منذ عام تحرم مصلحة السجون في إسرائيل حوالي المئة والعشرين أسيرًا فلسطينيًا من سكان قطاع غزة من زيارة أهاليهم؛ تنفيذًا لقرار اتخذته الحكومة الإسرائيلية في مطلع العام المنصرم وقضى، علاوة على معاقبة هؤلاء الأسرى لكونهم محسوبين على حركة "حماس" فحسب، عدم إرجاع جثامين لفلسطينيين محتجزة لدى إسرائيل، وعدم السماح لأهل غزة بالدخول إلى مناطق إسرائيل مهما كان هدف الزيارة، إلا في حالات إنسانية/ مرضية خطيرة واستثنائية مستعصية العلاج في القطاع.
وقد أعلنت حكومة إسرائيل أن هدفَها من هذه الخطوات تفعيل ضغوط على قيادة حركة حماس، من أجل إجبارها، من خلال عملية التفاوض الجارية، على التسريع بتسليم جثامين جنود إسرائيليين محتجزة لدى الحركة، بعد أن قتلوا في الهجمة العسكرية الإسرائيلية على غزة، المسمّاة بعملية "الجرف الصامد".
بعد توجّه عدد من الأسرى المعاقبين إلى "نادي الأسير الفلسطيني"، قمت، قبل ثلاثة شهور، بتقديم التماس إلى "محكمة العدل العليا" وطالبتها باسمهم بالتدخل والسماح لأهاليهم بزيارتهم، وبإلغاء أوامر المنع، لأنها غير قانونية وتتعارض مع مبادئ القانون الدولي وأنظمة مصلحة السجون نفسها؛ فحرمانهم بهذه الطريقة وعلى هذه الخلفية، هو عقوبة جماعية محرّمة، ويُعدّ خطوة ابتزازية في حق من ليسوا طرفًا مباشرًا في المشكلة القائمة. وأكّدتَ كذلك على أن انصياع قيادة مصلحة السجون لأوامر السياسيين يعتبر خطوة غير شرعية، ويشكل سابقة تنذر بتغيير متطرف لقواعد "الوضع القائم" الناظمة لحياة الحركة الأسيرة الفلسطينية، وتحوّل، في نهاية المطاف، أفراد الحركة الأسيرة إلى رهائن يعيشون وهم في متناول يد الوزراء ورغباتهم السياسية الجامحة.
في ردها على الالتماس اعترفت نيابة الدولة بدون تردد أو خجل بأن إدارة مصلحة السجون انصاعت فعلاً للقرار السياسي، واعتبرت القرار حقًا شرعيًا للدولة، وطريقة تنفيذه قانونية لا تشوبها شائبة. وطالبت ممثلة النيابة المحكمة بردّ الالتماس، معتبرة زيارات الأسرى لذويهم بمثابة "المنّة" المعطاة لا حقًا مكفولًا في القوانين والمواثيق، ولأنها مجرد "حسنات" فباستطاعة معطيها حجبها إذا ما استدعت "الضرورات" ذلك، كما في حالتنا الراهنة.
رب إشارة أبلغ من عبارة
مع تقديمي للالتماس قامت سكرتارية المحكمة بتعيينه لمطلع شهر فبراير الجاري، فتقدمت، في حينه، بطلب لتقريب الموعد، لكنّ القاضي رفضه في إشارة مبكرة تشي بموقف المحكمة تجاه أهمية موضوع الدعوى وإلحاحه.
قبل يومين من تاريخ انعقاد الجلسة قامت السكرتارية بإعلامي عن "دفشها" بيوم واحد، فبدل الأربعاء ستنعقد الجلسة أمام ثلاثة قضاة يوم الخميس 15/2/2018
لم أعرف سبب تلك "الدفشة" إلا ساعة وقوع "المعركة" حين سقطت جميع الأقنعة، وترنحت الحقيقة عارية، والعدل رقص رقصة الديك من ذاك "الطرب".
كانت مقاعد القاعة ملآى بالناس وفضاؤها يعج بفوضى تشهد على وجود قضية "مهمة" استحوذت على عبوس هذه الوجوه و"عجقة" الكاميرات. لم أتوقع أنها قضيتي، فالإعلام في إسرائيل لا يهتم بحقوق الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ويعتبرهم مخلوقات ناقصة جاءت من "أرض اليباب".
