ترامب يدعو العرب المسلمين إلى الهدوء والتعقل
بكل وقاحةٍ وبجاحةٍ وصفاقةٍ وقلة أدبٍ، وانعدام ذوقٍ وبلادة فكرٍ وسوء خلقٍ، وباستخفافٍ بادي واستهبالٍ ظاهرٍ، أو باستعباطٍ مقصودٍ وغباءٍ متعمد، يطالب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشعوب العربية والإسلامية بالتعقل والهدوء، والكف عن التظاهرات والمسيرات، والامتناع عن الشجب والرفض والاستنكار، والتراجع عن الثورة والغضب، ووقف الحملات التحريضية وتعبئة الجماهير الشعبية، والعودة بالمواطنين إلى الحياة العادية، بعد هالته مشاهد التظاهرات والمسيرات، وصور الرفض والاستنكار، التي عمت جميع العواصم العربية والغربية، ولم تستثن منها العاصمة الأمريكية واشنطن، التي شهدت بدورها مظاهراتٍ واعتصاماتٍ منددة بالقرار، ومتضامنة مع الشعب الفلسطيني، ومؤيدةً حقه في القدس مدينةً وعاصمةً لهم.
دعا ترامب الشعوب العربية والإسلامية إلى تفهم مبرراته والاطمئنان إلى دوافعه، وعدم الشك في نواياه أو الطعن في مقاصده، فهو يتطلع إلى السلام الشامل بين العرب والإسرائيليين، ويريد حلاً نهائياً للقضية الفلسطينية، وأكد أن مساعده كوشنير وآخرون سيقومون في الأيام القليلة القادمة بالكشف عن مشروعه للسلام وتصوره للتسوية في المنطقة، وعندها سيدرك الفلسطينيون أنه لم يخدعهم ولم ينقلب عليهم، ولم يصطف إلى جانب الكيان الصهيوني، ولم يعطهم حقاً ليس لهم، القدس التي هي حقٌ لغيرهم وعاصمةٌ لسواهم، بل إن ما قام به يخدم السلام ويفيد المنطقة ويحقق الأمن والاستقرار لسكانها.
ترامب الذي يعيب على الإدارات الأمريكية السابقة، ويتهمها بالتقصير وسوء الإدارة، والإهمال وعدم المبادرة، لأنها لم تقم بهذه الخطوة السيادية المشروعة منذ سنواتٍ، يريد بكل بساطةٍ ويسرٍ من العرب والمسلمين أن يصدقوه، وأن يسلموا بحسن نيته وصفاء سريرته، وشرعية مقصده وقانونية خطوته، ويتمنى عليهم ألا يتهمونه بسوء القصد وعدوانية القرار، ولا بالانحياز الأعمى إلى الكيان الصهيوني، ولا بالجهل التام بقضايا الشرق الأوسط، ويدعي أنه بخطوته هذه إنما يريد الخير للفلسطينيين والسلام للعرب والاستقرار للمنطقة، وعلى العرب والمسلمين أن يفكروا جلياً في قراره، وأن يدركوا أبعاده، فهو قرارٌ صائبٌ يصب في صلب العملية السلمية ويتناغم معها، ولا يتعارض مع مبادئ السلام، ولا يسبق العملية السلمية، ولا يفرض حلولاً مسبقةً، ولا يستبق بوقائع جديدةٍ يصعب تجاوزها خاصةً إذا تم البناء عليها.
لست أدري هل يكذب علينا هذا الرجل أم يكذب على نفسه، وهو يحاول أن يوهم الآخرين بما يرى ويعتقد، أتراه يصدق نفسه عندما يبرر فعلته النكراء بهذه الأكاذيب الشنيعة، أم أنه يستهزئ بالعرب والمسلمين ويستخف بهم وبعقولهم، ولا يعنيه أمرهم ولا يهتم لشأنهم، ولا يتوقف عند احتجاجهم، ولا يحسب حساباً لمعارضتهم، ولا يأبه بمظاهراتهم واعتصاماتهم، ويريد أن يقنعنا أنه يقف إلى جانبنا، ويساندنا في حقنا، ويحرص على مستقبلنا، ويتطلع إلى السلام من أجلنا، ويفترض فينا البراءة والبساطة بما يكفي لنصدقه، ويريدنا وقد صدقناه أن ندافع عنه ونرد الاتهامات التي تشاع حوله، وأن نبشر بخطته ونبارك قراره.
ألا يدري ترامب أنه بقراره الطائش هذا قد أصاب الأمة العربية والإسلامية في صميم قلبها، واستهدف روحها، وطعنها في أعز مقدساتها، واعتدى على درة مساجدها وعروس مدائنها، وألحق نسبها الشريف بأخس أمةٍ وأحط شعبٍ، ولوث باعترافه المشؤوم شرفها الرفيع، وأهان كرامتها المصونة، وهي العزيزة الكريمة، الأبية الرفيعة النسب العالية المقام، التي تمتد جذورها في عمق التاريخ، وترسم صفحاتها الناصعة على هام الزمان آياتٍ من العز والفخار، يتشرف بها المسلمون، ويفخر بانتسابهم إليها العربُ، إذ كانت لهم في زمانهم عاصمةً ومنارةً، بها يُعرفون وإليها ينتسبون، وبمنارة مساجدها يهتدون.
كيف يمكن لهذا الدعيِّ الغبي أن يطلب من العرب والمسلمين أن يتقبلوا هذه الجريمة، وأن يغضوا الطرف عنها، وألا يتهموا مرتكبها بالجنون والسفه، اللهم إلا إذا كان قد اتفق مع البعض، وتآمر مع آخرين، وعقد النية بالتعاون مع بعض الخائنين للأمانة، المفرطين في الوعد، والزاهدين في القدس، فاطمئن إلى أن قراره سيمضي، وأن مفاعليه ستتحقق، وأن غضب الشارع العربي والإسلامي بفضل المتعاونين معه سيهدأ، وستخبو ثورته وستتراجع انتفاضته، وسيسلم بعجزه عن مواجهته، وعدم القدرة على منعه، وسيقبل في نهاية المطاف بالأمر الواقع، خاصةً إذا قبلت بالأمر الحكوماتُ، ووافق عليه الملوكُ والرؤساءُ والقادةُ والأمراءُ.
أخطأ الرئيس الأمريكي بالتأكيد قراءة الشراع العربي والإسلامي، وخانه معاونوه ومستشاروه عندما لم يخبروه أن شعوب هذه الأمة حية، وأنها حرة أبية عزيزة، لا تنام على الضيم، ولا تسكت على الذل، ولا يطول مقامها على الخسف، ولا تقبل المساس بدينها، ولا الاعتداء على مقدساتها، أو الإساءة إلى رموزها وتدنيس مساجدها، فكيف إذا جردها عدوها من مسجدها الأقصى، وحرمها من مدينتها المقدسة، حينها لن تستكين الشعوب ولن تهدأ، ولن تصغي السمع لأحد ولن تخضع، ولن تترك العدو ينعم بالمنحة، ولا أمريكا بنشوة القرار، لكن أعداء الأمة أغبياء لا يتعلمون، وسفهاء لا يعقلون، وقد أصابهم مسٌ من الجنون فخرفوا، والكثير من الغرور فأخطأوا، وبعض الغطرسة فظلموا، فهل توقظهم الأحداث، وتنبههم من غفلتهم ردةُ فعل الشعوب الغاضبة وثورتها النابضة.
يتبع ....
بقلم/ د. مصطفى اللداوي