ذكرى اعلان وثيقة الاستقلال الفلسطيني والمصالحة

بقلم: عباس الجمعة

في الخامس عشر من تشرين الثاني عام 1988 انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر على وقع الانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت شرارتها عام 1987 ، وقد مثل هذا الحدث منعطف جديد في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني الذي حول حلم الدولة من امكانية تاريخية الى امكانية واقعية بحاجة الى جهد كفاحي طويل حتى يتجسد هذا الحلم على ارض الواقع.

على أرض الجزائر بلد المليون ونصف مليون شهيد وقف القادة الفلسطينين في المجلس الوطني الفلسطيني وفي مقدمتهم رمز الثورة الفلسطينية يصدح بصوته الهادر في كلمته التاريخية التي هزت القلوب وحركت مشاعر المئات من الحاضرين في قاعة قصر الصنوبر في مدينة الجزائر والتي غصت بالشخصيات الوطنية والقيادية والسياسية ، معلناً خطابه التاريخي أمام الحاضرين قائلاً: باسم الله باسم الشعب العربي الفلسطيني نعلن قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرف، حيث جاء إعلان الاستقلال الوطني الفلسطيني الذي أعلنه الرئيس الشهيد ياسر عرفات من قلب العاصمة الجزائرية تتويجاً لثمرة كفاح ونضال طويل معمدة بدماء الشهداء وتضحيات ألاف الأسرى العظماء قدمها الشعب الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، فقد اختلطت مشاعر الحضور الممزوجة بالبكاء والفرح بعد انتهاء الشهيد أبو عمار من تلاوة إعلان وثيقة الاستقلال الوطني التي صاغها الراحل الشهيد الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش والتي تعتبر انجازاً وطنياً وتاريخياً للشعب الفلسطيني وتجسيداً لأهداف الانتفاضة الباسلة واعتماد القيادة الفلسطينية على الركن القانوني لتجسيد حلم الدولة الفلسطينية المستقلة وتمسك الشعب الفلسطيني بحقه الطبيعي والتاريخي في وطنه و بقرارات الشرعية الدولية .

لقد وقف العالم أجمع يرحب بهذا الإعلان الذي كان بمثابة نقطة تحول في بوصلة مسيرة الثورة الفلسطينية والنضال الفلسطيني، ومسار تاريخ المنطقة حتى توالت الاعترافات الدولية والعربية بدولة فلسطين معترفة بها 105 دولة وافتتحت السفارات والممثليات الدبلوماسية لفلسطين في مختلف دول العالم المعترفة بالاستقلال، وإنطلاقا من ذلك ارى ان الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية، جاء بعد أحداث تاريخية هامة في حياة الشعب الفلسطيني وتطورات مهمة في المنطقة العربية ، تبين طبيعة الفرح وحجم المعاناة والصراع على إمتداد اكثر نصف قرن منذ عام 1947 حتى اللحظة لم يفقد اللاجئون الفلسطينيون الأمل بتحرير أرضهم وبالعودة الى مدنهم وقراهم وبناء دولتهم اسوة بشعوب الارض، وخاصة بعد ان عانى الشعب الفلسطيني داخل وطنه وخارجه من الظلم والقهر ما لم يعانيه شعب آخر، وصلت في بعض الأحيان وفي بعض المواقع حدود الإبادة الجماعية، كي لا تقوم في المنطقة دولة فلسطينية، فكل الشعب الفلسطيني بملايينه عانوا، التشريد والحرمان من الوطن، ومن لم يعاني التشريد عانى الشوق للأهل المشردين في شتى بقاع الارض، وحرم قبل موته القديم أو القادم من اللقاء بهم، جيل ورث الموت والعذاب والأمل وورثه لجيل آخر،

من سبق أخذ نصيبه ومضى ومعه الآلام، لكنه لم يضيع الآمال، فقد سلم الموت للجيل اللاحق ومعه مفتاح الحياة، ملفوفا بباقة من ورود الأمل بالدولة والعودة والاستقلال.

امام هذه الحالة اصبح لا بد من التفريق بين ثقافة التمويه التي خلقتها سنوات المفاوضات برعاية ثنائية امريكية هدفها تصفية القضية الفلسطينية من خلال استخدام القضية الفلسطينية بتشعباتها واهميتها للمنطقة والعالم من اجل الدفاع عن مصالحها وعن دورها المحوري في الشرق الاوسط، وكذلك لحماية كيان الاحتلال ودعم جرائمه ، ولذلك سعى الجانب الفلسطيني الى وقف المفاوضات و الدخول في منظمات الامم المتحدة، التي من شأنها اتخاذ خطوات فعالة لحماية الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة وعدالة قضيته واحترام نضالات وتضحيات شعبنا وما استطاعوا ان يبنوه من مؤسسات وهيئات ومحطات كان ثمنها دماء الشهداء والجرحى وأهات الاسرى وعذابات الاطفال والشيوخ والأمهات .

