المسلسل الإستعماري الصهيوني للإستيلاء على القدس وطمس هويتها ...!!

بقلم: عبد الرحيم محمود جاموس

إن المتابع لتطورات الصراع العربي الإسرائيلي لم يتفاجأ بقرار الرئيس دونالد ترامب يوم 06/12/2017م بإعترافه بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني وإعتماده قرار نقل سفارة بلاده إليها، رغم إدراكه لخطورة هذا القرار والإعلان وما يمكن أن يحدثه من رد فعل على كل المستويات المحلية والدولية، وما يخلفه من أحداث دامية، إضافة إلى تدمير كل الجهود الدولية لإقرار السلام في المنطقة.

ومن أجل إدراك حقيقة الأمر، وما تمثله القدس كحلقة مركزية في الصراع، وكي يقف الجميع على أبعاد هذا الإستهداف المبرمج لهوية القدس ومقدساتها فإننا نعرض هنا له في سياق بعده التاريخي فقد فتحت القدس في السنة الخامسة عشر للهجرة والموافق للعام 636م في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه وكان هذا نهاية لحكم الرومان لبلاد الشام ومن بعدها مصر وشمال إفريقيا وعنواناً لنهوض الدولة العربية الإسلامية، دولة الخلافة الراشدة ومن بعدها، الحكم الأموي، والحكم العباسي، فالحكم العثماني، لقد كانت البلاد العربية مستباحة لحكم القوى الدولية قبل ذلك من الإغريق، والفرس، والرومان، وكانت القدس دائماً هي الهدف الأسمى لتلك القوى السائدة على مستوى العالم والإقليم، فكانت القدس هي المؤشر والبوصلة لحالة الإقليم، ومن بعد للحالة العربية والإسلامية، عندما يقوى العرب والمسلمون تكون القدس المحررة عنواناً للقوة العربية والإسلامية، وعندما تحتل القدس من قبل القوى الأجنبية، فإنها عنوانٌ لحالة الضعف والتفكك التي تكون قد إعترت الإقليم العربي أو الإسلامي، ما يتيح للقوى الكونية المسيطرة إخضاع القدس لسيطرتها ونفوذها وحكمها، ففي القرن الحادي عشر الميلادي وهنت الدولة العباسية وتقسمت بين الولاة والسلاطين ما أتاح للأطماع الغربية الصليبية إعادة إحتلال القدس في العام 1093م، وأستمر هذا الإحتلال إلى أن إستعادت الأمة قواها وقدراتها في عهد الحكم الأيوبي لمصر على يد صلاح الدين الأيوبي وجرى تحريرها إثر معركة حطين في العام 1187م، وكانت بداية إنهيار الحملات الصليبية على العالم العربي وتحرير سواحل الشام ومصر وفلسطين من الحكم الصليبي الذي إكتمل على يد المماليك في عام 1238م، وباتت المنطقة تحت الحكم العربي الإسلامي المستقل، والذي إنتقلت رايته للدولة العثمانية بعد إنهيار الدولة العباسية، وأستمرت القدس تحت الحكم العثماني حتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918م، حيث وقعت القدس وفلسطين تحت الإستعمار البريطاني يوم 06/12/1917م، الذي تعهد بتنفيذ المشروع الإستعماري الصهيوني بإقامة الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، وما كان لبريطانيا أن تقدم على تنفيذ هذا المشروع الإجرامي وغرس هذا الكيان الغريب والبغيض في قلب الوطن العربي لولا حالة الضعف والتفكك التي آل إليها العرب خاصة، والمسلمين عامة، وقد إكتملت حلقات هذا الإستهداف في العام 1948م، بإقامة دولة إسرائيل على مساحة 78% من أرض فلسطين بدون القدس، ليكتمل العدوان الإسرائيلي في حرب حزيران من عام 1967م، رغم المقاومة الفلسطينية الشديدة والعربية لإقامة الكيان الصهيوني طيلة عهد الإنتداب البريطاني، إلا أنها لم تحل دون سقوط فلسطين والقدس تحت سيطرة الصنيعة الإستعمارية الغربية وإقامة (إسرائيل) في المنطقة، ومع ذلك لم يتوقف الفلسطينيون عن مواجهة هذا المشروع، بشتى الوسائل الكفاحية المسلحة والشعبية، ولم تخفي دولة الكيان الصهيوني أطماعها وإستهدافها للمقدسات الإسلامية في فلسطين منذ اليوم الأول لوقوع فلسطين والقدس تحت سيطرتها، وفي مقدمة ذلك إستهداف المسجد الأقصى المبارك بالتدمير والتهويد، فقد قصفت القوات الإسرائيلية المسجد الأقصى بمدفعية الهاون يوم 06/06/1967م أثناء الحرب وقد سقطت المدينة المقدسة في يوم 07/06/1967م، وفي اليوم التالي له 08/06/1967م، قامت قوات الإحتلال الإسرائيلي بهدم وإزالة حارة المغاربة في القدس القديمة والمكونة من 135 منزلاً كان يقطن فيها أكثر من ألف نسمة، والواقعة إلى الجانب الغربي الجنوبي من سور المسجد الأقصى، وخصصت كساحة لحائط البراق (حائط المبكى) لإقامة الطقوس التوراتية بالإضافة إلى مبانٍ إدارية