عندما اكتب عن غزة ... اكتب عن اهلها ... عائلاتها ... بكل من عاش على ارضها على مدار عقود طويلة ... بقدم تاريخها واحياءها وجذور عائلاتها ... لا اكتب عن غزة الجديدة الحديثة ببناياتها الشاهقة وشوارعها المضيئة ... وبسياراتها الفاخرة ... والذين بمجموعهم ... وحتى بأغلبيتهم لا يمثلون تاريخ غزة ... ولا يعبرون عنها ... ولا يتحسسون مشاعرها ... ولا يتحدثون عنها من خلال الاعلام والتصريحات ... الا لاغراض خاصة ... ومنطلقات محددة ... ورؤية احادية مصلحية ... ليس لانها غزة الحاضنة الدافئة المستقبلة لكل انسان قدم اليها ... واراد ان يعيش على ارضها ... وبين اهلها .
يبدو ان هناك اناس كثر لا يعرفون عن غزة ... حتى وان عاشوا فيها وسكنوا وشيدوا الابراج والفيلات ... .واستقلوا افخم السيارات ... واكلوا احسن وافضل الطعام ... وعاشوا حياة الرفاهية الا انهم بحقيقتهم لا يعيشون في غزة ... ولا مع اهلها وسكانها الحقيقيين .
غزة التي عشت فيها طوال عمري ... ومن قبلي الاجداد والاباء كما غيري ... ومدى تعارفنا على بعضنا البعض ... بعائلاتنا التي تعرف بعضها ... وبأحياءنا الملاصقة لبعضها البعض بحي الزيتون وعائلاته الطيبة .... كما حي الشجاعيه بكل عائلاته المحترمة ... كما الصبرة والرمال ومحافظتهم وحسن خلقهم ... كما التفاح والدرج وحي النصر وما يربطهم من اواصر المحبة والمودة ... غزة من بيت لاهيا وبيت حانون وحتى رفح بالجنوب ومن بحرها وحتى حدودها الشرقيه والتي كانت تتزين بأشجار البرتقال والزيتون واشجار النخيل وبرمالها الصفراء ... ومياهها العذبة .. وما يربط بين عائلاتها من مودة ومحبة وتسامح .
كافة الناس الطيبين المحترمين العاشقين لتراب غزة والمحبين لعائلاتها ... والذين عاشوا ولا زالوا يعيشون بأجيالهم الجديدة والذين توارثوا ما كان قائما ومتبعا وما تجذر بعمق وجذور تلك العائلات .
غزة التي نعيش فيها اليوم ... ليست غزة الزمن الماضي ... بكافة ظروفها واحوالها ومعيشة اهلها .
لا يقول أحد ان غزة كانت باريس او لندن او بيروت ... غزة كانت طوال عمرها ببساطتها ... وتواضعها ... وقلة دخلها .... ومنازلها الصغيرة والتي فيها من الطين أكثر من الطوب ... والتي كانت تأكل من زرعها بصمت وحمد ... وتشرب من مياهها بحلاوة زمانها وعشق مكانها ... والتي تعيش بصمتها ولكن بكبرياءها وكرامتها وعزتها ... والتي تنام على هدوء أمنها وسلامة جيرانها واحياءها ... غزة التي كانت على ايمانها وتدينها ووطنيتها واخلاصها لفلسطينيتها .
غزة التي كنت تمر بشوارعها دون ازدحام ... ودون ادنى تجاوزات .... دون عطل او تعطيل بشوارعها النظيفة .
سكانها بطيبتهم الغالبة ... واخلاقياتهم العالية ... وحسن تعاملهم الامثل .
حقا لقد تأكد لنا الان اننا نحن لسنا بغزة التي نعرفها .... والتي عشنا فيها عقود طويلة ... لسنا بغزة التي تحدث عنها اجدادنا واباءنا وامهاتنا ... وهي بالتأكيد ليست غزة التي عشنا فيها بمقدار عمرنا حتى الان ...بسنوات طفولتنا وشبابنا ... وحتى مرحلة الرجولة والشيخوخة ... فما هذا التغير ؟ وماذا حدث لنا ؟ .
