قبل أيام عدة إحتفل العالم بيوم التسامح، وهو اليوم الذي يجب التذكير فيه بضرورة الإلتزام بتدعيم قيم التسامح من خلال تعزيز التفاهم المتبادل بين الثقافات والشعوب حسب ما دعت إليه الأمم المتحدة.
وتكمن هذه الضرورة في جوهر ميثاق الأمم المتحدة، وكذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي باتت أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى خصوصاً في هذه الحقبة الزمنية التي تشهد زيادة في التطرف الفكري العنيف واتساع الصراعات الناجمة عن تجاهل أساسي لقيمة الحياة البشرية.
هذا وكانت الأمم المتحدة قد أطلقت حملة ( معــاً) لتعزيز التسامح والاحترام بين البشر و وتعزيز مكانة الكرامة الإنسانية في جميع أنحاء العالم. ومعاً هي الحملة العالمية التي تهدف للحد من المواقف السلبية تجاه اللاجئين والمهاجرين بهدف تعزيز التكافل الإجتماعي بين الدول والمجتمعات المضيفة واللاجئين والمهاجرين على حد سواء، مما يضيق الفروقات والإختلافات في الثقافات بين هذه الأمم والمجتمعات، ويخلق حالة إندماج صحية وإيجابية ينجم عنها حالة إبداع في بناء الإنسان ومن ثم بناء البلاد.
هذا الأمر إهتمت به الأمم المتحدة منذ عام 1996 حينما دعت الجمعية العامة ، الدول الأعضاء إلى الاحتفال باليوم الدولي للتسامح في 16 تشرين الثاني/نوفمبر ، من خلال القيام بأنشطة ملائمة توجه نحو كل من المؤسسات التعليمية وعامة الجمهور، وكان ذلك من خلال (القرار 51/95 ، المؤرخ 12 كانون الأول/ ديسمبر). وجاء هذا الإجراء في أعقاب إعلان الجمعية العامة في عام 1993 بأن يكون عام 1995 هو عام للتسامح، وكان ذلك من خلال إصدار (القرار 48/126 ).
حيث أعلنت الأمم المتحدة ، تلك السنة بناءاً على مبادرة من المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1995 ، هي عام التسامح، بعد أن إعتمدت الدول الأعضاء إعلان المبادئ المتعلقة بالتسامح و إقرار خطة عمل متابعة سنة الأمم المتحدة للتسامح ، التي جاء فيها :
التزام الدول الأعضاء والحكومات في المنظمة الأممية بالعمل على النهوض برفاه الإنسان وضمان حريته وتقدمه في كل مكان ، وتشجيع التسامح والاحترام والحوار والتعاون فيما بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب.
مما سبق ذكره يتبين لنا أهمية التسامح خاصة في ظل التحديات التي باتت تواجه الإنسان، وهي الناجمة عن الإرهاب والتطرف والفقر والجوع والبحث عن الحياة الآمنة ، كما أنه لا يمكن إغفال الوضع العالمي المشحون بالغل والحقد والطائفية والتعصب، حيث أصبح التسامح في هذه الأيام هو العامل الأساسي المفقود في التعامل الإنساني سواء على مستوى الفرد أو المجتمع.
من هنا ندرك لماذا أصبح لزاماً على البشرية أن تتحمل كل أنواع التعصب العرقي والمذهبي والديني والسياسي وغيرها الناجمة عن الجهل والعوامل الشريرة الأخرى، لإحتوائها ومواجهتها بلغة التسامح.
كون أن اللغة الحوارية السلبية التي باتت سائدة بين مختلف الثقافات والمجتمعات والأفراد والتي باتت تعتمد منطق الإستحواذ والإقصاء بالقوة، هي التي أنتجت سلسلةً من الحروب والكوارث البشعة، حيث مازالت الأرواح البريئة تُزهق كل يوم في كل أنحاء العالم، بعد أن سيطر هذا التعصب على البشر، وهذا ما نسمعه ونتابعه يومياً من خلال ما يُذاع في نشرات الأخبار، حتى أصبح هذا الأمر يتعلق بالأرقام وكأنه بات عادياً، إذ لا يكاد أحدنا يكفكف دمعه على روحٍ أُزهقت بلا ذنب، حتى يسمع خبراً آخر في مكان آخر من هذا العالم الذي باتت تجتاحه، قيم عبثية بديلة عن فكرة التسامح والتعايش الإنساني.
