ليس دفاعاً عن اميل حبيبي : من المستفيد من نبش التاريخ ..؟!

بقلم: شاكر فريد حسن

لم يتسن لي مشاهدة البرنامج الذي أعدته وبثته فضائية " الميادين " عن الكاتب والروائي والصحفي والقائد والمناضل الشيوعي الكبير المعروف الراحل ، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ، اميل حبيبي ، هذا البرنامج الذي أثار الجدل والسجال واللغط والتجريح ، ولكنني قرأت عددا

 من التعليقات والتعقيبات والكتابات التي تطرقت للفيلم وما طرح من آراء حول مواقف وممارسات اميل حبيبي .

وهذه ليست المرة الأولى التي ينبش فيها القومجيون والمزايدون والمغامرون والحاقدون التاريخ ، ويعودون بنا القهقرى الى الوراء والماضي البعيد السحيق ، وينهشون  لحم اميل حبيبي و " تخوينه " والافتراء عليه وتجريحه وهو في القبر ، وهو الانسان المكافح والمنافح عن قضية شعبه وقضايا واجندة شعبه المتعددة ، الذي ارتبط بتاريخ الحزب الشيوعي والحركة الشيوعية والوطنية ونضال عصبة التحرر الوطني ومسيرة وكفاح جماهيرنا العربية الفلسطينية لاجل البقاء والانزراع في الوطن والارض والتراب وصيانة الهوية والتراث .

اميل حبيبي شخصية مشاكسة واستثنائية واشكالية مثيرة للجدل ، وهو ككل انسان يخطىء ويصيب ، وليس منزهاً ومعصوماً عن الخطأ ، وليس بقرة مقدسة فوق النقد ، فالانتقاد مطلوب وحيوي وهو اساس كل المجتمعات المدنية العصرية والحضارية ، التي تسعى الى التطور وترسيخ التعددية ومفاهيم الديمقراطية وارساء الحوارات والسجالات البناءة الهادفة وصولاً للحقيقة ، لكن ما يجري من توجيه اتهامات باطلة وافتراءات وتجريحات ومهاترات ضد اميل حبيبي بعد عشرين عاماً على رحيله ووفاته هو امر مرفوض وفتح لجراح قديمة ولصفحات طويت من زمن بعيد ، وغمامة سوداء مرت في سماء حياتنا السياسية الحالكة المعتمة .

وكانت الحركة التقدمية من قبل ، وعبر صحيفتها التي اصدرتها في الناصرة نبشت الماضي والتاريخ وفتحت النيران على اميل حبيبي وهو حي ، والصقت به تهمة صفقة السلاح التشيكي ، وهي التهمة الخطيرة التي طاردته وازعجته،  واول من الصقها به هو الشاعر راشد حسين عندما كان يعمل محرراً في صحيفة حزب مبام الصهيوني " الفجر " حين تفجرت الخلافات بين الشيوعيين وعبد الناصر والقوميين العرب .

وهنا لست بصدد الدفاع عن اميل حبيبي ، فلو كان على قيد الحياة لاسكت واخرس كل الاقلام وكل المزايدين والمتطاولين على التاريخ والمشوهين له بصلافته وصلابته واسلوبه الساخر وكتابته الحادة اللاذعة ومفرداته البليغة المستقاة من التراث العربي الأصيل ومن القرآن الكريم الذي قرأه مراراً وتكراراً ، وكان يحض على قراءته والاستفادة منه وهو المسيحي الشيوعي المادي الجدلي لما له من اثراء لغوي وومضات مادية ، ولكن لماذا هذا النبش في التاريخ من جديد والتهجمات على اميل حبيبي الباقي في حيفا وهو يرقد رقدته الأبدية في ضريحه ، ولا يمكنه الرد على كل المفترين والمتطاولين .

ولا شك ان المستفيد الوحيد من اثارة التهم التي وجهت له والمغالطات ضده ، هو المؤسسة الصهيونية التي تريد تفتيتنا وتجزئتنا والهائنا في نقاشات سفسطائية لا تغني ولا تسمن من جوع .

لقد رد اميل حبيبي على التهمة الموجهة له بخصوص صفقة الاسلحة التشيكية ، التي تتلخص انه ارسل في أوج احتدام المعارك في فلسطين بين القوات العربية والقوات اليهودية ضمن بعثة مع شموئيل ميكونيس الى تشكوسلوفاكيا لشراء أسلحة للقوات اليهودية ، وهي تهمة اثيرت كثيراً من قبل أعداء وخصوم الحزب الشيوعي ، وخاصة في مواسم الانتخابات للكنيست ، وفي مناخ التوترات والخلافات السياسية مع الحزب الشيوعي ، وذلك في مقال مطول نشرته الاتحاد في ١٨/ ١٠/ ١٩٨٤ رداً على ما نشرته " تضامن " الحركة التقدمية في عددها الصادر بتاريخ ١٤/ ١٠/ ١٩٨٤ ، وكانت الاتحاد اعادت نشر مقال اميل حبيبي الذي ينفي ويفند فيه كل هذه القصة بقوله : " أنا لم أسافر مع المذكور ميكونيس في ٨ آذار ١٩٤٨ الى بلغراد أو الى غيرها ، لا في ذلك الزمن ولا في غيره قبل قيام دولة اسرائيل وأنا لم التق بقادة سوفيتيين ولم ازر الاتحاد السوفييتي الا ابتداءً من العام ١٩٥٦، وكنت سافرت الى بلغراد مبعوثاً من قبل عصبة التحرر الوطني ، وكنت سافرت لوحدي ، والتقيت ميكونيس في بلغراد ، وكان يأمل توسط الرفاق هناك باعادة اللحمة بين الشيوعيين في البلاد ، ولكن لم يتم ذلك ، ولم يجر بحث أمر السلاح وما شابه " .

ولكن في حقيقة الامر ان اميل حبيبي هو مثقف اشكالي كان صاحب السلطة والقول الفصل واللسان الحاد الجارح كحد السيف ، وقد تميز بالسخرية ، وكان يبت في المواقف الصعبة ورأيه هو المقبول في اكثر الحالات والمتفق عليه ولا يقبل الا بذلك ، وحضوره وهيبته كان يفرض الالتزام من الجميع .

وكان لاميل حبيبي على امتداد السنوات الحاسمة في تاريخ شعبنا وجماهيرنا الفلسطينية الأثر الكبير والبالغ والدور الطليعي الهام في بلورة الوعي السياسي والايديولوجي والثقافي والاجتماعي ، ومن خلال موقعه القيادي في الحزب كان القائد والمنظر والمفكر الموجه لجماهيرنا التي بقيت وصمدت وتشبثت بارضها ووطنها وجذورها وزيتونها ، والأيام التي اعقبت النكبة الفلسطينية وفرض الحكم العسكري على جماهيرنا العربية هي السنوات المثيرة والمميزة والصعبة في مسيرة نضال الحزب الشيوعي وكفاحه السياسي ، وفي مسيرة اميل حبيبي خاصة ، وبسبب هذا الموقع القيادي فرض نفسه أن يكون الموجه الفكري والثقافي والأدبي من خلال الصحف والدوريات الشيوعية " الاتحاد " و" الغد " و" الجديد " و" المهماز " و" الدرب " ، مؤكداً على أن الأدب الذي يجب على المبدع انتاجه أن يكون انسانياً تقدمياً واشتراكياً في مضمونه وقومياً في شكله .

وهو روائي مبدع تجلى الابداع الحقيقي في روايته الشهيرة " المتشائل " التي اثارت النقاد والدارسين والباحثين وكتبت عنها عشرات الدراسات والمقالات والتعليقات ، واعيد طباعتها مرات عدة في الاقطار العربية .

وكانت مقالات اميل حبيبي الاسبوعية  في " الاتحاد " التي كان يوقعها تحت اسم جهينة زاداً فكرياً ومرشداً ودليلاً سياسياً واجتماعياً وفكرياً للمستقبل والتعامل في الحياة العامة والسياسية ، وكانت خطاباته السياسية في المهرجانات والاجتماعات الشعبية والمظاهرات الكفاحية تشد الناس وتثيرهم وتحرضهم على الكفاح بمضمونها وقوة حجتها ،

وباسلوبه المقنع وقدرته الخطابية وذكائه الحاد استطاع النفاذ الى قلب وعقل الحاضرين .

وحين منحت وزارة الثقافة الاسرائيلية في العام ١٩٩٢ جائزة الدولة العليا في الأدب " جائزة اسرائيل " اثارت هذه الجائزة عواصف كثيرة وجدلاً وخلافاً واسعاً بين الاوساط السياسية والفكرية والثقافية والادبية في الداخل والخارج ، وتعرض بسببها الى الانتقادات اللاذعة من أكثر الناس قرباً والفة له ، من الشخصيات والنخب الثقافية وعلى راسها سميح القاسم ومحمود درويش واحمد حسين واحمد دحبور وفيصل دراج وفخري قعوار ويوسف أبو لوز ومحمد علي طه ويوسف القعيد وغيرهم الكثير .

ما يهمنا بالاساس هو المكانة الحزبية والشعبية والفكرية والاجتماعية والأدبية التي تمتع بها اميل حبيبي ومنحته القوة لان يكتب ويقول ما يشاء ، ولعل القرار الحاسم الذي اتخذه الحزب هو فصله من تحرير صحيفة " الاتحاد " سنة ١٩٨٩ وفصله أو استقالته من كل مهماته وعضويته الحزبية ، ما جعله يتحول الى خصم قوي لقيادة الحزب التي اتهمها بالدكتاتورية والستالينية ، لتنتهي حقبة زمنية طويلة الامد ممتدة في تاريخ ومسيرة اميل حبيبي واعلانه التفرغ للابداع الادبي حتى وفاته ، واصداره مجلة " مشارف " الثقافية - الفكرية التي حققت انتشاراً وتقديراً واسعين بين المبدعين الفلسطينيين والعرب في البلاد والخارج .

وتبقى الحقيقة أن اميل حبيبي رغم كل التهم والافتراءات الموجهة ضده ، يظل قائداً جماهيرياً وخطيباً قديراً وسياسياً داهية وصحفياً لامعاً ومناضلاً بارزاً وروائيا متميزاً وقصصياً مبدعاً ورائداً ومؤسساً لادب السخرية في ثقافتنا الفلسطينية ، فلتكف الاقلام عن النهش في اللحم الميت ، وعاشت ذكرى الاميل خالدة ، وكما عنونت " الاتحاد " كلمتها الوداعية غداة وفاته " من الورد الى الورد يعود " .

 

بقلم : شاكر فريد حسن