“صفقة القرن“ بتصفية القضية الفلسطينية

بقلم: فايز رشيد

في مؤتمرات هرتزيليا الاستراتيجية الستة الأخيرة، وصف الاستراتيجيون من الحاضرين الوضع الأمني الإسرائيلي بأنه الأفضل، مقارنة مع كل السنوات التي مضت عليها منذ إنشائها. ذلك بزوال الأخطار التي تهدد وجودها أولاً. وثانيا من خلال القبول الرسمي العربي بها، والاستعداد للتنسيق معها في مواجهة أخطار الإرهاب الذي يهدد المنطقة بأكملها.
من زاوية أخرى، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي مدعوما من المعسكر الأكثر تطرفا في إسرائيل، وجد في جملة التطورات الأخيرة في المنطقة ظرفاً مواتيا للهروب مما يعتبر الجانب الأكبر في استحقاقات السلام، المتمثلة في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، بالدعوة إلى تسوية إقليمية أولا، أي تطبيع العلاقات الرسمية العربية مع إسرائيل، من دون التزامها بأي حقوق فلسطينية، إلا من خلال إيجاد العوامل المؤدية إلى إنعاش الحالة الاقتصادية للفلسطينيين، إضافة إلى توسيع حدود قطاع غزة جغرافيا بإعطائه عشرات، بل مئات من الكيلومترات المربعة من أرض سيناء، لإقامة دولة فلسطينية فيها، إضافة إلى القطاع بالطبع.
أما ما يتبقى من الضفة الغربية بعد الاستجابة لمتطلبات الأمن الإسرائيلي بمصادرة الأراضي والمواقع الاستراتيجية المهمة للأمن الاسرائيلي منها، فبالإمكان إلحاقه بالأردن، وإيجاد شكل كونفيدرالي بين الطرفين، على أن تضم القدس والمستوطنات إلى إسرائيل، وأن لا عودة لأي فلسطيني من المناطق التي جرى تهجيرها عام 1948 وتوطين اللاجئين في البلدان التي يتواجدون فيها. هذا ما اصطلح على تسميته بـ"صفقة القرن" أو "التسوية الإقليمية" الهادفة عمليا إلى تصفية القضية الفلسطينية.
ومع مجيء الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مطلع هذا العام، الذي يفتقر إلى مقترحات واضحة أو مسبقة لإيجاد حل بين الفلسطينيين وإسرائيل، وقد صرح مراراً وتكراراً بأن المهم هو إيجاد تسوية بين إسرائيل والبلدان العربية، وأن إقامة الدولة الفلسطينية ليست شرطاً لذلك. مع مجيئه، تزايدت فعليا الطروحات المتعلقة بالتخلص من القضية الفلسطينية ومن استحقاقاتها، والتحول نحو بعض الدول العربية لتستوعب الفلسطينيين بعيدا عن أرضهم وحقوقهم، وفي الوقت نفسه خلق مناخ سياسي إقليمي موات لعلاقات عربية – إسرائيلية، مع إيجاد مؤسسات إقليمية وعلاقات تعاون اقتصادي إقليمي تهدف إلى خلق واقع اقتصادي متطور للفلسطينيين.
مع ذلك يجدر التنويه هنا إلى أن هذا الطرح تم البحث فيه من قبل، خاصة في القمم التي عقدت بين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وبعض الزعماء العرب، وفقا لصحيفة "هآرتس". أيضاً، تأتي هذه التصورات في وضع يشهد فيه العالم العربي استقطابات جديدة، لا سيما على خلفية التمزق أو الانهيار على مستوى الدولة والمجتمع في المشرق العربي، ووجود تطلعات إقليمية تستفيد من الحالة العربية الراهنة، بتوسيع نفوذها إلى حد احتلال أراض عربية جديدة، إضافة إلى ما احتلته سابقا.
من جانبها فإن إسرائيل، في ظل الحالة التمزقية العربية الراهنة، ليست معنية بإقامة السلام، الذي سيجعلها تدفع ( وفقا لآراء قادتها) أثماناً كبيرة، لا سيما مع الفلسطينيين، خصوصا بعد انحسار المقاومة في ظل غياب التهديدات من كل الجبهات، بعد التحولات العربية ومعاهدات السلام، وتوريط الجيشين العربيين العراقي والسوري في محاربة الإرهاب. عمليا أنه هنا وبدلاً من البدء في التسوية الفلسطينية، تجري التسوية بداية مع الإطار العربي، وهو ما يعني تهميش البعد الفلسطيني، وأن الفلسطينيين لم يعودوا مقررين في شأن التسوية أو الصراع مع إسرائيل. ثم إن فكرة التسوية تقوم على المصالح الأمنية والاقتصادية التي يفترض أنها باتت تجمع إسرائيل بالدول العربية، وطبعا تطمح إسرائيل إلى أن تشمل هذه التسوية غالبية البلدان العربية.
