ورد في صحيفة "يديعوت احرونوت" "الإسرائيلية" في عددها الصادر بتاريخ 16يناير عام 2018 خبراً بعنوان "فلسطينيون من الضفة سيتولوّن رعاية كبار السن في ملاجئ المسنين/العجزة", وقبل الشروع في تفصيل حيثيات هذا الخبر ينبغي لفت انتباه القارئ إلى خلفية هذا الخبر, حيث كانت وسائل الإعلام "الإسرائيلية" قد انشغلت منذ أكثر من عام ببث بعض لقطات المسجلة التي التقطتها كاميرات مخفية داخل ملاجئ العجزة, أظهرت من خلالها بعض العاملين اليهود وهم يعتدون بالضرب ويعاملون المسنين بطريقة مريبة, وقد عُرِضت هذه المشاهد على فترات متباعدة, وهذا يدل على أن ما يجري في ملاجئ لعجزة يعبر عن ظاهرة وليس حدثاً معزول.
واستعرض الخبر مجموعة من المعطيات نلخصها على النحو التالي: افتتح الخبر بهذا النص "الدولة كلها صُدِمت من مشاهد الاعتداء على المسنين وهم مُقيدون ومُهانون داخل دار المسنين", وقد قدرت الصحيفة عدد المسنين داخل الملاجئ في إسرائيل بحوالي "22ألف مسن", وعالج الخبر المشكلة من زاوية أُخرى لخصها بأنه لا توجد رغبة لدى "الإسرائيليين" للعمل في ملاجئ المسنين نظراً لصعوبة العمل فضلاً عن تدني أُجور العاملين في مثل هذه الأماكن, أمّا مديري هذه الملاجئ وفي محاولتهم لتبرير مشاهد الاعتداء على المسنين وعدم فصلهم للعاملين الذين مارسوا هذه الاعتداءات فقط تذمروا في ايقاف العاملين في هذه الأماكن و لا توجد لهم بديل في حال فصلهم, وقد أُحيلت هذه القضية للحكومة "الإسرائيلية" لإيجاد حلول لهذه المشكلة.
حيث بحثت الحكومة إمكانية استبدال هؤلاء العاملين اليهود بعمال فلسطينيين ليقوموا بأداء هذه المهمة, إلا أن وزارة الصحة "الإسرائيلية" قد اعترضت على خطة تشغيل عمال فلسطينيين وقد اقترحت توظيف عمال من "نيبال" أو "الفلبين" بلاً من الفلسطينيين, أما ذريعة وزارة الصحة في رفض العمال الفلسطينيين كانت على النحو التالي "في حال فرض إغلاق على الضفة ففي هذه الحالة لن يتمكن الفلسطينيين من الدخول إلى "إسرائيل", وبالتالي ستعاني هذه الملاجئ, أما وزارة الدفاع "الإسرائيلية" فقد حسمت أمرها ووافقت على تشغيل عمال فلسطينيين في هذه الأماكن, وفي النهاية أقرت الحكومة قرار تشغيل عمال فلسطينيين في دور المسنين والعجزة بدلاً من العاملين اليهود, وهكذا أنهت الصحيفة هذا الخبر دون أية تعليقات.
ونحن بدورنا سنعالج هذا الموضوع الذي أوردته الصحيفة بطريقةٍ جافة وباردة ولكن من زوايا مختلفة, لقد سكتت الصحيفة عما هو كامن في حيثيات هذا الخبر, ولعل أهم ما تم السكوت عنه هو الروح الأثينية الباردة المتفشية في المجتمع "الإسرائيلي" وهشاشة العلاقات الإنسانية في هذا المجتمع, وأخفت لا مبالاة المجتمع في التعاطي مع هذه الفئات الضعيفة والهامشية, بحيث يجري إلقاء هذا العدد الكبير من المسنين داخل الملاجئ "22 ألف مسن", وجزء كبير منهم من الناجين من "الهولوكوست" الأمر الذي يعكس المضمون اللا إنساني واللا أخلاقي لهذه الدولة, وتعكس أيضاً برودة المجتمع "الإسرائيلي" وانحطاطه, حيث لم تعالج المسألة زاوية إنسانية وإنما جرى معالجتها من زاوية العاملين الذين اعتدوا على هؤلاء العجزة وحصر المشكلة في هذا الإطار والتفكير في جلب عاملين غير العمال اليهود.
