كثيرة هي المقالات التي تحدثت فيها عن المخاطر التي تحيق بمدينة القدس وعملية التهويد التي تتعرض لها ، وتحدثت بوضوح عن الدور المتواطئ للقيادة الفلسطينية التي سهلت تمرير هذا الأمر بجدارة، حيث أثقلت كاهل الشعب الفلسطيني خلال السنوات العشر الماضية كمقدمة مهمة لتسهيل تمريره، وهي التي كان يفترس الاستيطان أراضيها من كل جوانبها ، حتى أحيطت القدس بمستوطنات مُحْكَمة عزلتها بالكامل عن محيطها الفلسطيني.
كيف لا ، وكل الدلائل تشير إلى أن هذه القيادة المارقة كانت متواطئة بالكامل، في تغيير وضعها من مدينة سلام، تحظى بمكانة خاصة لدى كل أصحاب الديانات السماوية، ويتعايش فيها اليهودي والمسيحي والمسلم جنباً إلى جنب، لا بل تستهوي زيارتها ، كل هؤلاء من محبي الحياة من جميع أنحاء الدنيا، ليتنعموا أجوائها الروحية والدينية التي يحتاجون إليها ، فيشعرون بالطمأنينة عندما يحطون رحالهم فيها، بالرغم من سمة بشعة كانت دائماً تغطي معالمها، وهي صنيعة وجود قوات الاحتلال الذي كان ولا زال يصادر حريتها منذ يوم إعادة احتلالها.
نعم ، إن القيادة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس عملت كل ما بوسعها لتسهيل أمر مصادرة هويتها ، ذلك حينما جوع عن قصد أبناء شعب كان بإمكانه أن يدافع عنها ، وقسمهم واضعفهم وأثقل كاهلهم ، فلم يعد بمقدورهم الدفاع عن هوية مدينتهم التي تمثل عاصمة دولتهم التي يحلمون بها ، وهي مدينة السلام المقدسة لديهم، أو الاحتفاظ بها.
نعم ، إن القيادة الفلسطينية بقيادة محمود عباس هي من أضاعتها وأهدرت كرامتها ، وجعلتها هينة على من كان يريد أن يغتصبها ويصادر هويتها ويلغي معالمها المتسامحة، حتى تصبح بلون واحد يحمل هوية واحدة، هي ليست هويتها التاريخية ، وبدلاً من أن كانت حزينة لأنها محتلة منذ عام 1967 ، أصبحت اليوم مكسورة ، لأنها باتت مغتصبة وتحمل هوية غير هويتها، ولم يعد بمقدور أحدٍ حمايتها ، لا بل لربما تصبح مدينة عنف وكراهية بدل من سماتها المعروفة عنها كمدينة سلام وتعايش وطمأنينة.
هذا يجعلنا نتأمل الطريقة التمثيلية التي أبدعت فيها القيادة الفلسطينية المتواطئة، وهي تعبر عن رفضها للقرار الأمريكي الذي صدر قبل يومين، وذلك بالاعتراف بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل، حيث سيتم نقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية من تل أبيب إليها ، فور الانتهاء من الإعداد اللوجستي والفني والتقني لذلك، حيث أن هذا الأمر لم يكن وليد اللحظة، بل كان معروفاً للجميع ، وكان الأجدر بهذه القيادة الفلسطينية ، أن تكون مستعدة مبكراً من خلال بذل كل الجهود المنطقية التي تتعاطى مع متطلبات هذا الأمر دبلوماسياً وسياسياً ووطنياً بكل مسؤولية وطنية ، لا اللجوء لمعاقبة الشعب وتجويعه وقمعه من أجل تركيعه وضمان قبوله بمثل هذا الأمر الذي يخالف قناعاته وإيمانه بقضيته. هذا عوضاً عن أنها تجاهلت بأن هذا الأمر لربما يخلق مشاكل أمنية سواء في الحاضر أو مستقبلاً للأجيال القادمة لا أحد يعرف مداها ، وكيف سيكون شكلها، وهنا الخطر الحقيقي الذي لربما تتسع رقعته ومن ثم تزداد حدة العنف في المنطقة .
هذا الأمر يشير إلى أن قيادة كهذه لم تكن على قدر من المسؤولية في استيعابه وشرحه بوضوح للأطراف المعنية ، بل كانت مشغولة بمنافعها الذاتية، لذلك يبدو بأنها كانت تتبرع بكيفية قيامها بواجبها من أجل حسم موقع هذه المدينة ومكانتها لصالح الطرف المحتل، وبضمان حصر الاحتجاج على ذلك من أبناء شعبها واحتوائه وتذويبه، لأنها عملت كل ما بوسعها لضمان أن هذا الشعب لم يعد لديه القدرة والإمكانية على تحمل المزيد من الأعباء الحياتية .
هذا جاء بعد تقديم 39 قراراً دولياً أكدت جميعها على مكانة القدس وضرورة عدم المساس بها، وكان آخرها قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 2334 الذي تبناه هذا المجلس في يوم 23 ديسمبر 2016، حيث حث في بنوده على وضع نهاية للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وطالب إسرائيل بوقف الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وعدم شرعية إنشاء إسرائيل للمستوطنات في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 بما فيها القدس الشرقية أيضاً.
والجدير ذكره هنا أن مصر كانت قد تقدمت بمشروع هذا القرار يوم 22 ديسمبر قبل أن تسحبه، ثم أعيد طرح مشروع القرار يوم 23 ديسمبر عن طريق دول نيوزيلاند والسنغال وفنزويلا وماليزيا، وقد حاز حينها على تأييد 14 عضوًا، فيما امتنعت فقط الولايات المتحدة عن التصويت.
