العربية، على إختلاف ظروفها.
وإذا ما أضفنا إلى العدوانية الإسرائيلية الموصوفة، العدوانية الأميركية المتجددة في عهد الإدارة الجديدة، وسعيها الدائب لتوسيع دائرة حضورها العسكري في المنطقة في إطار سياسة تدخلية لم تعد تخفي مراميها.. نصل إلى نتيجة مفادها، أن الدفاع عن الدولة الوطنية التي تقوّضت، أو بالحد الأدنى إهتزت مرتكزاتها في السنوات الأخيرة، بات يقترن بشكل وثيق بالنضال الوطني التحرري، ما يستدعي بدوره التأكيد على ضرورة العمل المشترك بين مختلف المكونات السياسية في المنطقة، رسمية كانت أم شعبية. ولعل هذا من أهم ما يمكن الدعوة إليه في الذكرى المئوية لوعد بلفور المشؤوم■
- إنتهى -
ملاحق
(1) نشأت هذه الكيانات بدمج عدد من الوحدات الإدارية العثمانية السابقة فيما بينها:
■ العراق، بدمج 3 ولايات، هي: البصرة، بغداد، والموصل.
■ فلسطين، بدمج 3 سناجق ، هي: عكا، نابلس، والقدس.
■ شرق الأردن، بدمج القسم الجنوبي من سنجق حوران وسنجق معان، معاً.
■ سوريا، رست بالنتيجة على توحيد أجزاء من ولاية الشام مع أجزاء من ولاية بيروت.
■ لبنان، إلى متصرفية جبل لبنان، تم ضم أربعة أقضية(حاصبيا، راشيا، بعلبك، عكار) من ولاية الشام، وأجزاء من ولاية بيروت، وبما شمل أيضاً مدن الساحل: طرابلس، صيدا، وصور.
(2)+(3) في هذا الإطار نذكر مايلي:
■ سلَّمت فرنسا أجزاء كبيرة من ولاية حلب ومنحتها لتركيا، ما جعل الحدود التركية تقترب إلى مسافة لا تزيد عن 50 كيلومتراً من مدينة حلب.
■ تخلّت فرنسا لتركيا عام 1939 عن لواء الإسكندرون – أنطاكية لضمان حيادها في الحرب العالمية الثانية.
■ بموجب إتفاقية سايكس – بيكو المعدلة أُخرجت الموصل، لاعتبار الثروة النفطية المكتشفة، من سوريا، وجرى ضمَّها إلى العراق، وبالتالي نُقلت من الإنتداب الفرنسي إلى الإنتداب البريطاني.
■ عام 1922 فرضت بريطانيا إتفاقيات حدودية على إبن سعود، أُقيمت بموجبها الحدود بين المملكة العربية السعودية والعراق والكويت.
■ تكرّست الحدود بين سوريا ولبنان عام 1936 في سياق المفاوضات مع فرنسا حول إستقلال سوريا. وقد سبق ذلك في العام 1923 ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا من جهة، وشمال فلسطين من جهة أخرى بناء على أعمال اللجنة البريطانية – الفرنسية، لجنة نيوكومب – بولية (Newcombe - Paulet)، التي إحتلت فيها مسألة منابع نهري الأردن واليرموك موقعاً بالغ الأهمية، فبقيت هذه المنابع في منطقة الإنتداب الفرنسي في سوريا ولبنان، بما فيها هضبة الجولان، في مقابل أن يبقى مجرى نهر الأردن وبحيرتا الحولة وطبريا ضمن منطقة الإنتداب البريطاني في فلسطين.
ملاحظة: في أوائل 1921 كتب حاييم وايزمن إلى وزير المستعمرات تشرشل أن الإتفاق مع فرنسا «حرم فلسطين من الوصول إلى الليطاني، وحرمها إمتلاك أعالي نهر الأردن ونهر اليرموك وسلبها السهول الخصبة شرقي بحيرة طبريا، هذه السهول التي كانت تعتبر حتى الآن أحد أهم الأماكن الواعدة لاستيطان يهودي واسع النطاق..».
