واهمٌ من يظن أن الولايات المتحدة الأمريكية وسيطٌ نزيهٌ للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأنها ترعى المفاوضات الثنائية بموضوعيةٍ ومهنيةٍ، وبمصداقيةٍ وعدالةٍ وأمانةٍ، وأنها تقف على الحياد بين الطرفين في العملية السلمية، فلا تؤيد فريقاً على حساب آخر، ولا تضغط على طرفٍ وترضي الآخر، وأنها جادةٌ في سعيها ومخلصةٌ في دورها، وحريصةٌ على نجاح مهمتها، لذا فهي تهيئ الأجواء بين الطرفين، وتذلل العقبات بينهما، وتسوي المشاكل وتساهم في خلق الحلول الممكنة، وتدفع من خزينتها ما يكفي لتسهيل قبول الطرفين بالحلول المقترحة، وتبني التسويات الممكنة، وتسمي ممثليها في المفاوضات من شخصياتها المعتدلة، ودبلوماسييها المشهود لهم بالوسطية والمهنية، ممن يؤمن بالسلام العادل بين الطرفين ويعملون له.
الحقيقة أن الإدارة الأمريكية قد فرضت نفسها وصيةً على المفاوضات، وجعلت من نفسها طرفاً لا وسيطاً فيها، وخصماً مريداً لا حكماً عادلاً، وفرضت وسطاء من جانبها هم أقرب في ولائهم وإيمانهم إلى الإسرائيليين من العرب عموماً ومن الفلسطينيين خصوصاً، واختارت من كبار موظفيها مبعوثين يهوداً أو من اليمين المسيحي المتطرف الذين هم أكثر صهيونيةً من الإسرائيليين أنفسهم، وأكثر حرصاً على كيانهم وأمنهم، وسلامتهم ومستقبلهم، وبذا فهي أبعد ما تكون عن العدالة والوسطية والمهنية والموضوعية والنزاهة، وآخر من تصلح أن تلعب دور الوسيط أو الراعي، إنها طرفٌ أكثر تطرفاً من الإسرائيليين أنفسهم، وأشد حقداً على العرب والفلسطينيين من الحركة الصهيونية نفسها.
تثبت وقائع المفاوضات السابقة ومحاضر اللقاءات العديدة أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة كلها كانت تخدم الكيان الصهيوني، وتسخر قدراتها السياسية والعسكرية والأمنية والعلمية وغيرها لمساندته وتأييده، وهي لا تمارس عليه أي ضغطٍ، ولا تطالبه بما يرفض ولا يرغب، بل تتبنى وجهة نظره، وتقاتل وفق خطته، وتشارك في وضع التصورات معه، وتمول مشاريعه وتساهم في أفكاره، وتضغط على الجانب الفلسطيني ليقبل بشروطه، ويخضع لرؤيته وتصوره، وغالباً تكون مقترحاتهم على حساب الشعب الفلسطيني، وضد مصالحه وأمنه ومستقبله وحقوقه ومقدساته، وتمس كرامته وحياة مواطنيه ووحدة أرضه ومستقبل وجوده.
ربما ران على قلوب بعض العرب والمسلمين سرابُ السياسة الأمريكية، فاعتقدوا عكس ما قدمتُ وبينتُ، وآمنوا بالولايات المتحدة الأمريكية راعيةً للمفاوضات وضامنةً للسلام، وبرروا لها مواقفها وتفهموا بعض سياساتها، حتى جاء قرار كبيرهم المشؤوم، وموقفه المشين باعتبار القدس عاصمةً للكيان الصهيوني، حيث منحهم من جديدٍ حقاً ليس لهم، والتزم أمامهم بما وعدهم به، وفاخر بأنه كان معهم أفضل من سابقيه، وأكثر صدقاً من أسلافه، الذين وعدوا ولم ينفذوا، وأعلنوا ولم يطبقوا، وهددوا ولم يصدقوا، ولكنه ينفذ ما وعد به، ويتبجح بأن ما قام به سيخدم السلام، وسيعجل في الوصول إلى اتفاقيةٍ ترضي كل الأطراف، وتحقق العدل المنشود والاستقرار المأمول.
كشفت الإدارة الأمريكية بقرارها الطائش عن وجهها الحقيقي، وبينت سوء نيتها وانحياز موقفها، ونأت بنفسها عن الحق والعدالة، وارتضت أن تصطف مع الاحتلال وأن تكون جزءاً منه، وأن تشرع له الاغتصاب والانتهاك والسرقة والاحتلال، وتنكبت للأمة العربية والإسلامية لها وأنكرت حقها وجحدت دورها، ونكصت على عقبيها إذ وعدت أن تكون على الحياد، وأن ترسي قواعد الحق والعدل في المنطقة، فإذا بها تضع للشر قواعد، وللفتنة أساساً، وترسي أسس صراعٍ ديني لن ينتهي، وتمهد لحروبٍ عقائديةٍ ستطال بنيرانها المنطقة كلها، وستزرع في الأرض ألغاماً ستنفجر بالجميع، ولن ينجوَ منها أحدٌ.
على الأمة العربية والإسلامية أن تدرك يقيناً أنها تخطئ كثيراً إذا عادت لتثق في الإدارة الأمريكية من جديد، ولعله سيكون من السفه والجنون أن تعيد تسليم الأوراق والملفات إليها، والخضوع لمندوبيها ومبعوثيها، وستكون جاهلةً إذا كررت مقولتها السابقة أن أغلب أوراق القضية بيد الولايات المتحدة الأمريكية، بل حريٌ بها أن تكون واعيةً وعاقلةً، وأن تكون مدركةً ويقظةً، فلا تلدغ من ذات الجحر للمرة الألف، فالولايات المتحدة الأمريكية قد اعتادت على لذغ العرب والمسلمين غدرهم، بل لا يعينها أمرهم، ولا تهتم لشؤونهم اللهم إلا بالقدر الذي تستفيده منهم، ويخدم مصالحها في بلادهم.
لا تشعر الإدارة الأمريكية بأي ندمٍ أو تأنيبِ ضميرٍ على ما فعلت وارتكبت، ولا تحاول التراجع أو تغيير موقفها، أو البحث عن محاولةٍ للتفسير أو التأويل، بل قد لا ترى نفسها قد أخطأت وتجنت، أو أنها اعتدت وظلمت، أو طغت وبغت، فهي تشعر أنها قامت بعملٍ عظيمٍ، وأتت فعلاً يبعث على الفخر، ويدفع على التيه والإعجاب، فهي لا تدس رأسها تحت التراب خجلاً وخزياً، ولعلها لا تصغي للناقدين، ولا تسمع ثورة الغاضبين، ولا تتابع انتفاضة المسلمين، ولا يعنيها اعتراض الكثيرين، فقد نفذت ما تريد وأوفت بما وعدت، وباتت تمني نفسها أن صبر العرب سينفذ وتضامن المسلمين سيتراجع، وإرادة الفلسطينيين ستضعف، وسيصبح القرار حدثاً من الماضي، وواقعاً مع الأيام حقيقة.
ينبغي على القيادة الفلسطينية كلها، سلطةً وفصائل وتنظيماتٍ وقوى، أن تحترم نفسها وأن تحافظ على كرامتها، وأن تحفظ أهلها وشعبها فلا تهينه ولا تسيئ إليه، وألا تظهره بمظهر الضعف والهوان أو الذل والصغار، وألا تعود إلى الأوهام الأمريكية ولا إلى سراب وعودهم وكذب عهودهم، وألا تقبل بوساطتهم أو رعايتهم، وعليها أن تكون قويةً وجريئةً، وصريحةً وواضحةً، وأن تكون على قدر المرحلة وبموازاة الرجال الذين يقاومون ويضحون، ويقدمون أغلى ما يملكون دفاعاً عن قضيتهم، فنحن قومٌ لا نستجدي حقوقنا، ولا نتوسل عدونا، ولا نطلب الوساطة من خصمنا، ولا نقبل المهانة على أنفسنا أو في ديننا، بل نغار على حقنا، ونثور في سبيل وطننا، ونضحي دفاعاً عن مقدساتنا.
يتبع ....
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 18/12/2017
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]