لم أتفاجأ في أن يقدم الرئيس ترامب على أن يؤخر التوقيع على قرار رفض نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، بل قد يوقع فعلاً قرار نقلها إلى القدس، كما وعدَّ أثناء حملته الإنتخابية، وهنا يؤكد الرئيس ترامب فجاجته التي اتسم بها أثناء حملته الإنتخابية، دون أن يدرك المخاطر المترتبة على مثل هذا الإجراء، فهو بحاجة ماسة لإسترضاء اللوبي الصهيوني ليواصل دعمه له في محنته التي تلاحقه منذ أن تسلم إدارة البيت الأبيض، خصوصاً أن هناك مصادر دبلوماسية غربية قد أكدت همساً أن التحقيقات القضائية قد تبدأ مَعهُ قبيل أعياد رأس السنة الميلادية بشأن التدخلات الروسية في الإنتخابات التي أوصلته إلى سدة الرئاسة، الرئيس ترامب لا يهمه الآن سوى أن يخرج من هذه التحقيقات سالماً وأن يضمن إستمراره في الرئاسة إلى نهاية ولايته وأن يكمل أربع سنوات كاملة في رئاسة الولايات المتحدة، كما أن رئيس وزراء الكيان الصهيوني الذي تلاحقه هو الآخر التحقيقات القضائية بشأن فساده، والتي قد تؤدي به هو الآخر إلى الإستقالة وإجراء إنتخابات مبكرة، فكلاهما ترامب ونتنياهو بحاجة لحدث هام ودراماتيكي يقدمان عليه ليخدمهما في مواجهة إحتمالات العزل كي يستثمرا مثل هذا الحدث في إضعاف إحتمالات العزل وخلق شعبية لهما في الأوساط الجماهيرية اليمينية تؤمن لهما شبكة نجاة من هذه التحقيقات الجارية أو المحتملة ...!
إن إقدام الإدارة الأمريكية على مثل هذا الإجراء سوف يحسم كل أمل بإنطلاق مفاوضات فلسطينية إسرائيلية برعاية الولايات المتحدة لأنها تكون قد أصبحت طرفاً مباشراً في مواجهة الشعب الفلسطيني وقيادته بل في مواجهة كافة الدول العربية والإسلامية وفي مواجهة الشرعية الدولية وقراراتها السابقة التي تؤكد أن القدس أراضٍ عربية فلسطينية محتلة ينطبق عليها القرار 242 وأيضاً بقية سلسلة القرارات الأممية التي أدانت ورفضت إجراءات وقرارات سلطات الإحتلال الإسرائيلية لضم القدس العربية إليها وإعتبارها عاصمة لكيانها الغاصب، إن مثل هذا الإجراء سوف يدمر آخر أمل بإقرار تسوية واقعية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وسيفتح المجال لإنطلاق دورة عنف جديدة سيكون ضحاياها من الطرفين لا محالة، لما تمثله القدس من قضية عضوية وجوهرية ومحورية في الصراع، لن يتخلى الفلسطينيون ومعهم كافة الدول العربية والإسلامية عن إعتبار القدس جزء لا يتجزأ من الأراضي المحتلة عام 1967م ويتوجب في أي تسوية إخلاءها شأنها شأن بقية الأراضي المحتلة التي ينطبق عليها القرار 242 لعام 1967م والذي يمثل أساس أية عملية تفاوضية أو أية تسوية يمكن لها أن تتحقق بين الجانبين، سوف لن يقتصر العنف في حالة إندلاعه على مدينة القدس ومحيطها، وإنما سوف يمتد إلى كافة الأراضي المحتلة، وقد تضطر منظمة التحرير الفلسطينية لإتخاذ إجراءات ومواقف حاسمة بشأن العلاقة مع الولايات المتحدة ومع سلطات الإحتلال الإسرائيلية، وفي مقدمة مثل هذه الإجراءات وقف الإتصالات مع الإدارة الأمريكية وإعتبارها ليست ذات علاقة بالعملية التفاوضية السلمية وإنما هي طرف مباشر في الصراع، كما أن العلاقة مع المحتل الإسرائيلي سوف تأخذ شكلاً جديداً، أقلها وقف كافة الإتصالات الأمنية، وكذلك سحب الإعتراف به، والإعلان من طرف واحد بإعتبار فلسطين دولة تحت الإحتلال وفق القرار الأممي 69/67 القاضي بالإعتراف بدولة فلسطين على حدود الأراضي المحتلة عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية.
إن هذه الإحتمالات المتوقعة، والتطورات التي قد تترتب عليه، تقتضي تحركاً فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً جاداً وسريعاً لمواجهة هذه السياسات والممارسات الدبلوماية الفجة والمتهورة التي قد يقدم عليها الرئيس ترامب دون مراعاة لعواقبها الوخيمة على الأمن والسلم في المنطقة وفي العالم، في الوقت الذي تتوحد فيه كافة الجهود العربية والإقليمية والدولية لمواجهة ظاهرة الإرهاب، فإن مثل هذه السياسات الأمريكية الإسرائيلية تمثل أعتى صور إرهاب الدولة المنظم الذي يستهدف حقوق الآخرين، كما تمثل موئلاً مهماً سيتغذى عليه الإرهاب الذي يضرب خبط عشواء في المنطقة العربية، ويدعم مواقف التطرف والتدخلات الإقليمية والدولية المختلفة في المنطقة، ويكرس سياسة عدم الإستقرار على مستوى المنطقة.
إننا نطمح أن يتحرك الموقف العربي والدولي سريعاً وعاجلاً على المستوى الرسمي والشعبي لمواجهة هذه المواقف وهذه السياسات الفجة والمستهترة بالحقوق الفلسطينية والعربية في القدس وفي فلسطين، كما نأمل أن تتحرك قوى الرأي العام الأمريكي، والشعب الأمريكي المتعدد الأعراق والثقافات والديانات، والذي يضرب نموذجاً مهماً في بناء المجتمع والدولة، على أساس هذا التنوع الثقافي والعرقي والعقائدي، وأن يوقف جموح الإدارة الأمريكية وإنحيازها لصالح الكيان الصهيوني، لما لذلك من خطورة على مصالح الولايات المتحدة أولاً، وعلى دورها في رعاية الأمن والسلام العالمي، وعلى إستعادة الأمن والإستقرار في منطقة الشرق الأوسط، ويدمر كل أمل بالوصول إلى تسوية واقعية تؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران للعام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية ...
وهنا نؤكد أن السلام يبدأ من القدس ... ولا سلام دون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس