بسم الله الرحمن الرحيم
توقف قلب الرئيس والزعيم والرمز التاريخي الفلسطيني ياسر عرفات "أبو عمار" عن الخفقان في المستشفى العسكري في باريس يوم 11/11/2004 ، لتنتهي برحيله الدراماتيكي المُفجع والمؤلم والصادم مرحلة من أهم وأعقد وأغنى وأصعب وأخطر مراحل النضال والتاريخ الفلسطيني المعاصر، ولتبدأ مرحلة جديدة غاية في الصعوبة والتعقيدات والتحديات ، وفي اليوم التالي لرحيله أقيمت لجثمانه الطاهر ثلاث جنازات رسمية كرئيس دولة، في العاصمة الفرنسية باريس ، والعاصمة المصرية القاهرة ، ورام الله بالضفة الغربية في فلسطين المحتلة ليوارى الثرى بشكلٍ مؤقت في مقر المقاطعة التي كان مُحاصراً فيها ، حتى يدفن حسب وصيته في المسجد الأقصى المبارك بالقدس الشريف ، وأقيمت له جنازة رمزية في نفس الوقت في قطاع غزة ، وتولى قيادة الشعب الفلسطيني خلفاً للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات رفيق دربه محمود عباس ، الذي فاز في ثاني انتخابات رئاسية تشهدها الأراضي الفلسطينية في يناير / كانون الثاني 2005 ، وفي 15 أيلول /سبتمبر2005 انسحبت قوات الإحتلال الصهيوني من قطاع غزة ، وفق خطة رئيس حكومة العدو الإرهابي آرئيل شارون ( الإنسحاب الأُحادي ) ، وفي 25 يناير/ كانون ثاني 2006 أجرت السلطة الوطنية الفلسطينية ثاني إنتخابات تشريعية ، وفازت بأغلبية المجلس التشريعي ( البرلمان ) حركة حماس ، لتبدأ لاحقاً سلسلة من المشاكل والتعقيدات في المشهد الفلسطيني ، حتى وصلت الأمور إلى أقصى درجات التعقيد والمأساوية والعبثية في الوضع الفلسطيني يوم الخميس الأسود 14/6/2007 ، حيث تكرَّس الإنقسام المأساوي المؤسف ، وسيطرت حركة حماس على حكم قطاع غزة ، وانفصل القطاع جغرافياً وسياسياً وإداراياً عن الضفة الغربية والقدس المحتلة وعن بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة ، وعن السلطة الوطنية الفلسطينية ، وانقسم النظام السياسي الفلسطيني إلى نظامين وكيانين متصارعين ، الأول في الضفة الغربية وعاصمته المؤقتة رام الله يتبع السلطة والقيادة الشرعية والتاريخية ، وتقوده حركة فتح ، والثاني في قطاع غزة تابع لحركة حماس ، واستمر هذا المشهد الدراماتيكي العبثي أحد عشر عاماً من الإنقسام البغيض المؤسف الذي طال كافة مناحي الحياة في الضفة والقطاع ، لتتراجع خلالها مكانة القضية الفلسطينية لدى الجماهير الإسلامية والعربية والرأي العام الغربي ، وتعرَّضَّ قطاع غزة منذ عام 2006 لحصار صهيوني ظالم ، إشتدَّ كثيراً عقب الإنقسام صيف العام 2007 ، ومازال الحصار مستمراً حتى كتابة هذه السطور ، وبَذَلَت مصر الشقيقة الكبرى جهوداً كبيرة من أجل رأب الصدع في الساحة الفلسطينية ، حتى نجحت أخيراً القيادة المصرية بعد رعايتها واستضافتها لعشرات جولات الحوارات والمفاوضات بين فتح وحماس في إنهاء الإنقسام الفلسطيني وتحقيق المصالحة الفلسطينية ، والإشراف على كافة الترتيبات اللازمة لعودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى قطاع غزة ، وكان من أهم ثمار المصالحة الفلسطينية السماح لحركة فتح وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية إحياء الذكرى الثالثة عشر لرحيل الزعيم الفلسطيني الخالد ياسر عرفات ، وكم كان ُمثيراً ورائعاً وجميلاً ومُذهلاً حجم الحضور الشعبي لجماهير قطاع غزة ، الذين خرجوا بأكثر من مليون ومائتي ألف شخص للمشاركة في إحياء ذكرى رحيل زعيمهم المحبوب ياسر عرفات ، فلقد كان الشهيد "أبو عمار" ومازال ـــ رغم طول الغياب ـــــ رمزاً وأيقونة للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية ولكل أحرار وثوار العالم ، مثلما كان في حياته قائداً للثورة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني المُستمر في نضاله وكفاحه من أجل الحرية والكرامة والإستقلال والعودة ، وتميَّز الزعيم الراحل بحنكته وذكائه الحاد وإرادته الصلبة وصموده البطولي أمام كافة التحديات ، وتمكن من تحويل معظم الانتكاسات إلى انتصارات وانجازات ، وكان رحيل الزعيم القائد الرمز الختيار ياسر عرفات مُوجعاً مُفجعاً مُؤلماً وصادماً للشعب الفلسطيني ، وخصوصاً لأهلنا في قطاع غزة ومخيمات اللجوء والمنافي الذين شعروا باليُتم إثر رحيله ، ومازال غياب أبوعمار بعد ثلاثة عشر عاماً يترك ظلال الحسرة والآلام والأحزان والأوجاع في قلوب الفلسطينيين ، بينما غزة المُتَّشِحَة بأثواب السواد والمتسربلة بالحزن مازالت تفتقده وتشعر بالشوق والحنين الدائم إليه ، فهي التي كانت لها مكانتها الخاصة في قلبه ووجدانه وعمله ، وكان له مكانة فريدة ومميزة في وجدان وقلوب أهلها ، الذين بادلوه حُبَاً بحب وعشقاً بعشق ووفاءاً بوفاء.
