يجهل كثيرون أهمية القدس ومركزيتها في الصراع، كما يجهله كثيرون من السياسيون الهواة، الذين لم يدرسوا التاريخ السياسي للصراعات سواء في منطقتنا أو في غيرها، كي يقفوا على طبيعة التسويات التي شهدها تاريخ الصراعات المختلفة عبر التاريخ، إن إهمال العناصر الموضوعية والجوهرية في أية تسوية لأي صراع كان يعني فشل تلك التسويات وإخفاقها ولو مرحلياً، وهذا ينطبق على الصراع العربي الإسرائيلي وجوهره القضية الفلسطينية، فلمن يجهل أهمية القدس ومركزيتها في القضية الفلسطينية خاصة وفي إطار الصراع العربي الإسرائيلي عامة، عليه أن يدرس التاريخ السياسي للصراعات التي شهدتها المنطقة قديماً وحديثاً، سيدرك تمام الإدراك أن القدس تحتل مكانة القلب في الحروب الإستعمارية الصليبية التي شهدتها منطقتنا العربية في القرنين الحادي والثاني عشر، كما هو اليوم مع الهجمة الإستعمارية التي تشهدها المنطقة منذ بدايات القرن العشرين، ورغم إنقشاع الإستعمار عن كافة الأراضي العربية بإستثناء إستمرار إغتصاب فلسطين من قبل الكيان الصهيوني بدعم القوى الإستعمارية التقليدية والبائدة والحديثة والتي تقف اليوم على رأسها اليوم الولايات المتحدة، فلم تشهد منطقتنا العربية الهدوء والأمن والإستقرار بسبب إستمرار هذا الإغتصاب والإحتلال لفلسطين وعاصمتها القدس، لما تمثله فلسطين أولا إتجاه نفسها وثانياً إتجاه المنطقة وشعوبها من نواحي إستراتيجية وثقافية وعقائدية ووجدانية، وبالتالي فإن الحديث عن إقرار تسويات تستثني القدس منها أو تهضم حق الفلسطينيين فيها كعاصمة لكيانهم المنشود لن يكتب له الحياة على الإطلاق لأنه لو قبل بذلك الفلسطينيون سوف لن تقبل به شعوب المنطقة العربية مسلميها ومسيحييها على السواء، وفي ظل المناخات السائدة في المنطقة العربية وما يجري فيها وعليها من صراعات داخلية وإقليمية ودولية .. يعتقد البعض أنه من الممكن تمرير تسويات أو حلول للصراع العربي الإسرائيلي تستثنى منه القدس، بل إقرار القدس كعاصمة للكيان الصهيوني، والتعامل مع الأمر الواقع الذي تفرضه دولة الكيان الصهيوني منذ إحتلالها للمدينة المقدسة في عدوان 4 حزيران 1967م، وإختراع قدس جديد للفلسطينيين في بلدة أبو ديس إحدى بلدات منطقة القدس، فالموقف الفلسطيني واضح كل الوضوح من مثل هكذا توجهات دولية صهيونية، وهو الرفض المطلق فبلدة أبو ديس ليست القدس وإنما هي جزء من محيط القدس، ولا حل ولا تسوية دون إنهاء الإحتلال لمدينة القدس المحتلة عام 1967م بكامل مساحتها وضواحيها وإعتمادها عاصمة للدولة الفلسطينية المنشودة والتي إعتمدت في القرار الأممي 69/67 في 29/11/2012م الذي اعتبرت على أساسه دولة فلسطين عضواً غير كامل العضوية في الأمم المتحدة، والذي أهلها أن تكون اليوم عضواً كاملاً العضوية في جميع المنظمات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة من جهة، وإعتراف أكثر من مئة وثلاثة وأربعين دولة من الدول الأعضاء بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس العربية المحتلة عام 1967.
