بداية أعتذر لأهل الاختصاص لقلة ثقافتي ومعلوماتي في الجوانب الأدبية سواء اللغة أو الشعر أو الروايات وأدوات العمل أو الكتابة الأدبية؛ ولكنها هي أفكار استثارت شجوني حول الواقع الذي آل إليه حال قضية الأمة المركزية والأمة بصفة عامة، على إثر حوار حول موضوع رسالة ماجستير عن أدب المقاومة رأيت طرحه في مقالة تحت عنوان "من يطرق الخزان"، راجياً من الله تعالى أن تحرك ساكن في أهل الاختصاص وخاصة الغيورين على أمتهم وقضيتها، ويجتهدوا في تصحيح مسار أو لنقل استكمال جوانب النقص في هذا المجال، لذلك ليعذرني أهل الاختصاص على ضعف مقالتي فلست مختص في ذلك ولكنه الشعور بالمسئولية!
قبل أيام تواصلت مع أخت كريمة أستاذة دكتورة وكاتبة متخصصة في مجال الأدب والنقد الأدبي، لها حضورها ونشاطها المكثف في مجالها وكتابتها المنتظمة والمكثفة أيضاً في قراءتها للروايات الأدبية العربية والعالمية ونشر آرائها حولها في المجلات والصحف العربية في الوطن والخارج، وبحكم أن نشاطها واضح وبالغ، ولها حضور، وكتاباتها مميزة حقيقة، حاولت الاستعانة بها حول هذا الموضوع.
وقد أدهشني وأثار في نفسي شجون الماضي والحاضر أول رد لها حول الموضوع، قلت: نريد أن نكتب رسالة ماجستير حول أدب المقاومة. ففاجأني ردها: لم يعد هناك أدب مقاومة، لقد أصبح ماضياً!!! ما أن قالت عبارتها تلك فوراً خطر ببالي مع الاندهاش وتصوري للواقع الذي وصلنا إليه الآن، سواء الواقع السياسي والاجتماعي والأخلاقي أو واقع المقاومة؛ حديث ودي دار بيني وبين أخ كان عزيزاً جداً وقريباً إلى نفسي وسيبقى له في قلبي مكانة كبيرة، فأعتبره شيخي، على الرغم من مرور ما يقارب ست وثلاثين عاماً على استشهاده، في الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982.
كنا في أحد أيام عام 1981 في مشوار وأذكر أننا كنا نسير وقتها بجوار المدينة الرياضية في بيروت، وكان هناك صوت أناشيد ثورية لم تكن تروق لي، فقلت: الله يرحم أيام أناشيد الثورة القديمة، قصدت تلك الأناشيد التي صاحبت انطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1967 وغابت ولم يعد لها حضور وقتها والآن، وواصلت حديثي: رغم أننا كنا صبية صغار وتحت الاحتلال الصهيوني، إلا أن ذلك لم يكن يمنعني من انتظار الساعتين يومياً كل مساء من الثامنة إلى العاشرة تقريباً، التي تبث فيها إذاعة الثورة (صوت فلسطين، صوت الثورة الفلسطينية)، ياه كانت تثير سعادة عارمة عند سماعها وانطلاق النشيد الوطني الفلسطيني:
فدائي .. فدائي .. فدائي يا أرضي يا أرض الجدود
فدائي .. فدائي .. فدائي يا شعبي يا شعب الأسود
.... !!!
تربينا عليها ولعبت دوراً في تفجير مشاعرنا الوطنية وزيادة حماستنا الفطرية في حب الوطن والاستعداد للتضحية من أجله، وجعلتنا نتعلق بالثورة ونحبها وننتظر بفارغ الصبر أن نكبر لنلتحق بها فدائيين ونكمل مع مَنْ سبق مسيرة التحرير، وهي التي حافظت على وفائنا إلى الآن لمن سبق ولم ولن نخن العهد!