قم يا ياسر ... هاهي غزة حبيبتك تخرج عن بكرةِ أبيها تبحث عنك ...قم ياياسر ولاتُطِل الغياب .. كفانا ثلاثة عشر عاماً من الحزن وأوجاع الغياب ... يا ياسر مليون وربع المليون فلسطيني خرجوا لأجل عيونك ، رغم الفقر والحصار والبطالة والجوع والأوجاع والآلام والمعاناة والقهر وسنوات الإنقسام البغيض ... خرجوا يبحثوا عنك في عيون أطفالهم ، ووجوه الشبان ، وفي تقاطيع ملامح العجائز ، يبحثون عنك بين ثنايا الفجر الغزاوي ...ياياسر لاتطل الغياب ياحبيبي .. فالناس أمضوا ليلهم بياتٌ في ساحة السرايا رغم البرد القارص ، فلاأحد منهم يريد أن يصدق أن غيابك سوف يطول ويطول ويطول ...يا حبيب قلوب الملايين لما كل هذا الغياب ، وقد خرج الغزيون لأجلك وبحثاً عنك ، بحثاً عن حُلمٍ طال تحقيقه ، بحثاً عن حنين الأب وقبلات الزعيم الخالد لأيدي أطفالهم وجرحاهم ورؤوس شهداءهم ... بالله عليك يا ياسر لاتُطِل الغياب على أحبائك الغزيين ، فهم الذين ما إن كنت تشير لهم بنظرةٍ من عيونك المشتعلة غضباً والممتلئة حباً ، أو بإيماءةٍ من رأسك حتى يخرجوا ليشعلوا نيران الغضب ويحرقوا وجه المحتل الغاصب ... يا ياسر غزة تقول لك بلسان المليون وربع المليون الذين خرجوا يوم السبت 11/11/2017 بحثاً عنك في حواري وأزقة وشوارع ومخيمات قطاع غزة ، تقول لك : لقد كان رحيلك القاسي والصعب والمؤلم والموجع ، رحيلٌ لكل معاني الحياة والبطولة والشموخ والصمود والتضحيات والعطاء والفداء ، ولم تعرف غزة منذ رحيلك يوماً للفرح ، إلا حينما زفت القاهرة الحبيبة بشائر تحقيق المصالحة الفلسطينية ، فغزة يا ياسر لبست ثوب السواد والحزن والآلام منذ رحيلك المُفجِع ، في ذلك اليوم الأسود ، وغبتَ عنا في أشد اللحظات قسوةً وصعوبةً ، وكم كنا ومازلنا في أشد الحاجةٍ إليك .. فمع رحيلك ياسيدي سَكَنَ الحزن ديارنا ، وإبتدأت مسيرة أوجاعنا وآلامنا ، ورغم كل آلام وأوجاع ومعاناة غزة ، فهاهي تخرج اليوم لأجل عيونك تجدد عهد الوفاء لك ولفلسطين وللثورة الفلسطينية ولمنظمة التحرير الفلسطينية وللقيادة الشرعية الفلسطينية ، وتعُبِّر عن فرحتها العارمة بالمصالحة الفلسطينية وطي صفحات الإنقسام البغيض.