■ في آذار (مارس) 1921 أعلن تشرشل وزير المستعمرات البريطاني في مؤتمر القاهرة عن منح شرق الأردن إلى الأمير عبدالله. وعليه، رسَّم الإنتداب البريطاني الحدود بين شرق الأردن وفلسطين على إمتداد نهر الأردن، فالبحر الميت، وصولاً إلى العقبة، فنشأت إمارة شرق الأردن بمساحة 91 الف كم2 تحت الحماية البريطانية. وفي أيلول (سبتمبر) 1922 نشر المندوب السامي هيربرت صموئيل مرسوم الحدود الذي قضى بإخراج شرق الأردن من إنطباق تصريح بلفور عليه.
■ في ضوء ما سبق تم ترسيم حدود فلسطين الإنتداب (أو فلسطين التاريخية) شمالاً مع لبنان وسوريا، وشرقاً مع شرق الأردن، أما الحدود الجنوبية فكانت قد حددت بموجب إتفاقية تعيين الحدود لعام 1906 بين تركيا العثمانية ومصر الخديوية وبحضور بريطانيا الدولة المحتلة لمصر منذ العام 1882. وبالنتيجة رست مساحة فلسطين ضمن الحدود المذكورة على 27.027 كم2.
■ لعله من المفيد في هذا السياق التذكير بأن الخارطة التي قدمتها الحركة الصهيونية إلى مؤتمر فرساي في شباط (فبراير) 1919، بلغت مساحتها 45.000 كم2، وضمت أجزاء في لبنان ، سوريا، الأردن، ومصر.
■ ملاحظة: تقلصت حدود سوريا الطبيعية الموزعة على ولايات ومناطق الخ.. من حوالي 300.000 كم2 في المرحلة العثمانية إلى 185.190 كم2 هي مساحة سوريا الحالية.
(4) بكثير من التحايل، وبذهنية إستعمارية إستعلائية بخلفية عنصرية، كانت المحافل الأوروبية تطلق على الإمبراطورية العثمانية تسمية «الرجل المريض»، التي تؤجل الإمبرياليات الأوروبية إستحقاق وفاته، لأنها لم تتفق بعد فيما بينها على توزيع تركته. غير أن هذه المحافل نفسها، كانت تحجم – في الوقت نفسه - عن إستخدام مصطلحات التصنيف الإستعلائي السلبي، حيال الإمبراطورية النمسوية – الهنغارية التي كانت تشكو من معضلات بنيوية بالغة الخطورة، كونها دولة متعددة الأقوام في مرحلة نهوض الحركات القومية في أوروبا وتعميم نموذج «الدولة - الأمة». وما لبثت هذه المعضلات أن أنفجرت مع إنتهاء الحرب، التي إنتهت معها أيضاً هذه الإمبراطورية، التي إنقسمت إلى دولتي النمسا وهنغاريا، وتوزعت بقاياها على عدة بلدان تبعاً لمكوناتها القومية.
(5) ■ عشية إندلاع الحرب العالمية الأولى، كانت السلطنة العثمانية قد فقدت – عملياً – ممتلكاتها الأوروبية، ومنها ولايتي البوسنة والهرسك اللتان ضمتهما إمبراطورية النمسا – هنغاريا إليها في عام 1908؛ وخلال حرب البلقان الأولى (1912 – 1913) أنزلت الرابطة البلقانية (بلغاريا، اليونان، الجبل الأسود، والصرب) هزيمة بتركيا وضمت إليها - عملياً - ما تبقى للإمبراطورية العثمانية من مناطق في أوروبا، باستثناء: تراقيا الشرقية، وبعض الجزر في بحر إيجة الفاصل بين تركيا واليونان. وعليه دخلت تركيا الحرب، وهي تضم تركيا الناطقة باللغة التركية (أي تركيا الحالية) والولايات العربية المشرقية (سوريا الطبيعية + بلاد الرافدين).
■ إستمدت مسألة «البت بمصير الدولة العثمانية»، أهميتها في المحافل الأوروبية من إعتبارات عدة، لعل من أهمها ما يتصل بدعم الحركة الإستقلالية القومية في أوروبا العثمانية، ومنها ما له علاقة بمطامع الضواري الإمبريالية، الخ.. غير أنه، مع إنكفاء الإمبراطورية العثمانية إلى حدودها الآسيوية، تقدم لاعبان رئيسيان في ساحة الصراع على مناطق النفوذ في آسيا، ومن ضمنها على أراضي تركيا العثمانية: روسيا القيصرية النازعة للتوسع في آسيا جنوباً على محوري البحر الأسود من جهة، وأفغانستان(آسيا الوسطى) من جهة أخرى؛ وبريطانيا الساعية إلى تأمين طرق مواصلاتها إلى الهند (جوهرة التاج البريطاني). وقد أطلقت تسمية «اللعبة الكبرى» على هذا الصراع الذي دار في القرن التاسع عشر.