إن هذه المشكلة لم تعالج في إطار تعاطف المجتمع مع هذه الفئة الضعيفة, ولم يجري فتح مجال للنقاش عام في الإعلام للمساهمة في حل هذه المشكلة, ولم تجري إثارة أسئلة على شاكلة: لماذا تجري عملية إلقاء هؤلاء المسنين من قبل ذويهم في هذه الملاجئ؟!! ولماذا لا تجري إعادتهم إلى كنف ذويهم؟!! أو ما هي الخيارات الأُخرى التي يتعين على الدولة انتهاجها للتخفيف من معاناة هؤلاء البشر؟!!, ولم تناقش مثلاً مسألة تدخل العلاقات الإنسانية والانحطاط الأخلاقي داخل الدولة والمجتمع في "إسرائيل", وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه يجري التعامل مع هذه الفئة بلا قيمة وكأنهم (نفايات بشرية) انتهت مدة صلاحيتها, أمّا حصر المشكلة باعتداء بعض العاملين اليهود إنما تخفي في طياتها مشكلة أكبر تدلل على اتساع هذه الظاهرة التي تتغذى بتآكل العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع واحتقاره لمجمل الفئات الضعيفة والمهمشة, وإلاّ لما تجرأ هؤلاء العاملين على هذه الممارسات السيئة بحق المسنين.
لقد بررت الصحيفة هذا التصرف اللا إنساني بعدم وجود رغبة لدى "الإسرائيليين" بالعمل في هذا المجال, والسبب يعود لصعوبة العمل فضلاً عن تدني الأُجور فيه, وكأن الصحيفة تقول بأن العاملين في هذه الملاجئ من الفئات المهمشة التي تضطرها ظروفها الاقتصادية إلى العمل, بحيث يجري توظيفهم بشكل عشوائي دون النظر لمؤهلاتهم وبالأخص منها المؤهلات الإنسانية, وكأنّ الصحيفة تلتمس العذر لسلوك هؤلاء العاملين عندما تقول: إنّ العمل صعب والأُجور متدنية, ونحن نتساءل فلو كانت الأُجور عالية فهل ستكون معاملة هؤلاء العاملين للمسنين مختلفة؟!!.
ولحل هذه الإشكالية بحثت الحكومة الإسرائيلية موضوع توظيف عاملين من خارج المجتمع اليهودي, وكان النقاش يدور بين الوزارات: هل نأتي بعمال من "نيبال" أو "الفلبين" أو فلسطينيين من الضفة, لأن هذه الشعوب حسب المنطق العنصري "الإسرائيلي" مُهيأة للعمل في مجال العمل الصعب والقاسي ويقبلون بأُجور متدنية, وبعد حسم الأمر لصالح توظيف عاملين فلسطينيين علينا الانتباه إلى أنه لم يعالج الأمر من زاوية أمنية مثلما جرت العادة بوصف الفلسطينيين "قتلة وإرهابيين", وإنما من زاوية العمل الشاق والأُجور المتدنية, فقرار الحكومة "الإسرائيلية" ينطوي على احتقار الطرفين "للمسنين والعمال الفلسطينيين" على حدٍ سواء, فهذه الفئة العاجزة في "إسرائيل" لا قيمة لها في المجتمع "الإسرائيلي" الاستهلاكي, كما تشكل عبء مادي على ذويهم وعلى الدولة ورعايتهم في الملاجئ تمثل نوعاً من أنواع العمل الأسود الذي لا يرغب أي" إسرائيلي" بالعمل في إطاره, ومن ناحية ثانية فإنه يعتبر احتقار للفلسطينيين الذين تتعرض بلادهم للاحتلال الاستعماري, وتجري عملية إقصاء وتجويع وإفقار مُمنهجة تدفع الفلسطينيين للعمل بأُجور متدنية.