فرد على كلامي رحمه الله قائلاً: تلك الأناشيد لم تَعد تصلح للمرحلة! المرحلة الحالية تريد هذا النوع من الأناشيد، يقصد التي اعترضت عليها، كلماتها بلا معنى، موسيقاها لا روح للثورة فيها، إيقاعها باهت لا يستفز المشاعر الوطنية، ولا يحرك ما في النفس شيء من الآحاسيس الثورية، ولا يثير حماستها للاستشهاد، و...، مرحلة البحث عن الحلول السياسية والدولة على أي شبر محرر! ربنا رحمه من أن يمتد به العمر ويرى ما بلغ به حالنا على صعيد السياسة والمقاومة والفن وهبوطه، ليستمع إلى أناشيد وأغاني باسم فلسطين والثورة ليس فقط أنها لا تحرك المشاعر الوطنية في النفوس ولا تستثير الحماسة، ولكن مسيقاها وألحانها تستثير الرقص وهز الخصر ... إيقاعها راقص خليع قاتل لكل معاني الوطنية في النفوس، مدمر لكل قيم الثقافة الثورية والأصالة الأخلاقية ,... لا أستثني منها لا الإسلامي ولا الوطني!!!
لقد أثارت تلك العبارة في النفس نوع من الأسى للحال التي نحن عليها، وتصورت الواقع سواء الواقع السياسي أو المقاوم وأنتابني شعور بأن عدم مصاحبة المقاومة لأدب مقاوم، يكون له الحضور في أذهان الناس والواقع من خلال معالجة أخطاء الواقع السياسي والحياتي بأسلوب أدبي، من خلال روايات ومن خلال شعر وقصائد وأناشيد ... وبقية جوانب الأدب المتعلقة بموضوع المقاومة، الافتقار له قد يكون أحد العوامل التي أوصلتنا لهذه النقطة! كما أن طغيان المقال السياسي وافتقارنا إلى الأدب السياسي الأصيل القائم على النقد والتوجيه للعمل السياسي أو النشاط السياسي ومنهجيته، يبدو أنه أيضاً كان من العوامل التي لعبت دوراً كبيراً في وصولنا لهذه الحال، فكما قلت ليس لي باع في مجالات الأدب حقيقة، وثقافتي فيه ضعيفة، ولكن كمعلومات عامة!
لقد استثارتني تلك العبارة وجعلتني أستذكر دور الأدب المقاوم في الحافظ على بقاء ذكرى النكبة حية في قلوبنا، فما كان يُعرف بأدب النكبة وأدب المقاومة لعب الدور الأكبر والمهم في بقاء ذكريات النكبة والعودة حية في النفوس، وبقاء روح المقاومة والإصرار على العودة متقدة في حياتنا وواقعنا، لقد كان لوجود أدباء وشعراء كبار مثل :أبو سلمى، هارون رشيد، إبراهيم طوقان، نجوى طوقان، عبد الرحيم محمود الذي صاحب الثورة الكبرى في فلسطين، ثورة 1936 وغيرهم دوراً مهماً وكان أحد العوامل الرئيسية في التخطيط واندلاع الثورة الفلسطينية والتفاف الجماهير الفلسطينية والعربية حولها!
كما كان لحضور القصة والرواية الأدبية كذلك دوراً في توعية الأجيال بأحداث النكبة ومعاناة التشرد والتهجير واللجوء، والإصرار على العودة والتشبث بها وبحقنا فيها، وقد كان غسان كنفاني متميزاً في الكتابة في هذا الجانب، سواء في روايته "عائد إلى حيفا" أو "رجال تحت الشمس"، وروايات أخرى ولكن هاتان الروايتان، أكثر رواياته شهرة، ولكل رواية بتقديري على الأقل موضوعها وطابعها الخاص المختلف عن الآخرى، فروايته الأولى "عائد إلى حيفا" طابعها شعبي فطري، عفوي، فهي تناسب الحديث عن الشعور العام لدى اللاجئين الفلسطينيين والإصرار على العودة لوطنهم وديار الآباء والأجداد، وذلك هو شعور تلقائي ومستمر في النفس لا يموت ولا يتراجع عند غالبية الشعب. أما الرواية الثانية رجال تحت الشمس، بالعبارة الأقوى فيها "مَنْ يطرق الخزان"؟ طابعها يناسب الطليعة الثورية لا النخبة، يناسب كل مَنْ يشعر بالمئولية ويجب أن يكون هناك طليعة تشعر بالمسئولية في قرع الخزان في كل المراحل، طليعة تمتلك الوعي فكراً وثقافة وإيماناً وثورة، وطرق الخزان بعد النكبة رواية وشعراً وغيره هو الذي أدى إلى قيام الثورة لتسمع العالم أننا شعب له وطن مغتصب لنا الحق في العودة إليه، ولنا حقوق وطنية وحق في تقرير المصير مثل كل شعوب الأرض! وبتقديري ثقافة قرع الخزان الثورية هي مانفتقدها اليوم وبحاجة لها، وتراجعها وعدم مصاحبتها لمسيرة الثورة هو ما أوصلنا إلى هنا!