جلستُ بجانب محامين آخرين وكنت "مثل السيف فردا". لاحظتُ امرأة شقراء وبجانبها رجل يتوسطان المقعد خلفنا، ويجلسان بهدوء لافت وبوجهين حزينين وأمامهما يقف عدد كبير من الصحافيين ويتسابقون على التقاط صورهما من كل زواية ممكنة. ملت على محام بجانبي وسألته من هؤلاء وماذا يجري في القاعة؟
كان هو من سيدافع عنهم، وكانوا أفراد عائلة الجندي "جولدن" الذي قُتل في تلك العملية وما زال جثمانه محتجزا في غزة، حسب الادعاء.
فهمت من شرح المحامي أنهم حضروا كملتمسين في قضية قدموها ضد الحكومة الإسرائيلية ويتساءلون فيها، لماذا لا تمتنع ولا تتوقف الحكومة عن إعادة جثامين لأعضاء في حركة حماس أو من يتماثل معها؟ ولماذا لا تتوجه الحكومة إلى الجهات المختصة في مصلحة السجون وتأمرها باتخاذ مزيد من الخطوات العقابية، التي من شأنها التضييق على ظروف معيشة أسرى حماس في السجون الإسرائيلية، بما في ذلك تقليص إمكانيات شراء حاجياتهم من "كانتينة" السجون، وتقليص فرص زيارات أهاليهم بشكل أكبر؟ سمعته ولم أعلق.
بعد لحظات دخل ثلاثة رجال، من بعيد يشبهون كل القضاة، بعباءاتهم السوداء المدلاة المهملة، ويدلفون، كالبطارق الحذرة، من دون أن ينظروا إلى صحن القاعة.
جلسوا على مقاعدهم فعلت وجوههم علامات رضا خفية، لأنهم وجدوا الصالة "كومبليت" والحضور الإعلامي الكثيف يكفل لهم عرضًا شيقًا على أحد أهم مسارح العبث الحديثة. توقعت أن يسمعوني أولًا، فقضيتي بعيدة عن مؤثرات السياسة وسباقات التزلف أمام دموع أم يهودية تطالب باستعادة جثمان ابنها. معظم ادعاءاتي ترتكز على مفاهيم قانونية تتعلق بمكانة الأسير وضرورة تعريف حقوقه، ومتى وكيف تسلب منه هذه الحقوق؟ تمنّيت، لكنني كمن يألف برودة المكان وخلوّه من عدل "سليمانهم"، لم أفاجأ من اختيارهم، فمساعِدة القاضي أعلنت رقم قضية عائلة "جولدن" بإشارة إلى أن القضاة قرروا مناقشة ملفهم أولًا، لينقضوا بعدها على حقوق أسرى حماس، الذين جاؤوا إلى قلعة العدو العليا مطالبين "بالأبلق العقوق".
بحساسية مفرطة ومبالغ فيها أنصت القضاة لشكاوى الملتمسين ضد حكومتهم، وتفهموا اتهامها بالتقصير؛ فبعد أن اتخذ الوزراء قرارًا واضحًا لم يقوموا بتنفيذه بصرامة، فكيف ولماذا يدخل بعض المرضى المحتاجين من غزة إلى إسرائيل؟ وهل يمكن ألا يحصلوا على علاجهم في مصر أو الأردن مثلًا ؟ ولماذا يُسمح لأسرى حماس بشراء حاجاتهم الأساسية؟ إلا يمكن منعهم من ذلك؟ ولماذا لا تُطلعهم الحكومة على خطواتها وإنجازاتها في المفاوضات وما تنوي اتخاذه من خطوات عقابية أخرى؟
كان القضاة يتفاعلون مع كل تنهيدة واحتجاج، ويوجّهون التساؤلات إلى ممثلة النيابة مستفسرين حينًا، وناصحين بضرورة الإنصات لشكاوى العائلة كيلا تضطر هذه بالتوجه مجددًا إليهم، وذلك بإيحاء يشجع العائلة على تقديم فصول جديدة من مسرحية العبث الغريبة. كانوا صبورين كأمّ، فلم يوقفوا محامي الدفاع، بل استجابوا له وسمحوا بلفتة "وطنية" استثنائية لوالد الجندي بأن يقول لهم بعض الكلام، فسمعوه بخشوع رهبان؛ وكالرجال داروا دمعهم على حافة الجفون. رُفعت الجلسة، وانتقلوا مباشرة لمناقشة ملفي، فوقفت أمامهم منتصبًا كالحق.