ويمكن القول أن بريطانيا حتى إندلاع الحرب العالمية الأولى لم تكن راغبة في السيطرة على المنطقة التي تشغلها الدولة العثمانية، بل كان همها أن تحول دون سيطرة دولة أوروبية أخرى عليها، وبالذات روسيا القيصرية. لكن الأمر إختلف تماماً بالنسبة لبريطانيا، بعد أن هزمت تركيا في الحرب، حيث وضعت نصب الأعين هدف توسيع دائرة نفوذها من خلال مد سيطرتها المباشرة على أقصى ما يمكن من المناطق المتاحة في الإقليم، الأمر الذي نجحت في تحقيقه.
(6) ■ وعد بلفور (Balfour Declaration) – 2/11/1917، أعلن أن الحكومة البريطانية «ستبذل جهودها لتسهيل (...) تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين».
■ بدأت الأعمال التمهيدية الرسمية لمؤتمر الصلح في باريس في كانون الثاني (يناير) 1919، وكانت تنتقل إلى أماكن أخرى بين وقت وآخر. وكان موضوع البحث هو تعيين الشروط التي ينبغي فرضها على الدول التي خسرت الحرب، أي الإمبراطوريات الألمانية، والنمسوية – الهنغارية، والعثمانية، وبلغاريا حليفة هذه الإمبراطوريات.
أما القرارات المتعلقة بالإمبراطورية العثمانية، فقد إتفق على الجانب الأكبر منها في المؤتمر الأول الذي إنعقد في لندن بدءاً من شباط (فبراير) 1920، وتم تثبيتها في مؤتمر سان ريمو (San Remo) في 25 نيسان (إبريل) 1920، وإتخذت شكل معاهدة تم التوقيع عليها في سيفر(Sevres) في 10 آب(أغسطس) 1920.
■ نجح مؤتمر سان ريمو في تقرير مستقبل آسيا الناطقة باللغة العربية، إذ قسمها إلى كيانات عدة وضعت تحت الإنتدابين البريطاني والفرنسي. غير أن الحلفاءهم لم ينجحوا من خلال معاهدة سيفر (التي وقعت مع ممثلي السلطان التركي الذي كان في حكم الأسير فعلياً)، في تقرير مصير آسيا الناطقة بالتركية، بسبب رفض الحركة القومية التركية بقيادة مصطفى كمال (مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك) مشروع التقسيم الذي كانت الدول الإمبريالية، وبموجب معاهدة سيفر، بصدد تطبيقه على تركيا الناطقة باللغة التركية.
■ في معاهدة سيفر قُسِّمت تركيا (الناطقة بالتركية) على النحو التالي: معظم جزر بحر إيجة وكذلك تركيا الأوروبية (شرق تراقيا) سُلخت عنها وأعطيت لليونان. أما إزمير ومنطقة غرب الأناضول فقد تقرر أن تتولى اليونان إدارتها لمدة 5 سنوات، ثم يجري إستفتاء قد يؤدي إلى دمج المنطقة في المملكة اليونانية. وأما الدردانيل فقد وضع تحت إشراف دولي، وأصبح المضيق وإسطنبول رهينتين لضمان حسن سلوك تركيا. وفي شرق الأناضول مُنحت أرمينيا الإستقلال، وأعطيت كردستان - تركيا الحكم الذاتي. ووضعت الشؤون المالية التركية تحت إشراف بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
ضمن هذه الحدود، وتبعاً لهذه القيود، يكون القليل الذي تبقى من الأناضول الناطقة بالتركية مستقلاً إستقلالاً إسمياً وعلى رأسه السلطان العثماني.
■ رفضت الحركة الإستقلالية التركية هذه الشروط، وخاضت حرب تحرر وطني ضد التدخل الأجنبي متعدد الأطراف، وإنتصرت في الميدان. وفي هذا السياق خلعت السلطان العثماني وأقامت دولة قومية تركية إستعادت إلى حدود بعيدة نتيجة الهدنة التي كانت توصلت اليها مع الحلفاء في خريف 1922، أعقبتها معاهدة الصلح في لوزان (Lausanne)- 1923 التي أنتجت تركيا بحدودها المعروفة، باستثناء حدودها الجنوبية مع سوريا التي خضعت لترتيبات أخرى مع الإنتداب الفرنسي، سلخت عن سوريا لواء الإسكندرون – أنطاكية، إضافة إلى ما سبق من مناطق شمالية واسعة.
(7) «3- إن بعض الشعوب التي كانت خاضعة للإمبراطورية التركية قد وصلت إلى درجة من التقدم يمكن معها الإعتراف مؤقتاً بكيانها كأمم مستقلة خاضعة لقبول الإرشاد الإداري والمساعدة من قبل الدول المنتدبة حتى ذلك الوقت الذي تصبح فيه هذه الشعوب قادرة على النهوض وحدها ويجب أن يكون لرغبات هذه الشعوب المقام الأول في إختيار الدول المنتدبة».
(8) إن هذا لا يعني أن روسيا قد خرجت تماماً من دائرة لعب دور في الإقليم في تلك الفترة (إن كان في تركيا، أو إيران، أو أفغانستان، أو المشرق العربي)، بل هي – في واقع الحال - وما أن أغلقت ملف الحرب الأهلية والعدوان الخارجي الذي تعرضت له بعد إنتصار ثورة أكتوبر – عادت لتضطلع بدورها وتمارس نفوذها بأشكال مختلفة (تشجيع الحركة القومية في إيران، مساندة الحركة القومية التركية، تقديم العون للثورة في العراق..) مع مطلع عشرينيات القرن العشرين.
لكن هذا الدور أتى تحت عنوان آخر، أي نظام سياسي آخر، هو الإتحاد السوفياتي، حيث مورست سياسة نشطة في المنطقة، تداخلت فيها عوامل الأممية البروليتارية بداية، مع إعتبارات وحسابات ومصالح الدولة العظمى فيما بعد (بعد أن إنحسرت إحتمالات إندلاع الثورات الإجتماعية في عدد من البلدان الأوروبية)، أي ما يسمى بـ «الريال بوليتيك»Real Politik . غير أن كل هذا ينتمي الخوض فيه إلى إطار آخر، يفيض عن موضوع هذه الدراسة.
(9) ■ إن تسليم بريطانيا بحصة فرنسا في سوريا لم يضع حداً لطموحات فرنسا في فلسطين، فقد شرعت الحكومة الفرنسية في نفس الوقت الذي أصدرت فيه الأمر بغزو سوريا وإحتلالها (منتصف عام 1920)، بحملة دبلوماسية ودعائية، هدفها الحيلولة دون تحويل فلسطين المجاورة إلى دولة صهيونية. وبما أن بريطانيا كانت ترعى الصهيونية في فلسطين، فقد إتخذت الحملة صيغة العداء لبريطانيا.
■ والمعروف أن فرنسا في شباط (فبراير) 1918 رضخت للأمر الواقع وأيدت وعد بلفور بعد أن كانت القوات البريطانية قد سيطرت عملياً على كامل فلسطين. لكن هذا لم يلغِ حقيقة أن الحكومة الفرنسية (خاصة بعد أن ترأسها مييران)، ومن زاوية معيّنة، كانت أشد معارضة لفلسطين اليهودية من معارضتها لفلسطين بريطانية، فقد خشيت أن تتعرض مصالح فرنسا التجارية والدينية في الأراضي المقدسة للخطر على يد الصهيونية التي ترعاها بريطانيا.
■ في هذا السياق، نشير إلى أن المؤسسة الكاثوليكية، في فرنسا بالذات، كانت تصوِّر مشروع «الوطن القومي اليهودي» بأنه مجرد وسيلة يستخدمها الإنجليز لتقويض موقف فرنسا.