وبعد انطلاقة الثورة الفلسطينية بعد عام 1967 أُختزل الأدب والشعر المقاوم الذي صاحبها في الأناشيد الثورية وفي الجانب الفني فقط. وأصبح كل تركيزه على البندقية، والكفاح المسلح، وغفل عن تراجع السياسي التدريخي عن الثوابت والأهداف لا في معركة الحصول على دولة (سلطة) وليس على التحرير والعودة، وتم تجاهل الجوانب الأخرى أدبياً! ويبدو أن طغيان العمل العسكري وعدم مصاحبة المقاومة العسكرية عمل أدبي ممنهج وموجه، القصة الرواية المقالة الزجل وتراجع الأناشيد، والشعر المقاوم وغيرها، يحافظ على استمرار ديمومتها، وعلى صحة مسيرتها وتوجهاتها، ويعمل على إحداث تغيير مستمر في المجتمع والقاعدة الشعبية لصالح حماييتها من الانحراف والتراجع عن الأهداف والغايات الوطنية، ويعمل على ترسيخ القيم الثورية وأخلاقها في واقعنا الاجتماعي والثقافي و...، على الرغم من حضور شعراء كبار أمثال محمود درويش وسميح القاسم وغيرهم، بتقديري أن ذلك أدى إلى تراجع الثورة وانحرافها عن المسار الصحيح، ولعب دوراً كبيراً في فشلها في تحقيق الأهداف السياسية للشعب وضياع كل الانجازات السابقة!
يبدو أن هزيمة عام 1967 أدت إلى هزيمة نفسية ومعنوية قوية لم تقم لهم بعدها قائمة، أدركوا معها أن المرحلة ليست مرحلة مقاومة ولا تحرير ولا رجاء فيالعودة قريباً ولكنها مرحلة البحث عن الحلول السياسية وتنفيذ القرار 242 أسوأ القرارات التي تصدرت عن مجلس الأمن في ما يخص القضية الفلسطينية، ورأى أن الكلمة والقصة والرواية والشعر لن يغير من اندفاع السياسي الذي صنع الهزيمة وبقِ رمزاً للنضال والتقدمية والقيادة الرشيدة! او أنه تم إسكات صوته وفُرض عليه إلغاء أدب المقاومة من قاموسه الأدبي، وألا ينتج أي إنتاج أدبي يمكنه أن يغير أو يؤثر على مسار العملية السياسية المرسومة للسياسي من الخارج! أو أنه بسبب تمكن الهزيمة النفسية والمعنوية من قلبه وعقله لم يستطع النهوض ويدرك أهمية الأدب المقاوم في تغيير الواقع والارتقاء من الهزيمة للانتصار، وعدم ترك الساحة لسياسي والمقاوم دون توجيه وتأسيس قاعدة شعبية تمارس دور الرقيب على عمل ونشاط السياسي والمقاوم، وتمنع التعيرات غير الإيجابية في واقع المجتمع!
يبدو أن غياب الأدب المقاوم أدى إلى تراجع في العمل السياسي الصحيح وثبات القيادة السياسية على المنطلقات الأولى للثورة والتمسك بأهدافها، ولعب دوراً مهماً في تراجع المقاومة ودورها في التحرير وتحقيق مطالب الشعب، لصالح النشاط السياسي الذي أدى إلى انحراف البوصلة وتفشي الفساد بكل أنواعه، السياسي والمالي والأخلاقي والاجتماعي وغيرها، الذي أدى إلى التفريط في الحقوق والثوابت الوطنية، وضياع تضحيات الشعب والأمة وكل المنجزات ووصولنا إلى طريق مسدود لا أفق له! كما أدى طغيان الاستبداد السياسي، وطغيان العمل السياسي على المقاومة نفسها، إلى تفشي داء الحزبية والفصائلية والمناطقية وغيرها!