كأنني أنادي أو أكلم صخرة
في البداية لم أنظر باتجاههم متعمدًا إبقاء عينيّ سابحتين في بياض القاعة. كنت كمن يُعتق من تخدير بعد عملية جراحية، وكانوا يسهّمون عيونهم نحوي بضيق باد وينتظرون ما سأقوله. فم رئيس الهيئة كان مفتوحًا وكأنه غارق في استحضار كلمة أعيَته وهو يحل لغز كلمات متقطعة، بينما بقي وجه زميله متخثرًا على الدهشة نفسها، ومتمسّكًا بوجه لاعب بوكر مبتدئ يقلد اللاعبين الكبار. أما ثالثهم، فكان يغط رأسه في ورقة كانت أمامه ويرفعه كأنه حمامة حائرة أو جائعة "تُنقوِد" حبات قمح.
بهدوء خاطبتهم قائلًا " لم أتمن طيلة سنين عملي وخلال حياتي كلّها أن أكون غبيًا كما تمنّيت اليوم". شعرت بأنني فاجأتهم وصار الصمت في القاعة خانقًا. على وجوه ممثلي نيابة الدولة لاحظت علامات صدمة خفيفة وابتسامات. لم أنتظر ردة الفعل ومضيت مفسرًا أسباب أمنيتي الغريبة "فلقد جلست أمامكم ساعتين وأنا أسمع، خلالها، نصائحكم لعائلة الجندي جولدن وملاحظاتكم لممثل الدولة، وكيف عليهم أن يؤمّنوا ما طالبت به العائلة، وبضمن ذلك مضاعفة عقوباتها على أسرى حماس في السجون الإسرائيلية، كوسيلة ضغط على حكومة غزة. ساعتان وأكثر وانتم تتسابقون أمام قاعة مليئة بجمهور "بيتاري" لتثبتوا أنكم مع السرب وجيناتكم كجيناتهم والغرائز واحدة؛ أأحسستم بوجودي؟ ألم تكن كلماتكم في الواقع مسوغات قراركم في رفض قضيتي؟ ألم تشعروا بعبثية المشهد؟".
قاطعني رئيس الهيئة محاولا إقناعي بأن القضيتين منفصلتان وبأنّ ملفي لن يتأثر من مواقفهم المعلنة في قضية عائلة جولدن. حاول أن يهدئني لكنني قاطعته قائلًا "لا أوافقك إطلاقًا، فلقد أسمعتموني قراركم بطريقة هزيلة وغير سوية، ولو كان كلامك صحيحًا فلماذا لم تبدأوا بسماع قضيتي أولًا، وتنتقلوا بعدها لقضية جولدن؟ كان خياركم مقصودًا، لكنني أعلمكم بأنّ كل ما يجري هنا مجرد مسرحية وكل من يشارك فيها يضحك عمليًا على عائلة جولدن، التي أتمنى أن تسترجع جثمان ابنها، كما أتمنى ذلك لكل العائلات، لكنّ ذلك لن يحصل من خلال قمع حقوق الأسرى في سجون إسرائيل".
أوقفني معترضاً ومؤكدًا أنني لست طرفًا في قضية جولدن، ولا أملك حقًا بالتدخل فيها؛ فأجبته، "لم أقصد ولا أنوي مجاراة حب جميعكم لعائلة جولدن. ما قلته أمامكم ينبع من مبادئي وقيمي وإيماني بأن إرجاع جثامين البشر هو مبدأ لا يتجزأ وباسمه تمنيت هنا ما تمنيت؛ أما الآن، فأنا أتوجه إليكم بطلب تأجيل الجلسة. أجّلوها لأنقل تفاصيل ما جرى لموكلي، وسنعلمكم خلال شهر بموقفنا وكيف ستكون نهاية الطريق". أغظتهم ربما، أرحتهم ربما، لكنني لست غبيًا ولم أكن يومًا، فلو أكملت أمامهم لكنت كمن نادى تلك الصخرة "من الصم لو تمشي بها العصم زلت".
تم تأجيل القضية، وقناعتي مازالت قناعتي، فلا فرصة للفلسطيني المحتل أن يحصّل حقه ويُنصَف من محكمة تفرّق بين جثمان وجثمان ودموع الأمهات.
جواد بولس
كاتب فلسطيني