هذا القرار كان قراراً تاريخيًّا نظراً لأن معظم مشاريع القرارات ضد إسرائيل كانت تُرْفَض باستخدام حق النقض الفيتو، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام حق النقض الفيتو ضد معظم قرارات مجلس الأمن المتعلقة بفلسطين وإسرائيل ، وذلك من أجل حماية حليفتها إسرائيل من الالتزامات الأخلاقية والقانونية المترتبة على مثل هذه القرارات، وكانت هذه هي المرة الأولى التي لا تلجأ فيها الولايات المتحدة لهذا الحق، إدراكاً منها بحساسية هذا الأمر وتأثيره على السلم العالمي، مما جعله قراراً سارياً، وبناءاً عليه تم تبني هذا القرار بعد إقراره من غالبية الأعضاء في حينه.
هنا نود الإشارة إلى أنه قبل يومين، كان لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي تواجه تحديات داخلية كبيرة تحتاج فيها إلى مساندة كبيرة من جميع الأطياف السياسية الأمريكية، موقفاً أخر ، حيث تعاملت مع هذا الأمر من منطلق مصالح بلادها ومصلحة بقائها في الحكم، وذلك باتخاذ قرار غير مسبوق وهي تدرك بأن له محاذيره، ولكنها تدرك أيضا بأن العالم العربي بات ضعيفاً ومقسماً ولم يعده لديه القدرة على رفضها.
كما أن الوضع الفلسطيني بات جاهز لتقبل ما كان مستحيل بالأمس حيث أنه مثقل بأعباء الحياة التي فرضتها عليه قيادة فلسطينية يبدو بأنها قامت بواجباتها على أكمل وجه للتمهيد لتمرير ذلك حتى أصبحت الظروف ناضجة ، وقامت بإهداء إسرائيل حليفتها الأساسية، القدس، التي كانت لا تزال محل تفاوض وتمثل مركز الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين ، لتصبح بذلك العاصمة الموحدة لإسرائيل ، التي بات العرب يبحثون عن ودها ويتسابقون من أجل تبادل التكنولوجيا والمعلومات الأمنية وفتح قنوات اتصال معها ، وهي التي باتت تمتلك النفوذ والقوة من خلال مؤيديها في الكونغرس الأمريكي صاحب الكلمة الفصل في استمرار أي إدارة أمريكية.
لذلك فإنني أجد أن الولايات المتحدة الأمريكية اتخذت هذا القرار الذي يتناسب مع مصالحها وهذا لا يعيبها ، كما أنه يبدو بأنها اتخذت مثل هذه الخطوة بعدما تأكدت بأن هناك ضمانات فلسطينية وعربية، بأنه لن يكون هناك أي آثار سلبية جانبية، وستمر هذه الخطوة كغيرها بدون ضجيج مستمر، وإن كان سيرافقها ردات فعل شعبية لربما ينجم عنها ضحايا أبرياء يندفعون للدفاع عن مدينتهم غير مدركين بأن اليوم لم يعد كالأمس، وبأن هناك قيادة فلسطينية قد خذلتهم وباعت أحلامهم وتواطأت في ضياع عاصمة دولتهم الموعودة.
تنويه : علق أحد المسؤولين الفلسطينيين على هذا الأمر بأن القيادة الفلسطينية تدرس إمكانية التقدم بشكوى إلى محكمة الجنايات الدولية وذلك لتخدير الرأي العام الفلسطيني وضمان عدم انتباهه لملاحقتها ومحاكمتها، لأنه يتجاهل بما قاله حقيقة أن لا يجد دولة في العالم بمقدورها محاكمة الولايات المتحدة الأمريكية ، هذا عوضاَ عن أنها دولة عظمى تمتلك حق النقض الفيتو وتمتلك الحق بإبطال أي قرار يستهدفها ، إلا إذا كان هذه المسؤول يعمل من خلال رؤية الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي يجد بأنه غير مستعجل وما وراه شيء، وبإمكانه أن يكرر محاولة الطلب مرات عديدة لحين ضمان القبول ، وفي هذه الحالة نكون قد أسأنا الظن ونقول راحت عليكي يا حزينة ولم تعودي بعد اليوم كما كنتي بريئة ، حيث أن اغتصابك جاء في مشهد علني شهد عليه العالم بما فيه قيادة كنا نظن أن دورها سيجلب الأمل وسيصنع السلام ولم يكن في الحقيقية هو سوى كسر للأحلام وضياع للمستقبل وجلب الجراح والألآم.
ويظل مفتاح الحل لإعادة مكانة القضية الفلسطينية وحشد الموقف العربي والدولي للعمل على إيجاد حل جذري لها ، وهو في ان تأخذ السلطة عدة إجراءات أهمها تقوية الجبهة الداخلية وخلق جسور من الثقة مع الشارع الفلسطيني، وذلك من خلال تحويل الفاسدين الى محاكم فورية وفتح المجال أمام المشاركة الشبابية في صناعة القرار .
كما أنه يجب تحديد موعد ملزم للانتخابات العامة لفرز قيادة جديدة تنبض فيها الدماء الشابة ، وذلك بالتوازي مع تشكيل حكومة وحدة وطنية خالية من اي عناصر عليها شبهات فساد.
ايضاً التوجه بصوت واحد الى المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية للطلب منهما لتحقيق العدالة وتطبيق مسوغات القانون الدولي بمعيار واحد وذلك من خلال منح الشعب الفلسطيني حريته وإنهاء أطول وآخر احتلال في التاريخ المعاصر .
بقلم/ م. زهير الشاعر
كاتب ومحلل سياسي