كان يجب أن يصاحب الثورة والعمل العسكري والنشاط السياسي أدب مقاوم بشكل منهجي يلعب دوراً في تكريس روح المقاومة والحفاظ على ثوابتنا الوطنية، ويعمل على توجيه المقاومة لأفضل وأقصر الطرق لتحقيق الانتصار والتحرير، ويمارس دور النقد الإيجابي لمسارات العمل الوطني السياسية والعسكرية و... وتصحيح جوانب الخطأ أو الغفلة فيها، ويعمل على ترسيخ المفاهيم الصحيحة للثورة، وتجسيدها ثقافة وقيماً في واقع المجتمع، والارتقاء بقيم وثقافة المجتمع نحو التغيير الثوري الذي يخدم تحقيق الأهداف والغايات الوطنية. لو كان لدينا أدب مقاومة حقيقي مصاحب لمسيرة الثورة، يعالج تلك السلبيات ويركز عليها ويدرسها ويظهرها ويحذر من السكوت عنها ويدعو إلى رفضها ومحاربتها والقضاء عليها، قد يكون الأمر اختلف عما وصلنا إليه الآن.
لو هناك من طرق أنتج لنا أدباً مقاوماً ومارس نقداً إيجابياً مستمراً مذكراً بمخاطر التغيرات التي بدأ إجرائها على الميثاق القومي الفلسطيني، والتحولات في العمل السياسي والانحراف والتفريط في الثوابت بدء من: تغيير اسم الميثاق عام 1968 من الميثاق القومي الفلسطيني إلى الميثاق الوطني الفلسطيني، والتحول عن العمل الفدائي الذي كان بحسب الميثاق القومي يعتبر طليعة الأمة للتحرير وليس المسئول عن التحرير، نحو التجييش وتشكيل الجيش الوطني الفلسطيني، تمهيداً لاستقلالية القرار الوطني الفلسطيني! وأصبحنا بدل أن تتحميل الأمة العربية المسئولية عن التحرير نقلناها إلى كاهلنا نحن الفلسطينيين وحدنا! علماً أن أول أبجدياتها وأدبيات المؤامرة والمخططات التي استهدفت فلسطين هي: أن كيان العدو الصهيوني في فلسطين يمثل رأس الحربة وطليعة الاحتلال الغربي ضد الأمة والوطن كله وليس ضد فلسطين لذاتها!
مروراً ليس فقط بقبول برنامج العمل السياسي المسمى النقاط الذهبية العشرة، واختزال القضية المركزية للأمة في أن تصبح قضية الفلسطينيين وحدهم، وتجريدها أكثر من السابق من بعدها القومي ومسئولية الأمة عن التحرير، واعتبار منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وذلك في دورتي المجلس الوطني بعد عام 1973 و 1974، ولكن في كل دروة للمجلس الوطني كنا نفاجأ بتراجع أسوأ من الذي سبقه يكمل الانحدار والسريع في التفريط بالثوابط بصمت، بل تحت شعارات براقة زائفة وخادعة، مثلما حدث في دروة المجلس الوطني الفلسطيني عام 1977 واعتماد التواصل مع التقدميين اليهود واليسار الصهيوني والتعاون معهم وقبولهم كمعارضين للصهيونية! والتصريح علناً بتقدم العمل السياسي على العمل المقاوم، وتراجع الروح القتالية لدى المقاتلين، وتكريس ما بدأ يكرسه القائمين على الثورة منذ سنواتها الأولى، من عملية التجييش والتحول من ثورة إلى جيش، برفع الشعار البراق الخادع: البندقية المسيسة صانعة الانتصارات!!!
وتتالي التراجعات والحديث عنها يطول في قمة فاس العربية الأولى والثانية عامي 1981و 1982 القبول بدولة في حدود الأراضي المحتلة عام 1967! وفي المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988 القبول بقرار مجلس الأمن 242! وفي دورته عام 1989 الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية في المنفى!!! ومن مدريد إلى مفاوضات أوسلو السرية وتجريد القضية من بُعدها العالمي بالتوقيع على اتفاق أوسلو بين طرفين (الفلسطيني والصهيوني) برعاية أمريكية محضة!!! وتغيير ما تبقَ من مواد في الميثاق الفلسطيني في دورة المجلس الوطني الفلسطيني في غزة عام 1996 وتصفية القضية بانتظار المجهول في مفاوضات الحل النهائي عام 1999 التي فشلت في كامب ديفيد عام 2000 واندلعت الانتفاضة، ضاعت كل الحقوق في اتفاقيات سياسية فاشلة لم يبقَ منها سوى أسمائها نتمسك بها ونشدق بها، لقد خسرنا كل شيء وكسب العدو كل شيء الاعتراف والأرض والدولة والعلاقات والتطبيع والتنسيق الأمني وتهويد القدس والضفة و... والتخلص من غزة لتكون هي مقبرة الدولة والشعب!!!