أبوعمار... الزعيم والقائد والرمز المؤسس ... الحاضر دوماً .. رغم طول الغياب .. مع غياب شمس وجهك المشع قوة وثباتاً وحناناً وقوةً وثورةً وعنفواناً ، حضر الحزن والألم والحسرة ... ورغم غيابك الصعب المؤلم القاسي ؛ إلا أنك الحاضر دوماً في الوعي والقلب والعيون والوجدان والذاكرة والتاريخ ، فمثلك ياسيدي عندما يغيب جسداً ، يبقى حاضراً روحاً وتاريخاً وتأثيراً ووجعاً وذكريات ، فأنت يا سيدي في القلب دوماً ... لا ولن ننساك أبداً .. كم نفتقدك يا زعيمنا الخالد وقائدنا المؤسس الحبيب ياسرعرفات ... رحمات الله تتنزل عليك ورضوانه ومغفرته ، ونسأله تعالى أن يُسكِنَك فسيح جناته ونعيمه ، وسنبقى دوماً على الوعد والعهد ... حتى القدس ... حتى القدس .... حتى القدس والنصر والحرية والإستقلال ، ولقد كانت غزة كلها على موعدٍ مع الزحف المليوني إلى ساحة السرايا لتُعَبِرَّ لك عن حجم حبها ووفائها وشوقها وحنينها وافتقادها لك .... إنها غزة التي تعرف حبيبها أكثر من غيرها ...إنها غزة حبيبة الياسر الوفية الأبية الحزينة الثكلى ، وهي النائحة الثكلى ، لا النائحة المُستأجرة ... غزة التي إحتضنت حبيبها منذ عاد إليها بعد غيابٍ وشوقٍ طويل في المنافي والمُغر وكهوف الجبال ، غزة التي إحتضنت حبيبها عند عودته من براثن المؤامرات والموت ومحاولات الإغتيال في المنافي القريبة والبعيدة.. غزة التي تعرف كيف تُعبِر عن وفائها لفارسها وحبيبها ومؤسس الثورة والسلطة ورمز عزتنا وكرامتنا ، غزة التي تعرف كيف تدافع عن رموز الشرعية الوطنية والتاريخية هاهي تدافع عن حبها للياسر ، وتعلن ولاءها للخليفة الأمين على العهد والوعد والثوابت الرئيس أبومازن ، غزة التي خرجت عن بكرة أبيها تُعبِّر عن حبها وشوقها للزعيم الخالد والقائد الرمز الشهيد ياسر عرفات ، وتبعث برسالتها الواضحة وضوح الشمس للجميع : أنها خزان االبارود ، وحامية المشروع الوطني الفلسطيني ، وحارسة الثورة والإستقلال والوحدة والمصالحة ، وأنها دافعت بدمها ودموعها وأحزانها وأوجاعها وآلامها عن القيادة الشرعية والثوابت الوطنية الفلسطينية ، وفي مقدمتها الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا وثورته ، وعن الوحدة الوطنية الفلسطينية ، وستبقى على الدوام رحم الثورة الولود المُضحي والمعطاء ، وهي من سيبقى على الدوام خط الدفاع الأول عن القيادة الشرعية الفلسطينية .
وإن خروج جماهير غزة المليونية لتُعبِر عن حبها ووفائها لقائد الثورة ومؤسسها ورمزها الشهيد أبوعمار ، تقول بلغةٍ في منتهى الوضوح ، لاتحتمل التأويل : أننا مع المصالحة الوطنية الفلسطينية ، ومع إنهاء الإنقسام البغيض بكافة أشكالة ، وإعادة الوحدة واللُحمة الوطنية الفلسطينية ، وإذا كنا نُحيي اليوم ذكرى رحيل ووداع القائد الرمز والزعيم الخالد ياسر عرفات ، فإننا ننتظر قدوم قائد المسيرة والقضية ونستحق رعايته واهتمامه ، ننتظر قدوم السيد الرئيس محمود عباس ، وكما خرجت هذه الجماهير المليونية لإحياء الذكرى الثالثة عشر لرحيل الزعيم الخالد الشهيد ياسر عرفات ، فإنها وعلى دربه المجيد ستخرج لإستقبال واحتضان الرئيس محمود عباس عند قدومه إلى غزة ... غزة بحبها وشوقها وحنينها لياسر عرفات تُعبِّر عن شوقها لخلفه الأمين محمود عباس ... فغزة تنتظرك سيدي الرئيس أبومازن ، فلا تُطل عليها الغياب ... وسنبقى يا " أبو عمار" يا حبيب القلوب في شوقٍ إليك ، وملتقانا بإذن الله تعالى في الجنة ، وستبقى حياً في ذاكرتنا وقلوبنا ووجداننا ، فأنت الحاضر دوماً رغم طول وقسوة وأوجاع الغياب ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د.محمدأبوسمره / سياسي ــــ مفكر ومؤرخ فلسطيني .
رئيس تيارالإستقلال الفلسطيني وعضو المجلس الوطني .
البريد الإليكتروني [email protected]