فبتنا نرى على سبيل المثال الأرواح تُحصد، والحروب تندلع، وسلسلة التفجيرات تتواصل من كمان إلى آخر لا بل بدأ الأشرار يبتدعون أساليب الموت بطرق همجية وشريرة مختلفة لم يعد أحد بمأمن عنها بغض النظر عن دينه أو ثقافته أو معتقداته، وبدأ المد العرقي والإيدلوجي ينشر سواده في كل الأرجاء، والأحقاد الفردية تتوسع والعلاقات الإنساية تُهدر ، ولا زال الجميع يبحث عن سبب هو في الاساس صناعة أيديهم ، وهو غياب التسامح، ومحاولة العيش تحت مظلة لون واحد وفكر واحد واعتقاد واحد لا بل الجهل بقيمة الإختلاف من أجل النهوض وليس من الإجل الإقصاء والسيطرة. حتى وصل الحال إلى أن بات الاختلاف والمطالبة بالمصداقية والشفافية، يمثل عاراً أو جريمةً لا تُغتفر في قاموس البعض من الأشرار.
هذا عوضاً عن أنه أصبح من يتمسك بهذه القيم الإنسانية والداعين لها يواجهون العزل عن مجتمعاتهم والتشكيك في نواياهم الخيرة ويُتَهَمون بالجنون أو لربما بالخيانة في بعض الأحيان، لأن هذه القيم لا تلتقي وفكر الأشرار ، مما جعل هذا التعصب بالإنحياز لفكرة الذات وتنحية روح التسامح ، لا ينتشر على مستوى العلاقات الدولية أو علاقات المجتمعات ببعضها، فحسب، بل أصبحنا نجده منتشراً على مستوى الأفراد في شتى المجالات والأصعدة أيضاً ، فكثيرون هم اليوم من أعداء النجاح أو التسامح الذي يخالف تحقيق مصالحهم. على رغم من كثرة المنادين بضرورة التسامح وتبني روح المحبة والتكامل في فكرة البناء والنجاح وترسيخها لبناء مجتمعات متماسكة، خشية من أن تصبح القيم الإنسانية الجميلة والبناءة تفر من الإنسان في ظل تنامي شحنات دافعة للكراهية.
من هنا تبرز أهمية التسامح كعامل إنساني يستحق البحث والمتابعة، لانه بتعميق مفهوم التسامح بين الأفراد أولاً يصبح هناك ود ويشرق الأمل في حياة الإنسان فيصبح أكثر إبداعاً ورقياً ، لذلك حرصت الأمم المتحدة على تبني مفهوم التسامح وتخصيص يوم من كل عام، للتذكير بأهميته من خلال دعوة العالم لإحياء مفاهيمه، كونها تدرك أهمية دورها كمؤسسة دولية في تنمية الوعي الإنساني، خاصة في ظل التوجه لدى المزاج العام الدولي لترسيخ مفاهيم التسامح بين البشر، التي باتت تتحول تحولاً عميقاً في كل أرجاء العالم من جرّاء تسارع العولمة والإنفتاح والتطور التكنولوجي.
وهذا الأمر يتيح الكثير من الفرص لإقامة الحوار بين الثقافات وتعزيز فكرة التواصل الحضاري الذي يخلق ثقافة جامعة من التسامح، وذلك من خلال تبادل الآراء بين الدول والمجتمعات وحتى الأفراد الذين يتوجب عليهم عدم المكابرة في تعميق الأزمات النفسية التي تنتج عن الإختلاف في الرؤى ولا ينجم عنها سوى المزيد من الأحقاد والكراهية والجنوح للعدوانية، وذلك بسبب مواجهتهم تحديات تراكمية تتفاقم بسبب شعورهم باللامساواة والفقر واستمرار النزاعات ونزوح البشر وتصاعد سياسات الانغلاق وتبني لغة خطابات الانقسام الفاشلة والخاطئة.
هذا بات واضحاً نتيجة الإنغلاق الثقافي والفكري ورفض التنوع بذريعة أنه مصدر ضعف لدى بعض الشعوب التي تتمترس وراء قيم وعادات وتقاليد مغلقة ورافضة للتجديد في كثير من الأحيان ، وهذا لا يغفل حقيقة المفهوم الخاطئ للتفسيرات الدينية في كثير من المواطن التي تحتاج إلى مرونة إنسانية عالية تعتمد روح الإبداع كأساس في التعاطي مع التجديد بدون المساس بالقيم والمثل الموروثة، عند الأخذ بعين الإعتبار أن جميع الديانات السماوية تدعو في جوهرها إلى بث روح التسامح ليكوناً عنوان للتعايش الإنساني وصمام أمان للبشرية .
بقلم/ م. زهير الشاعر