ومن هنا يتوجب في ذكرى وثيقة الاستقلال العمل السريع لوضع ينهي الانقسام و تطبيق اتفاقات المصالحة ، ولا سيما ان الخطوات الاساسية اعادة بث الحياة للشعب الفلسطيني وهذا ما رايناه في المهرجان المركزي في قطاع غزة بذكرى استشهاد الرئيس الرمز ياسر عرفات ، الذي اعطى الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية دفعة قوية.

من هنا نقول شكل اعلان المصالحة بين حركتي فتح وحماس حدثاً هاماً، فقد كانت المصالحة مطلباً ملحاً للحركة الوطنية الفلسطينية بجميع فصائلها، كما كانت مطلباً لجميع القوى الوطنية والديمقراطية على الصعيد العربي، فالانقسام كان ثغرة حادة في جدار اصطفاف القوى الوطنية الفلسطينية، تنفذ من خلالها القوى المعادية للشعب الفلسطيني ولنضاله الوطني ومطالبه العادلة، كما ان هذه المصالحة بحاجة الى اوسع تأييد عربي للنضال الوطني الفلسطيني ولدعمه اقتصادياً وسياسياً، وعلى قاعدة الاشتراك في الضغط على جكومة الاحتلال على الصعيد الدولي وتقليص الضغوط الامريكية على العرب والفلسطينيين على حد السواء.

ان الاسراع في انجاز الخطوات الرئيسة في موضوع المصالحة من شأنه زيادة التأييد والتعاطف مع الشعب الفلسطيني وتسهيل تقديم المساعدات المالية والتنموية له، بما يفسح المجال للسلطة الوطنية الفلسطينية ان تباشر العمل الجدي للاستفادة من الثروات الطبيعية وفي مقدمتها استثمار الغاز الموجود في شواطئ غزة، والذي تتخذ اسرائيل اجراءات تحول دون الاستفادة منه.

ان المصالحة، واستثمار نتائجها ، والبناء على القرارات الدولية التي اتخذت في السنوات الاخيرة يشكل دفعة هامة للأمام للقضية الفلسطينية ولحركة التحرر العربي، رغم الصعوبات والانقسامات التي تعاني منها البلدان العربية، ورغم الهجمة الامبريالية الصهيونية الارهابية التي يتعرض لها اكثر من بلد عربي.

نعم الاستقلال بالنسبة لنا حق رغم ما يعانيه الشعب الفلسطيني حتى هذه اللحظة من الغربة في داره وأرضه قاتل هذا الشعب العظيم بالحلم وبالأمل وبالقلم، بالحجر قاوم، إستخدم الكفاح المسلح ، عمل

كل ذلك، من أجل أن يبقى على قيد الحياة، ومن أجل إنتزاع الحياة ذهب للموت وفجر نفسه لانه كان لديه قناعة راسخة، طالما أنا حي وموجود طالما أنا المنتصر، المهم أن لا أضيع في دهاليز الصهيونية والاستعمار ، ثقته بنفسه كبيرة وهي التي تدفعه للتعلق بالحياة وبها يكبر معه الأمل، واجه أعدائه مباشرة وجها لوجه بالكلام، بالصمت عذبهم وأذاقهم الامرين، بصق في وجه جلاديه، واجه الأعداء بكل الاساليب، وصنع من أبسط الاشياء أسلحة فتاكة لا تقهر، نعم "بالكف قاوم المخرز”، حول الحجر الى قوة فاقت قوة وفعالية فرق عسكرية جرارة، بإختصار تحمل وما لم يتحمله بشر، وصنع قدره بكل السبل فكانت انتفاضة الحجر والمقلاع وكانت انتفاضة الاقصى ، وانتفاضة القدس والهبات والمقاومة الشعبية ، هذا هو شعب فلسطين واجه الأعداء بكل الاساليب، وصنع من أبسط الاشياء أسلحة فتاكة لا تقهر، فهو بحاجة الى مشروع نضالي والى نضال طويل لاستكمال شروطه، أسسه متوفرة ، ولكن شروط قيامه كحقيقة واقعة على الأرض غير متوفرة بعد، ونحن اليوم بعد غياب قادة عظام وعلى رأسهم الرئيس الرمز ياسر عرفات وفارس فلسطين ابو العباس والحكيم جورج حبش والقادة ابو جهاد وابو علي مصطفى وسمير غوشه وابو عدنان قيس والشيخ احمد ياسين وفتحي الشقاقي وعبد الرحيم احمد وسليمان النجاب ومحمود درويش وزهير محسن وشهيد اعلان الاستقلال طلعت يعقوب وابو احمد حلب وفضل شرورو نتطلع الى تحويل وثيقة اعلان الاستقلال الى بنيان قائم على الأرض.

ختاما : لا بد من القول على جميع الفصائل والقوى السير في تنفيذ عملية المصالحة ووضع خطة شاملة للنهوض بالموقف الوطني الفلسطيني على الصعيدين العربي والدولي من خلال السير الجريء باتجاه هدف اقامة الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس وضمان حق العودة، ونحن نؤكد ان مثل هذه الخطة ستواجه عقبات كثيرة، ولكن التصميم على تنفيذها من شأنه ان يدفع بمجمل النضال العربي لاتخاذ خطوات كبيرة الى الامام.

بقلم/ عباس الجمعة