ما ينبغي لفت الانتباه إليه هنا، هو أن هذه الطروحات – سواء أتت من أوساط في الإدارة الأمريكية، أو من أوساط إسرائيلية – ليست جديدة، فهذا ما شهدناه في حقبة التسعينيات مع ظهور مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الذي تحدث عن مصالح مشتركة سياسية وأمنية واقتصادية، توجب نوعاً من السلام والتعاون بين دول المنطقة وضمنها إسرائيل. ومعلوم أنه لهذا الغرض نشأ ما سمي في حينه "المفاوضات المتعددة الأطراف"، التي كانت تُعنى ببحث شؤون التعاون الإقليمي في مجالات الاقتصاد والتجارة والمياه والبني التحتية والبيئة، وذلك بالتوازي مع المفاوضات الثنائية بين إسرائيل وبعض الدول العربية.
ومن الجدير بالذكر أن قمة بيروت العربية أصدرت عام 2002 ما عرف بـ"مبادرة السلام العربية". لذلك، فإن هذه الدعوات التسووية الجديدة، تستند في جزء منها إلى بنود "المبادرة العربية للسلام" التي أطلقتها القمة العربية (بيروت 2002)، والتي نصت على مبادلة انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 مقابل السلام والتطبيع معها، لكن إسرائيل ضربت عرض الحائط بالجزء المتعلق بإنشاء دولة فلسطينية وبغالبية بنود المبادرة، وبكل المساعي والطروحات التي دعت إلى حل الدولتين، وذلك بسبب إصرارها على تكريس واقع الاحتلال، ورفض أي انسحاب من الضفة الغربية، والتمسك بالقدس عاصمة إسرائيل الموحدة، وتعزيز الأنشطة الاستيطانية، خاصة أنها لم تجد في الوضع الفلسطيني أو العربي أو الدولي ما يضغط عليها لإجبارها على الاعتراف بالحقوق الفلسطينية والانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.
للعلم، فإن كل المباحثات التي دارت بين الفلسطينيين وإسرائيل لم تثمر سوى عن اتفاقيات أوسلو 1993 المشؤومة، ورغم مرور قرابة ربع قرن على هذه المفاوضات (مفاوضات كامب ديفيد 2 في عهد الرئيس بيل كلينتون، وطابا، ثم خطة "خريطة الطريق" (2003) وبعدها اتفاق الإطار في "مسار أنا بوليس" (2007) في عهد الرئيس جورج بوش الابن، وبعد ذلك المفاوضات التي أجريت إبان فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما) كل تلك المفاوضات لم تزد إسرائيل إلا تعنتا وإنكارا لحقوق شعبنا الفلسطيني.
المطروح إذن، هو تلبية الإملاءات الإسرائيلية وإقامة سلام وتطبيع معها، من دون أي ثمن؟ وإذا كان هناك ثمن أو مقابل إسرائيلي فما هو؟ أو من الذي سيضغط على إسرائيل لتنفيذه؟ الأمر الذي يمكن الاستنتاج منه، أن طرح التسوية الإقليمية هو مثل سابقاته التصفوية، فضلا عن أنه مثال على التلاعب بالقضايا وتغييب الحقوق، ليس فقط بحكم التعنّت الإسرائيلي المعهود، ولامبالاة المجتمع الدولي ورياء الدول الكبرى (خاصة أمريكا) فحسب، بل لأن هذا يحصل أيضا بسبب تهافت النظام العربي، وبضمنه النظام السياسي الفلسطيني- الذي بذل تنازلات مجانية كثيرة، من دون أن يحصل على شيء حقيقي من إسرائيل، لإقامة علاقات معها. الحاصل أن ما يجري يستهدف الالتفاف على القضية الفلسطينية ووأد حقوق الفلسطينيين، مع التأكيد على أن أي شيء جدي سيحصل. على صعيد العلاقة بين إسرائيل وبعض البلدان العربية لا يمكن التعاطي معه بوصفه جزءاً من عملية تسوية حقيقية ولو نسبياً، إذ إن ذلك سيكون في إطار إعادة تشكيل المنطقة، أي كجزء من التسويات التي يمكن أن تحصل لتحقيق الهيمنة الأمريكية الصهيونية على عموم المنطقة. بالتأكيد، فإن كل ما يخططونه ليس قدرا، فشعبنا الفلسطيني مدعوما من قبل أمته العربية سيفشل كافة المخططات الهادفة إلى تصفية قضيته الوطنية، مثلما أفشل كافة المخططات الشبيهة الأخرى. شعبنا لا ولن يرضى بأقل من وطنه الفلسطيني وانتزاع حريته واستقلاله.

د. فايز رشيد
كاتب فلسطيني