كان لافتا للنظر، أن الرئيس الروسي بوتين في مؤتمره الصحافي السنوي قبل أسبوعين، أجاب رداً على سؤال حول أهمية النفقات العسكرية في روسيا، بـ"حكاية" حول طفل استبدل خنجر والده بعدد من الساعات، راوياً حكاية روسية معروفة، عن نجل ضابط بحري متقاعد أقرّ لوالده بأنه أبدل خنجره بساعات جديدة، فردّ عليه أبوه: هذه الساعات جيدة في الواقع.. لكن إذا جاء إلينا اللصوص غداً، لقتلي وأمّك، واغتصاب اختك الكبرى، فإنك لن تستطيع إلاّ ان تقول لهم: مساء الخير، الساعة 12.30 بتوقيت موسكو.
من التاريخ أيضا، أنه في زمن الدولة العباسية، استولى ملك الروم على مدينة "عمورية" إحدى مدن دولة الخلافة على الحدود مع الروم، أساء جنودهم، معاملة العرب في المدينة، وأسروا النساء، وكان من بينهن فتاة جميلة تم حملها كغيرها من النساء إلى سوق العبيد، واشتراها أحدهم، أساء معاملتها فصاحت وامعتصماه. قام الأخير بإرسال رسالة إلى الملك الرومي يقول فيها: "من أمير المؤمنين المعتصم بالله.. إلى كلب الروم.. لتخرجن من المدينة أو لأخرجنك منها صاغراً ذليلاً ". فقال الأخير للرسول أبلغ خليفتك "ليفعل ما يعتقد أنه قادر على فعله". جهز الخليفة جيشه وبعد معارك عنيفة انهزم الروم، وأسر عددا كبيرا من القادة والزعماء الروم .حرص المعتصم على الوصول إلى الفتاة، وجعل من سيدها عبداً لها! وسألها هل لبى المعتصم نداءك ؟ فأجابت.. نعم يا سيدي، أدامك الله لنا. حادثتان من التاريخ الحالي والقديم نسوقهما عن أهمية امتلاك القوة لردع ومنع إساءات الآخرين وتعدياتهم على بلدك، انطلاقاً من مفهوم بيت شعرٍ لأبي تمام يقول: السيف أصدق إنباءً من الكتب.. في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب.
الحادثتان تلخصان رداءة الواقع العربي الحالي بلا رتوش، أو محاولات تجميل القباحة والمساومات والتنازلات التي تقترفها أنظِمة عربية، في محاولة بقائها على وجه الأرض، لتبقى متسلمة للحكم في بلدانها، رغم أنف شعوبها، فهي لا تمتلك ممارسة الجبروت والطغيان إلا عليه، لذا، فهي في أمس الحاجة إلى الحماية ولو من الأعداء! ولا مانع لديها من الدخول في تحالفات مشبوهة معهم، وإلاّ كيف يمكن لهذا الوضع البائس الذي أخرَجنا من الجغرافيا والتاريخ أن يسود، حيث باتت أوطاننا مقرا للنهب وامتصاص ثرواتها. وأضحت "أكياس رمل" يتدرب عليها الملاكمون، ومحطة لتجريب كافة الأساليب والمهمات القذرة فيها وعليها، التي يحرم تجريبها في بلدانها. نعم، لقد أصبحنا "ملطشة" للعدو بفضل أشاوستنا من الحكام، الذين لم يتورعوا في تجنيد "داعش" وغيره من أجل التآمر على أقطار عربية أخرى، وليس لضرب العدو الصهيوني.
في آخر عهد ملوك الطوائف في الأندلس كانت ما تزال بعض القيم سارية المفعول آنذاك، لكن في عهد ملوك الطوائف الحالي، فإن كل شيء مباح، حتى بداية الصباح. الكل يسعى إلى استرضاء إسرائيل وحليفتها والتربيت على كتفها والغمز لها بالاستعداد للسير قُدُماً مع مشروعِها الصهيوني الاستعماري الإحلالي، مقابل "رضاها"، الذي يكاد معظم العرب لا يحصل عليه، رغم كل ما يبذلونه من تصريحات وما يدفعونه من تحت الطاولة من دولارات وشيكلات وأرصدة، لا يعلم بها إلاّ مسؤولو خزائن بيت المال وشايلوكيو بني صهيون، الذين باعوا المسيح بثلاثين من الفضة، وباتوا يتحكمون بالبيت الابيض والكابتول هيل، ووسائل الإعلام على الساحتين الامريكية والأوروبية، وعند بعض الرؤساء العرب.
بالمقابل، يستطيع مَن يريد وصف الرئيس بوتين كما يريد، بأنه ديكتاتوري، متسلط، وأن يسجل عليه ما يريد من الأخطاء والخطايا، مِن منطلقات أيديولوجية ليست سليمة النوايا، وإنما هي تزلف للسيد الأمريكي الممتص للثروات العربية، وهو يجلس في البيت الأبيض.
لم تكتف الولايات المتحدة والدول الغربية بتقويض الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية وحلف وارسو فقط، بل ذهبا بعيداً في حصار روسيا الاتحادية والاقتراب من حدودها، ودعم كل المافيات والعصابات الصهيونية القوية فيها، لقد ساندوا تنظيمات الارهاب الانفصالية داخل حدودها، من أجل تحويلها الى دولة تابعة من دول العالم الثالث، كما حدث في روسيا إبان مرحلة السكّير المترنح على درج كل طائرة يستقلها "يلتسين"، لذا لم يتردد باراك أوباما في وصف روسيا في إحدى المرات، بأنها "مجرد دولة من دول العالم الثالث، لا تُصدِّر للعالم سوى السلاح والنفط؟". خدمات عظيمة قدمها بوتين لوطنه وشعبه، ورفض للمؤامرة التي حيكت في دوائر الغرب الاستعماري.
ما قاله الرئيس بوتين يتضمن ردّاً روسيا حازما وحاسماً على الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الامريكي التي أعلنها قبل ايام دونالد ترامب، والتي وضعت روسيا والصين في مقدمة الأخطار الثلاثة التي تواجهها امريكا، والتي جاءت بالترتيب على النحو التالي، اعتبار روسيا والصين قوتين مُنافِستَين للولايات المتحدة، الثاني، اعتبار ايران وكوريا الشمالية دولتين مارقتين، الخطر الثالث هو التنظيمات الإرهابية الدولية، الساعية للقيام بأعمال قتالية نشيطة ضد الولايات المتحدة. بالطبع فإن الردين الروسي والصيني لم يتأخرا على ترّهات ترامب وإدارته المتصهينة. لقد عانى العالم عقدين من التسلط الأمريكي على الشؤون العالمية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية. واشنطن جعلت من نفسها سيفاً مسلطا على رقاب الدول المخالفة لسياساتها، ولحرية الشعوب وباسم كودي كاذب عنوانه الدائم "الحرص على حرية وديمقراطية الشعوب"! صحيح أن قرارات أممية كثيرة صدرت لتعزيز الحرية والأمن وعدم الاعتداء على الدول، ولكن رغم أهمية الجانب الأخلاقي والحقوقي والمعنوي في قرارات كهذه، لكنها لا تسمن ولا تغني من جوع أمام قرار يتخذه رئيس دولة قوية مهووس بغزو هذا البلد أو ذاك.
لم يمنع ترامب من تدمير كوريا الشمالية، سوى قدرتها على الرد بالمثل! هذه الحقيقة الأهم في الصراع. لو أن ترامب خشي ردا عربيا موجعا للمصالح الأمريكية في المنطقة العربية، لما تجرأ على اتخاذ قراره حول القدس.. ولو لم يمتلك المعتصم جيشا قويا وإرادة فولاذية للقتال، لتظاهر بأنه لم يسمع استغاثة الفتاة، ولسجن كل من يتكلم حولها! كثيرون من أعرابنا (وليس عربنا) – وهم الأشد كفراً ونفاقاً – لا يريدون سماع استغاثات الأقصى وأكناف بيت المقدس، بل لتخاذلهم وجبنهم وطاعةً لحامي حماههم القابع في البيت الأبيض، أخذوا يرددون الأسطوانة التضليلية الصهيونية حول القدس والأقصى وفلسطين! وحتى لو اشتروا أسلحة وطائرات أمريكية حديثة، فهم ليسوا أحرارا في استعمالها، ولا يستعملها سوى الخبراء الأمريكيون المتواجدون في بلدانهم.
على صعيد آخر، سيبحث الكنيست الصهيوني مشروع قرار بضم الضفة الغربية إلى دولة الكيان، وما من عوائق أمام نجاحه، كما التصويت على إعدام الفلسطينيين ممن يقومون بعمليات مقاومة (وكأنهم بحاجة إلى قانون، فهم يعدمون ويجرحون العشرات منا كل يوم) كذلك القرار بإنشاء مليون وحدة استيطانية جديدة… الخ. أما العنصري أورين حزان، وهو عضو الهيئة التشريعية للعصابة في ثوب دولة، فقد تصرف مثل قاطع طريق عندما اقتحم باصا يحمل أمهات المعتقلين وزوجاتهم، وهن في الطريق لزيارة أبنائهن وبناتهن الأسرى في سجون المابعد فاشية الصهيونية، وبدأ في التنمرد عليهن وتسمية مقاومينا بالحشرات والكلاب والقتلة، إنه في حقيقته رعديد جبان، وأفعى متنقلة تنفث سمها في وجه الإنسانية جمعاء. على الرغم من شعوره بالعظمة الفارغة نتيجه لحيازته منصبه الحالي،، ردّت عليه أم معتقل بالقول: ابني زلمة، وأسرانا رجال ومن يسميهم بالحشرات والكلاب، حتى لو كان نتنياهو، هو الحشرة والكلب! إنها الأم الفلسطينية،التي رسمها مكسيم غوركي في روايته تماما كما الشابة الفلسطينية عهد التميمي التي ضربت كفين على وجهي جنديين صهيونيين من دون حساب للعواقب.
د. فايز رشيد
كاتب فلسطيني