اين ذهبت غزة بكل صفاتها وسماتها .. عاداتها وتقاليدها ... ايمانها وجذور تاريخها ؟!
لقد وصلت غزة ... لبكاء الرجال الاشداء العظماء ... وصلت غزة لتستمع الى اهات الامهات ... وانين الاطفال ... وصراخ الجياع ... وغضب الشباب .. وصلت غزة الى حالة من التفكك ... وقرب السقوط ... وصلت غزة ببعض اجزاءها وافرادها الى الادمان ... ومحاولة الانتحار ... وحرق النفس ... وصل بالبعض الى امراض نفسيه وحالات اكتئاب ... وحالات قصور وعجز ... وصلت غزة الي حالة الافلاس لتجار محترمين ... هذه ليست غزة ... وبالتاكيد وبالمطلق لم ولن تكون غزة التي نعرفها ... وما انقلب فيها ... وما حدث عليها ... من متغيرات سلبيه وسوء معاملات كما سوء العلاقات ... والحديث يطول حول ما وصلت اليه غزة وبعضها والذي لا استطيع الكتابة عنه ... او الافصاح عن تفاصيله لحساسيته الشديده .... وحتى نبقي حتى ولو على الجزء اليسير من جمال الصورة .
غزة لمن لا يعرفها ... واقولها واكررها ... لم ينام فيها أحد جائع .... ولم ينام فيها أحد محتاج ... ولم ينام فيها أحد يبكي وحده ... ولم تنام اسرة واحدة دون احتضان جيرانها وعائلتها الكبيرة .
غزة التي كانت تعيش بكل القيم والمبادئ والمثل ... وبكل التدين الحقيقي ... غزة التي كان فيها بضعة مساجد ... وبضعة مشايخ وبالاسم يعرفهم اهل غزة ... لكن الايمان كان كبيرا وعميقا والاخلاق كانت تسود ... والمحبة كانت تغطي الجميع والتسامح سيد الموقف ... والحياة للجميع دون استثناء .
لم يكن هناك أحد فقير الى حد الجوع ... كما لم يكن هناك أحد غني الى حد الفساد ... غزة التي عشنا فيها وغيري من ابناء جيلي لم يكن فيها الي فرقة شرطة واحده .. لا يتعدى عددها بضعة عشرات لكن أمنها كان مستتبا .. ولم يحدث على مدار عمري وعلى مدار عقود طويلة ... الا جريمة قتل واحدة ... وجيريمة سرقة واحدة ... والكل يذكرها من ابناء عمري ... بينما الجميع كانوا ينامون وابواب منازلهم مفتوحة ... والجار يخاف على جاره ... والجار يؤمن جاره ... والجار يساعد جاره .
غزة التي عشنا فيها لم تعد موجودة ... وقد غابت عنا ... او غيبت عنا ... او خطفت منا ... لا أعرف بالضبط ... لكن كل ما اعرفه انني لم اعد ارى غزة ... لا بجمال طبيعتها ... ولا بحسن سلوك سكانها ... ولا بنظافة شوارعها ... ولا بمجموعة القيم والمثل والسلوكيات التي كانت قائمة بها بأغلبيتها .
نحن بغزة الجديدة ... غزة الحديثة .. غزة والتي فيها بكل شارع عدد كبير من المساجد ... وفيها بكل مسجد المئات من المصلين وكل من يسير بالشارع يسبح بحمد الله ... لكن معاملاتنا لم تصل الى حد معاملات الاقدمين منا ... لماذا برأيكم ؟!!!
غزة لم تعود ... ولن تعود ... بعد ان اصابها الخراب ... ودخلها التسوس ... وبدأ ينخر بعظمها ولحمها وجسدها .... الا هذا البعض القليل الذي لا زال على غزة القديمة ... غزة الطيبة ... غزة المحبة للجميع ... غزة التي لا تعرف الكراهية ولا الحقد ولا البغضاء ... غزة بكل اخلاقياتها وحسن معاملاتها لا زلنا نبحث عنها .... ونشتاق اليها ... ونتعذب لاجلها .
بغزة عشنا بكبرياء العظماء ... ممن كانوا يضعون على رؤوسهم طرابيش حمراء ... والذين كانوا يرتدون القمباز ... ويضعون على رؤوسهم الحطة والعقال .. كنا نعيش بجوار بعضنا ... وبمحبة بعضنا ... وبحسن معاملة بعضنا .