وسكنية للمحتل الإسرائيلي، وفي 27/06/1967م صدر قرار حكومي إسرائيلي بتوحيد مدينة القدس الشرقية مع القدس الغربية، وحلت بلدية القدس الشرقية العربية، وصادرت صلاحياتها بلدية القدس الموحدة، لتتوالى سياسة وإجراءات الإستهداف والتهويد لمدينة القدس ومقدساتها، التي تضع الميزانيات الكبيرة البلدية والحكومية والشعبية، لتنفيذ هذه الإجراءات المخالفة لقواعد القانون الدولي التي تنظم حالة الإحتلال، وفي يوم 21/08/1969م أقدم المجند (مايكل روهان) على جريمته القذرة بحرق الأقصى، وتتداعى العرب والمسلمين بناء على النداء الذي أطلقه المرحوم الملك فيصل، وجرى تأسيس منظمة التعاون الإسلامي بغرض إتخاذ الإجراءات الحمائية والرادعة للإحتلال عن مواصلة خططه في تهويد القدس، وتدمير المقدسات الإسلامية فيها، ولكن هيهات أن يذعن الإحتلال لذلك، فقد تواصلت سياسته الإجرامية دون حسيب أو رقيب، سوى من هبات الفلسطينيين والمقدسيين، لمواجهة تلك السياسات، كما بدأت سلطات الإحتلال بحفر الأنفاق أسفل المسجد الأقصى بحجة البحث عن أساسات الهيكل المزعوم، حيث أكتشف حفر نفق في شهر 08/1981م، وفي نفس الوقت إتخذت حكومة الكيان الصهيوني قراراً بضم القدس الشرقية رسمياً وفرض الهوية الإسرائيلية على المقدسيين، وفي شهر 04/1982م أقدم المستوطن (هاري جولمان) على إطلاق النار على المصلين في المسجد الأقصى، فقتل إثنين وجرح ستة مصلين، وفي سنة 1996م أعلن فتح الأنفاق أسفل المسجد الأقصى للسياح، وقامت جماعة أمناء الهيكل وتحت حراسة الشرطة الإسرائيلية، بإقتحام ساحات المسجد الأقصى مما أدى إلى حدوث مواجهات أسفرت عن إستشهاد 62 فلسطينياً وجرح المئات، وفي 11/03/1997م أصدر المستشار القضائي الصهيوني قراراً يسمح لليهود بالصلاة في المسجد الأقصى، وفي 28/05/1997م طالب عدد من الحاخامات بتقسيم المسجد الأقصى وحثوا أتباعهم للصلاة فيه وفي 02/12/1999م أصدر رئيس بلدية القدس أمراً بمنع الترميم في المصلى المرواني، وفي 28/09/2000م وتحت حراسة 3000 جندي قام المجرم آرائيل شارون بإقتحام الأقصى، وفي اليوم التالي 29/09/2000م ارتكبت مجزرة بحق المصلين راح ضحيتها العشرات بين شهيد وجريح، لتنطلق إنتفاضة الأقصى التي قدم خلالها الشعب الفلسطيني أكثر من خمسة آلاف شهيد، وعشرات الآلاف من الجرحى والمعتقلين، وكل ذلك لم يثني الكيان الصهيوني عن سياساته وإجراءاته، التي تستهدف القدس، مقدسات وسكان، ولتتوالى الإقتحامات للمسجد الأقصى من قبل المستوطنين، والجماعات المتطرفة وتتكرر أفعالها بشكل شبه يومي، ويتصدى لهم حراس الأقصى والمصلين، بالإضافة إلى فرض سلسلة من القيود على المسلمين لأداء صلاتهم في المسجد الأقصى، ليتوج اليوم وفي هذه الفترة إستعار الإجراءات الإسرائيلية والإقتحامات للمسجد الأقصى، بهدف التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى بين اليهود والمسلمين، كمقدمة لهدمه، وتدميره، وإقامة الهيكل المزعوم مكانه، هذا عدا عن الإجراءات التي تستهدف الإنسان الفلسطيني، وتضييق سبل العيش والإقامة له في المدينة المقدسة، وتواصل وتيرة الإستيطان اليهودي داخل القدس وفي محيطها، وعزلها عن محيطها الفلسطيني، وإقامة الجدار العازل حولها، كل هذه الإجراءات المتواصلة والمتصاعدة تؤدي إلى نتيجة واحدة هي أن القدس مستهدفة سكاناً ومقدسات لتهويدها وإخراجها من أية تسويات سياسية يجري الحديث عنها، غير آبهة بردات الفعل العربية والإسلامية والدولية الخجولة، التي ليست على مستوى الحدث ورد الفعل المطلوب إلى غاية الآن، والتي لم تتجاوز مثلث (الشجب والإدانة والإستنكار) وإذا لم تنتقل ردة الفعل الفلسطينية والعربية والإسلامية إلى ساحة المواجهة الفعلية، وساحة الفعل الحقيقي، فإن سلطات الإحتلال سوف تستمر في مواصلة خططها الرامية إلى تدمير المقدسات الإسلامية وفي مقدمتها المسجد الأقصى، وإقتلاع السكان العرب وإفقادها هويتها العربية والإسلامية، حتى يتسنى لها تشييد رموز توراتية مكانها لتدعم بها أساطيرها، التي تقول بوجود هيكل سليمان مكان أو أسفل الأقصى، وأن فلسطين أرض الميعاد تتوفر على مقدسات يهودية في تلك الأرض المقدسة، علماً أن كافة الأبحاث التاريخية الموضوعية وأعمال التنقيب التي قامت بها سلطات الإحتلال نفسها، لم تثبت أي من هذه الإدعاءات الباطلة، والمزورة للتاريخ وللواقع.

في هذا السياق الإجرامي الذي يستهدف القدس، مقدسات وسكان وهوية، يأتي قرار الرئيس دونالد ترامب وبعد مئة سنة بالضبط من سقوط القدس تحت الإحتلال البريطاني في 06/12/1917م ليعلن يوم 06/12/2017م إعترافه وإعتباره مدينة القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وإقراره نقل سفارة بلاده إليها، ورغم أن هذا الإعلان والقرار الأمريكي لا يلغي حقاً ولا ينشيء حقاً، وإنما يكشف أن القوى الإستعمارية لا زالت تواصل سياساتها الإستعمارية وإستهدافها لفلسطين الأرض والمقدسات ودرتها مدينة القدس لذاتها ولما تمثله تجاه عموم المنطقة العربية.

إن المسألة اليوم قد وصلت مرحلة الخطر، ومرحلة الحسم، ففي ظل إنشغال العرب بالحروب والصراعات والنزاعات التي فجرها (الربيع العربي) تجد إسرائيل الفرصة السانحة لإكمال مخططاتها، فلابد أن يدرك العرب والمسلمين أن المأساة تتعمق وتتجذر يوماً بعد يوم مالم يقدموا على خطوات عملية فاعلة ورادعة للكيان الصهيوني وللسياسات الإستعمارية الأمريكية التي كشف عنها إعلان الرئيس الأمريكي، لوقف مسلسل إجراءاته الجهنمية، بداية من الدول التي ترتبط بإتفاقات سلام مع الكيان الصهيوني مثل مصر والأردن، وبقية الدول التي تقيم معه علاقات تمثيل علنية أو سرية، وإتخاذ سلسلة من الإجراءات العملية تتجاوز بيانات الشجب والإستنكار والإدانة، بدءاً من إعادة تفعيل المقاطعة العربية من الدرجة الأولى والثانية والثالثة، ودعم الشعب الفلسطيني وتثبيته في القدس خاصة وفي فلسطين عامة، ومواصلة الحصار السياسي والدبلوماسي لحكومة الكيان الصهيوني والعمل على عزلها سياسياً، وإقتصادياً، على الساحة الدولية كي تكف وتتوقف عن هذه السياسات والإجراءات، وتسلم بضرورة تنفيذ الشرعية الدولية بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبشأن المقدسات الإسلامية والمسيحية، وإنهاء سياسة تغيير المعالم العربية والإسلامية وتغيير التركيب الديمغرافي للقدس والأراضي المحتلة.

والآن يتأكد ضرورة التوجه للأمم المتحدة لإتخاذ إجراءاتها اللازمة بشأن القرار الأمريكي وإنهاء الإحتلال، بإصدار قرارات ملزمة من مجلس الأمن، وفق البند السابع، وبدون ذلك فإن الفلسطينيين لن ينتظروا كثيراً، وسيفاجئون الإحتلال ومعه الأمريكان والعرب والمسلمين والعالم، بوقف وإنهاء سياسة التسويف والإنتظار للجهود الدولية أن تؤتي أكلها، لأن القدس ومقدساتها هي جزء من العقيدة، والمس بها أمر جلل وخطير، لن يسكت عنه أحد، وسيشعل حينها حرباً دينية مقدسة لن تكون ساعتها تحت السيطرة، وسيتطاير شررها ليصيب الجميع دون إستثناء، إن ما تقوم به سلطات الإحتلال من ممارسات وإستهداف للمقدسات يمثل إعتداء على التراث الإنساني، وجرائم حرب يجب أن تتوقف فوراً، وأن يعاقب الإحتلال عليها أمام المحاكم الدولية، وعلى الأمم المتحدة ومنظماتها ووكالاتها المختصة القيام بدورها في حماية هذا التراث الإنساني، وفرض الحماية الدولية للمقدسات الإسلامية والمسيحية على السواء، والتأكيد على أن القدس مدينة فلسطينية عربية وعاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة والعمل على تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة.

بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس