كان صباح الثامن من كانون الأول عام 2008 صباحاً مثقلاً بغيوم الشتاء وأمطارها المنبعثة من صفحة السماء والريح تعصف في الأجواء حزناً حاملةً معها خبر الرحيل المفاجيء ليقع صاعقةً على محبيه – جاء الخبر مزلزلاً للكيان البشري- معلناً صعود أحمد العربي إلى السماء لتذرف الدمع في غيبته شتاءً، ليقف من أحبوه على الباب غير مصدقين أن الدكتور والطبيب الإنسان الممتليء حباً ونشاطاً قد إرتقى للعلياء بدراً حاجزاً له موقعه الذي يستحق بين النجوم المضيئة على وطن مسلوب لطالما ناضل من أجل حريته وعزته وكرامته بمبضعه وعزة نفسه فدفع في سبيل ذلك أجمل سني عمره في معتقلات المحتلين دون تراجع كونه يعلم أن مقارعة المحتل تستوجب ثمناً وضريبة كان أهلاً لأن يقدمها وبقناعة ثورية فكرية تسلح بها منذ نعومة أظفاره.
مستفزاً كان الرحيل وسوداوياً كان المشهد إلا من دموع غسلت مقل العيون لتستوضح الأمر بين تصديق وتكذيب للفاجعة فأحمد المسلماني – حكيم القدس كما كان يلقبه معارفه- كان قبلها بساعات على رأس عمله في مؤسسة لجان العمل الصحي التي قادها منذ إنطلاقتها من القدس يتابع ويوزع المهام وبعدها يلتقي برفاقه يناقش معهم هموم شعبه وسبل المواجهة.
برع أحمد في إستقطاب المحبين والمتحلقين حوله بشعبيته البسيطة غير المتكلفة لدرجة أن مكتبه في مؤسسة لجان العمل الصحي وكذلك بيته في القدس صارا قبلة لمريديه على مدار الساعة، ولم يقف به الأمر عند هذا الحد فكان يقضي معظم وقته في الميدان ميدان العمل الصحي والتنموي وميادين المواجهة مع الاحتلال العلنية والسرية حيث كان يرى بالعمل المكتبي ضرورة مرحلية لتنفيذ قناعاته ما أوجع أحبته عندما وصلهم خبر الناعي برحيله.
رحل الرجل الذي كان يمقت الامتيازات ويصر دوماً على أن العمل التنموي والأهلي يفقد غاياته التي إنطلق من أجلها إذا ما تحول إلى عمل مؤسسي وظيفي يمنح صاحبه الإمتيازات والرواتب والرتب فحارب الظاهرة ورأى بها قتلاً لمحاولات إحياء العمل الطوعي كقيمة إنسانية وسنة لا بد من إحيائها مستلهماً توجهاته من اللجان الشعبية للخدمات الصحية الأسم الأول التي إنطلقت به مؤسسة لجان العمل الصحي التي وقف مع رفاق له على رأسها أواسط ثمانينيات القرن الماضي وهو الإسم الذي إعتمدته الإنتفاضة الشعبية الكبرى عام 1987 وإشتقت منه لجان التعليم والصحة والتثقيف في مواجهة سياسات التجهيل التي إنتهجها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني.
حلقت روح أحمد في سماء القدس وطوى في ترابها جسده ذات صباح شتوي لتذرف السماء مطراً إمتزج مع دموع الرجال والمحبين من أصدقاء ورفاق معزين أنفسهم بأن فكر الراحل الكبير حكيم القدس بوصلتهم ومرشدهم الذي يستذكرونه عند كل محطة أو عقبة تعترضهم لإستلهام الفكرة والصمود. تستذكره حواري وأزقة القدس العتيقة التي درج على ترابها طفلاً وشاباً ومحمولاً على الأكتاف، وعلى طريقها دبت قدماه فسار تحت أروقتها المسقوفة نحو بيوت الجرحى والشهداء والمكلومين، وعلى درب آلام مسيحها مشى ممتشقاً قناعاته بحتمية النصر وضرورة الحرية.
سلام عليك أبا وسام حياً وميتاً ونهجاً باقياً في قلوب وعقول كل من عرفوك وسمعوا عنك وعلى دربك ساروا.
بقلم/ خالد الفقيه