إن محاولة الكيان الصهيوني وبدعم من الولايات المتحدة حالياً لتهميش موضوع القدس وأهميتها ومركزيتها في أي تسوية منشودة ستبوء بالفشل ولن تجد أية موافقة من أي جهة كانت عربية أو دولية على السواء، رغم ما أشرنا إليه من ظروف إستثنائية صعبة تمرُّ بها الدول والشعوب العربية جراء التدخلات السافرة في شؤونها الداخلية والإرهاب الذي يعصف ببعضها إلا أن الموقف العربي ثابت وملتزم بموقف الحد الأدنى والمتمثل في مبادرة السلام العربية التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام 2002م، والتي هي بالأساس كانت مبادرة المرحوم الملك عبد الله بن عبد العزيز، وبعد إقرارها من القمة تحولت إلى مبادرة عربية، وهنا وفي هذا الشأن لابد من التنويه إلى ثبات موقف المملكة العربية السعودية ملكاً وحكومة وشعباً من هذه المبادرة ومن القضية الفلسطينية ومن موضوع القدس ومركزيتها في أية تسوية، وما يشاع من تسريبات أو تقولات من هنا أو هناك عن إمكانية التراجع عن هذه المواقف ما هي إلا محض إفتراء وكذب، يستهدف أولا تشويه مواقف المملكة وقيادتها، التي بذلت ولا زالت تبذل الجهود الكبيرة من أجل إحقاق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في وطنه فلسطين وإقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشريف، وبحكم معرفتي ومتابعتي للسياسة السعودية على مدى أربعة عقود خلت فإنني أؤكد على ثبات مواقف المملكة من هذه المسألة، وهنا أسوق وأذكر بموقف واضح ومحدد لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز يعود إلى يوم 05/09/1993م في لقاء ضمني معه في مكتبه في قصر الحكم في الرياض للحديث عن إتفاقات أوسلو التي كان مزمعاً التوقيع عليها بين م.ت.ف والجانب الإسرائيلي في البيت الأبيض يوم 13/09/1993م، حينها قدمت إليه عرضاً موجزاً عن تلك الإتفاقات والظروف والأسباب التي قادت إليها، وما يمكن أن يترتب على ذلك، وتوقفت عند القضايا الجوهرية والتي أشير إليها في تلك الإتفاقات بقضايا الوضع النهائي، وطبعاً في مقدمتها موضوع القدس، فكان تعليقه على ذلك التالي (أخ عبد الرحيم نحن في المملكة العربية السعودية نقيم دولتنا على أساس ديني، والقدس جزء من العقيدة، وبالتالي لا أتصور ولا أتخيل أن يكون هناك أي شكل من أشكال العلاقة مع الكيان الصهيوني أو أن يكون له تمثيل في الرياض والقدس محتلة) هذا الموقف وهذه الرؤيا لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز هي رؤية جميع السعوديين حكاماً ومحكومين ومهما تتعرض إليه المملكة من ضغوط مختلفة، سوف لن يتغير هذا الموقف، وسيكون موقفها إلى جانب الشعب الفلسطيني وقيادته، ومعها كافة الأشقاء من الدول العربية، وهي تلعب اليوم دوراً رائداً على المستوى العربي في الدفاع عن نفسها أولاً وفي الدفاع عن القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، والملك سلمان شخصياً الذي إندمج منذ أيام شبابه الأولى في دعم الشعب الفلسطيني والتفاعل مع قضيته، لن يتخلى عن هذا الدور المشرف له وللمملكة العربية السعودية، وبحكم معرفتي الشخصية به على مدى ثلاثة عقود متواصلة وقد تعلمت منه الكثير في الإدارة والسياسة، ومواقفه هذه ومواقف المملكة ملكا وحكومة وشعباً كانت وستبقى محل تقدير الشعب الفلسطيني وقياداته على الدوام، وبهذه المناسبة أحذر من الإنسياق وراء الحملة التي تشنها القوى المعادية، والتي تستهدف النيل من هذه المواقف الثابتة للمملكة، بل تتعدى ذلك في إختلاق فتنة بين الشعب الفلسطيني والشعب السعودي من خلال بث الإشاعات المغرضة والتي وصلت في سفالتها وسقوطها إلى بث يوتيوبات منسوبة لسعوديين وأخرى لفلسطينيين تكيل الشتائم والسباب التي يندى لها الجبين والتي لا يمكن أن تصدر عن أي إنسان سوي سواء كان سعودياً أو فلسطينياً، وبالتالي يجب محاصرة مثل هذه التسجيلات التي تستغل وسائل الإعلام التي وفرتها وسائل السوشل ميديا من تويتر إلى فيس بوك إلى يوتيوبات، فالقضية الفلسطينية وفي مقدمتها القدس تسكن في قلب كل سعودي كما تسكن في قلب كل عربي مسلم أو مسيحي على السواء، كما أن المملكة العربية السعودية هي مهوى أفئدة وقلوب أبناء الشعب الفلسطيني وكل مسلم على وجه الأرض، لها مكانتها وإحترامها وتقديرها، وما يضرها يضرنا وما يسعدها يسعدنا، فهل يدرك الجميع من قوى رسمية وشعبية أهمية القدس ومركزيتها في القضية الفلسطينية وفي الصراع العربي الإسرائيلي، وهل تدرك ذلك رئاسة الولايات المتحدة التي تبشر بتسوية إقليمية واعدة لهذه المكانة للقدس، وبالتالي تصحح أفكارها، وتعطي القدس مكانتها حتى يكتب لتلك الجهود النجاح والقبول سواء من الفلسطينيين أو أشقائهم العرب وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية التي أصدرت التحذير تلو الآخر من المس بهذه المكانة، الساعات والأيام والأسابيع القليلة القادمة سوف تكشف عن المستور ؟!.
وإن غداً لناظره لقريب.
بقلم/ د. عبد الرحيم محمود جاموس