■ وبالمقابل، فإن ما كانت تخشاه بعض الأوساط الإستعمارية في بريطانيا، أن تشن فرنسا حملة دعاية وتحشيد لقيام سوريا كبرى تضم إلى جانب سوريا ولبنان، شرق الأردن وفلسطين، على أساس برنامج معادٍ للصهيونية. وكانت هذه الأوساط تضع الفرضية التالية: قد تقطع فرنسا وعداً للعرب بأن تضع حداً للمشروع الصهيوني، إذا سُمح لها بأن تنتزع فلسطين (ومن ضمنها شرق الأردن) من بريطانيا.
(10) لم تكن الدولة العثمانية واطئة الجدار، إلى الحد الذي كانت تروج له المحافل الأوروبية، أو أوساطها الإمبريالية بأقله، تحت شعار «الرجل المريض». وفي هذا الإطار من المفيد التذكير أن الأداء العسكري العثماني أثناء الحرب العالمية الأولى (الذي كان أداءً تركياً – عربياً بحكم تكوين التشكيلات العسكرية) تميّز على نحو ملحوظ في عدد من المعارك الكبرى (التي دحرت الأسطورة العرقية عن الجيش الأوروبي المتفوق الذي يهزم جيشاً آسيوياً متخلفاً)، نذكر منها معركتي غاليبولي وكوت العمارة:
■ إستغرقت معركة غاليبولي (Galipoli) 259 يوماً، من 25/4/1915 وحتى مطلع 1916، إنسحب الحلفاء (بريطانيا وفرنسا) على إثرها مهزومين من مواقعهم الأخيرة على شواطيء مضائق الدردنيل، وشارك فيها من الجانبين أكثر من نصف مليون جندي. وقد بلغ عدد الإصابات في الجانب التركي 218 ألف إصابة، وفي جانب الحلفاء 210 آلاف (170 ألف بريطاني، و 40.000 فرنسي). وقاد الجيش التركي في هذه المعركة مصطفى كمال.
■ معركة مماثلة لمعركة غاليبولي نشبت أثناء زحف الجيش البريطاني من البصرة إلى بغداد ولكنها كانت أكثر عاراً على بريطانيا، إذ إختتمت في معركة كوت العمارة باستسلام غير مشروط للقوات البريطانية. إستغرقت المعركة عاماً كاملاً (من شهر 4/1915 إلى شهر 4/1916)، منيت خلالها القوات البريطانية بأكثر من 33 ألف إصابة: 10 آلاف أثناء زحفها نحو بغداد وحتى إستسلامها في كوت العمارة، و 23 ألف إصابة في صفوف القوات البريطانية التي تقدمت لإنقاذ القوات المحاصرة.
(11)■ «ذكر لنا المستر لويد جورج في سياق الشهادة التي أدلى بها، أنه بالرغم من أن القضية الصهيونية كانت تلقى معاضدة واسعة في بريطانيا وأميركا قبل شهر نوفمبر 1917، كان إعلان تصريح بلفور في ذلك الحين أمراً «إقتضته موجبات الدعاية». وشرح لنا الموقف الحرج الذي كان يحيق بدولة الحلفاء في ذلك الوقت؛ فالرومانيون كانوا قد سحقوا ومعنويات الجيش الروسي كانت قد أخذت في الإنحلال، ولم يكن في وسع الجيش الفرنسي آنئذ أن يقوم بهجوم واسع المجال، وكان الإيطاليون قد فشلوا فشلاً مروعاً في موقعة كابوريتو، كما أن الغواصات الألمانية كانت قد أغرقت مايبلغ محموله ملايين الأطنان من السفن البريطانية، ولم تكن قد وصلت الفرق الأميركية بعد إلى الخنادق.
■ وفي تلك الحالة الحرجة ساد الإعتقاد بأن إكتساب عطف اليهود أو مناوأتهم قد يكون له أثره الفعال في توجيه كفة الميزان نحو قضية الحلفاء أو ضدهم، ثم أن عطف اليهود من شأنه على الأخص أن يضمن معاضدة اليهود في أميركا، ويجعل من الصعب على ألمانيا تخفيف قواها العسكرية وتحسين وضعها الإقتصادي في الميدان الشرقي.
■ تلك هي الأحوال التي أصدرت فيها الحكومة البريطانية تصريح بلفور. وقد ذكر لنا مستر لويد جورج: «إن الزعماء الصهيونيين قطعوا لنا وعداً أكيداً مآله أنه إذا أخذ الحلفاء على عاتقهم تسهيل إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين فإنهم (أي الزعماء الصهيونيين) سيعملون كل ما في وسعهم لإيقاظ عاطفة اليهود في كافة أنحاء العالم وتأليبهم لمعاضدة قضية الحلفاء، وقد بروا بوعدهم هذا» (من تقرير اللجنة الملكية لفلسطين المطبوع بالعربية في شهر تموز/ يوليو 1937 والصادر بشل كتاب أبيض رقم 5479).
(12) إتخذ الكونغرس بمجلسيه (الشيوخ والنواب) في 30 حزيران (يونيو) 1922، القرار التالي: «إن مجلس الشيوخ والنواب في الولايات المتحدة بأمريكا المنعقدين معاً، تحبيذاً لإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين يقرران أن الولايات المتحدة بأمريكا تحبذ إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يُجحف بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف المسيحية وجميع الطوائف الأخرى غير اليهودية، الموجودة في فلسطين وأن تُحمى الأماكن المقدسة والمباني والمواقع الدينية في فلسطين حماية تامة».
(13) وبالفعل، ففي العام 1947 ورد في تقرير للجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين، أن «مبدأ تقرير المصير لم ينطبق على فلسطين عندما نشأ الإنتداب عام 1922، بسبب التطلع للسماح بإقامة الوطن القومي اليهودي. والعرب الذي كانوا في حينه 90% من سكان البلاد إضطروا للإكتفاء بمساواة حقوق مدنية ودينية في دولة تقام للشعب اليهودي المنتشر في الشتات»■
المراجع
I - كتب
1– الوثائق الرئيسية في قضية فلسطين من أرشيف الأمانة العامة للجامعة العربية
المجموعة الأولى: 1915 – 1946
إعداد وتحرير: أمين عقل؛ تقديم: وليد الخالدي
مؤسسة الداراسات الفلسطينية (بيروت)؛ الطبعة الأولى: نيسان (إبريل) 2016
2- بيان نويهض الحوت: القيادة والمؤسسات السياسية في فلسطين.. 1917-1948
مؤسسة الدراسات الفلسطينية (بيروت)؛ الطبعة الثالثة: 1986
3- دافيد فرومكين: سلام ما بعده سلام.. ولادة الشرق الأوسط .. 1914 – 1922
شركة رياض الريس للكتب والنشر (بيروت)؛ الطبعة الثالثة: أيار (مايو) 2001
4- كمال ديب: تاريخ سوريا المعاصر
دار النهار للنشر (بيروت)؛ الطبعة الأولى: تشرين الأول (أكتوبر) 2011
5- رشيد الخالدي: القفص الحديدي.. قضية الصراع الفلسطيني لإقامة دولة
المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت)؛الطبعة الأولى: 2008
6- فيصل حوراني: جذور الرفض الفلسطيني .. 1918 – 1948
مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية (رام الله)
7- معهد العلوم الإجتماعية (الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين): من الإنتداب إلى النكبة
شركة دار التقدم العربي (بيروت)، الدار الوطنية الجديدة (دمشق)؛ الطبعة الأولى: 2017
II – دراسات ومقالات
1– فواز طرابلسي: مئوية سايكس – بيكو.. الخرائط التاريخية
مجلة بدايات (بيروت)، العدد 14، ربيع / صيف 2016
2- خالد الحروب: وعد بلفور لم يكن وعداً عابراً، بل إستراتيجية بريطانية
جريدة الأيام (رام الله)، 24/9/2017
3- شاؤول أريئيلي: حلول خاصة لنزاع فريد من نوعه
هآرتس، 4/10/2017
4- شاؤول أريئيلي: الوعد الإلهي ليس ساري المفعول، والصهيونية ليست بحاجة إليه
هآرتس، 19/10/2017
5- أبراهام تسيون: وعد بلفور.. التوقيع القانوني
إسرائيل اليوم، 25/10/2017
6- شالومو أفنيري: وعد بلفور.. العلاقات والتداعيات
هآرتس – 27/10/2017
7- جدعون ليفي: بلفور كان سيشعر بالراحة في البيت اليهودي
هأرتس – 29/10/2017■