لقد فقدنا غزة الجميلة ... بكل سماتها وصفاتها ... ولم نعد نرى الا القليل القليل ... والجزء اليسير ... وما تبقى من أجيال قديمه .. ومن عائلات اصيلة ... ومن تعلموا على ايادي طاهرة ... واكتسبوا المعرفة والفكر والوطنية والتدين من رجال عظماء فارقونا الى ربهم ... وتركونا على هذه الارض نصارع الحياة ... لاجل البقاء .. نصارع الحياة لاجل الابقاء على ما تعلمنا وتربينا عليه ... وما توارثناه من الاجداد والاباء .
غزة التي سقط فيها اشياء كثيرة ... وحدث عليها متغيرات كبيرة وتبعثرت فيها اوراق عديدة .. ولم نعد نرى ملامح وسمات غزة وصفاتها ... عزتها وشموخها وحسن تعاملها ... لم نعد نرى غزة التي لا تنام لوجود فقير او مريض او محتاج او حزين ... او رجل يبكي ... او أم تتألم او طفل جائع ... او مريض يطلب الشفاء والعلاج .
لا أتحدث من فراغ ... ولا أتكلم من الهواء ... لكنني عشت وتعايشت داخل اسرة بسيطه ... وداخل احياء متواضعه وتذوقت حلاوة الحياة ... ولم تنال مني مرارة اليأس والاحباط ... عشت وحولي رمال صفراء .. واشجار خضراء ... وشوارع نظيفة ... وهواء نقي ... ومياه عذباء .
نحن اهل غزة عشنا على بحرها النظيف ... ورماله الصفراء وعلى طول حدوده من بيت لاهيا حتى رفح .... بشواطئ جميلة خاليه من الشوائب ومن التلوث .
غزة التي عشنا فيها سنوات عمرنا وعلى مدار عقود طويلة بعائلاتنا واحياءنا ورجالنا المخلصين الذين كانوا نعم الرجال .
اليوم ان ترى الرجال تبكي .... وان ترى النساء تتسول ... ومعهم اطفالهم وبناتهم ... ان ترى بعض العائلات لا تجد المأوى والمأكل ان تجد عشرات الالاف لا يجدون فرص عمل ... ان تجد الارض وقد ضاعت .... والامال وقد تبعثرت والشهادات وقد تم تمزيقها ... والمعنويات وقد احبطت ... وتفاصيل الحياة المؤلمة والمأسي العديدة قد أخذت الناس بعقولهم ومشاعرهم واحاسيسهم الى حيث المجهول ... والى حيث الخطر ... والى حيث الضياع .
اين نحن نعيش في غزة هاشم ؟ ام نعيش في منطقة اخرى ؟!! .... ومع اناس اخرين ... هل غزة دون حاكم ... دون حكومة ... دون أحد مسئول عنها ؟!!!! نريد ان نسمع من المسئول عن غزة حتى نحاسبه على بكاء الرجال ... وصراخ الاطفال ... وأنين الامهات وضياع مستقبل أجيال ... من يحكم غزة يعلن انه يحكم غزة ... ومن لا يحكم .... يعلن ان لا يحكم غزة حتى نعرف اننا دون حاكم .... وحتى نحكم أنفسنا وننظم حياتنا ... بما كنا عليه منذ عقود طويلة ... وان نعود لنزرع حتى نأكل ... ونحقر الارض حتى نشرب ... وان نعود الى مصابيح الكاز حتى نضيئ ... وان نعود الى الاعشاب حتى نشفي مرضانا ... لا نريد الحداثة .. ولا الابراج الشاهقة ... ولا السيارات الفاخره ...لانها ليست لنا ... اذا كانت ستفقدنا قيمنا واخلاقياتنا وجذورنا وتاريخنا ... اذا كانت ستفقدنا معنوياتنا ووطنيتنا .... وروحنا التي كنا نفاخر بها ... ونعتز بها .
ابحثوا معنا عن غزة التي نعرفها ... ويا ليتها تعود
بقلم/ وفيق زنداح