ويتعين علينا التنويه بأنه سيتم تركيب كاميرات مراقبة داخل هذه الملاجئ, وفي حال انتهج العمال الفلسطينيين أي سلوك مشابه لنظرائهم اليهود تجاه المسنين, فإنه سيجري طردهم مباشرة ومن ثم اعتقالهم وتوجيه تهم أمنية لهم, فثقافة المجتمع اليهودي العنصري الاستيطاني وسياسيات حكومته تعكس مدى احتقارها للإنسان العربي وللفئات الضعيفة والمهمشة, فهم لا يرون بالفلسطينيين سوى خدمٌ وعبيد, ولا ترى بالمسنين أكثر من "نفايات بشرية" يجري القذف بها على هامش الحياة.
في هذا المجتمع الذي تتزايد فيه أعداد المهمشين في إطار مجتمع يهودي طبقي عنصري منحاز للفئات الثرية والقوية, وهو ما يدلل على انسجام الدولة العبرية بالكامل مع العولمة واقتصاد السوق, بحيث يتحول كل شيء إلى سلعة قابلة للعرض والطلب, فالمجتمع اليهودي الاستهلاكي متناغم تماماً مع ثقافة المجتمعات الاستيطانية ومنها الولايات المتحدة, حيث تسود ثقافة السوق والاستهلاك وتجري عملية قذف الفئات الضعيفة إلى الهامش, ومن بينهم المسنين الذين يجري إلقاءهم في الملاجئ, وهي عادة متأصلة في المجتمع الأمريكي والمجتمعات الاستيطانية بشكل عام, وإسرائيل بوصفها كياناً استعمارياً تستلهم هذا النموذج وهذه الثقافة التي تلحق بالبشر في آخر أعمارهم لأنهم يعتبرون كائنات مستهلكة وغير نافعة وغير مجدية من النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ويقول المفكر " زيغمونت باومان" في مقارنته للتحولات الإنسانية في زمن العولمة حيث الهشاشة في العلاقات والروابط الإنسانية, يقول في كتاب "الحياة السائلة": (إن الحياة السائلة هي حياة الاستهلاكية تجعل من العالم بكل أحياءه وجماداته موضوعات للاستهلاك, تفقد نفعها عند استخدامها, وهذه الموضوعات لها عمر افتراضي قصير وإذا انتهى فلا يصلح استهلاكها), وهذا بالطبع ينطبق على البشر, ويضيف "باومان": (في المجتمع الحديث السائل تستحوذ صناعة التخلص من النفايات على المواقع القيادية في اقتصاد الحياة السائلة), والبشر غير النافعين من الناحية الاقتصادية فإنهم يُعتبرون "نفايات بشرية" حسب ثقافة العولمة السائلة.
وإسرائيل تتعاطى مع هؤلاء العجائز من هذا الموقع وتقذف بهم إلى ملاجئ العجزة بدون رعاية وبدون اهتمام أو كرامة إنسانية ويتعرضون للإهانة والاضطهاد والاعتداء على أيدي عمال يهود, ومن المفارقات أن قسم كبير من هؤلاء المسنين يعتبرون من الناجين من المحارق النازية, وها هم يختمون حياتهم في الملاجئ اليهودية الباردة التي تفتقد للدفء الإنساني ويتعرضون للإذلال على أيدي يهود مثلهم.
أمّا المفارقة الأُخرى الأكثر دلالة وبلاغة فإنهم ومن أجل تخليص هؤلاء المسنين من الإذلال سيجري الاستعانة بعاملين من الأغيار –أي الفلسطينيين- الذين يخوضون صراعاً طويل بينهم وبين الدولة العبرية, فهنيئاً لليهود في أرض الميعاد وفي دولتهم "اليهودية الديمقراطية" التي ما فتأت تغري اليهود للهجرة إلى أرض الميعاد, لتحوّلهم إلى مادة استعمارية وتستخدمهم في الحروب لخدمة الأهداف الاستعمارية العالمية ولخدمة فئة قليلة تهيمن على هرم السلطة السياسية والاقتصادية, ثم تقذف بهم في أواخر حياتهم إلى الملاجئ الباردة ليتعرضوا إلى الإذلال على أيدي أبناء جلدتهم ويموتون هنالك دون أدنى اهتمام من هذه الدولة التي تفتقد للثقافة الإنسانية.
بقلم الأسير كميل أبو حنيش