لو كان لدينا أدب مقاوم حقيقي، وأديب ند للسياسي لا ظلاً له، كان وقف لكل ذلك بالمرصاد محذراً ومعارضاً وكاشفاً وموعياً الشعب من مخاطر زيف تلك القرارات السياسية وشعاراتها الخادعة، وكان سلط الاضواء على التغيرات والظواهر الاجتماعية والأخلاقية والمعيشية التي بدأت تحدث في المجتمع مع كل مرحلة من تلك المراحل، وتحول المقاتل إلى مرتزق أو موظف ينتظر راتب آخر الشهر، وتفشي الانتهازية والكسب باسم المقاومة بالانتماء إلى أكثر من تنظيم في وقت واحد من أجل المرتب ويعمل في أعمال أخرى في الوقت نفسه، وكان هو والشعب تصدوا لتلك التراجعات ووضعوا لها حداً من البداية!
وإن كان غياب أدب المقاومة وطغيان المقال والتحليل السياسي سابقاً أدى إلى كل ما آل إليه حالنا حتى اتفاق أوسلو؛ فإنه إزداد سوءً في المرحلة الحالية مع كثرة الكتاب السياسيين، مَنْ يفهم في السياسي ومَنْ لا يفهم فيها، وفي زمن الفوضى الخلاقة، زمن الانترنت، وبرامج ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث أن الكثير من تلك الأسماء التي بضغطة زر يملأ مقالها عشرات المواقع الالكترونية، وأصبحوا عناوين للمرحلة، بات كلٌ منهم يعتقد نفسه كاتباً لا يشق لقلمه غبار! في غمار فوضى الكتابة السياسية وضياع أيضاً الكاتب السياسي الحقيقي، وتفشى في واقعتا الفلسطيني الجهل والتعصب التنيظمي والفصائلي وتكريس المناطقية كما الحزبية بكل مساوئها، وإلغاء الآخر وعدم الاعتراف به، وتحول كل المنتمين للسلطة والمتفرغين في الفصائل والتنظيمات إلى موظفين ومرتزقة يعيشون عالة على المساعدات التي تأتي من أجل دعم صمود الشعب والقضية! كنا من خلال الرواية والقصة والشعر والزجل وكل أدوات العمل الأدبي حمينا القضية من كل تلك المخاطر، وما كنا وصلنا لهذه النتيجة! أو كان حذرنا الأدب المقاوم من مخاطر فك العدو الصهيوني الارتباط مع غزة من طرف واحد، وخطر الانقسام من البداية ...!!!
أصبح واجباً أن نذكر بأن البندقية يجب أن يصاحبها كلمة، بل الكلمة تسبق الطلقة وتسبق العمل المقاوم، بل هي تصنعه، فالكلمة بحد ذاتها عمل مقاوم! لذلك كانت أول آية في القرآن الكريم نزلت على النبي صلَ الله عليه وعلى آله وسلم، هي قوله تعالى: اقرأ! إذن لا بد من كلمة، لا بد من قلم، قال تعالى: نون والقلم وما يسطرون! والرسول صلى الله عليه وسلم: خير الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر! لا بد من شيء يحرك الناس، يحافظ على المسار الصحيح، إذن هي الكلمة والأدب، شعراً كان أم نثراً أو رواية أو قصة أو مقالة، نشيداً أو زجلاً، إن غياب الكلمة سواء كانت نقد سياسي أو أدب سياسي أنحط بقضيتنا على كثرة تضحياتنا وإنجازات الثورة إلى أن خسرنا أنفسنا وليس وطننا فقط!
في الوقت الذي كانت كل ألوان وأدوات الأدب المقاوم قبل النكبة وبعدها مما عرف بأدب النكبة، مسخرة للحافظ على بقاء القضية واستمرار وجودنا، وأدى أو ساعد في تفجير الثورة وجعل مقاومتنا تقوم بشيء إيجابي وتحقق وحدة والتفاف الشعب حولها، لاحظنا تراجع ذلك بأسلوب ممنهج مع انطلاق الثورة الفلسطينية بعد هزيمة 1967، وتراجع دور الأدب المقاوم إلى أن أصبح ماضياً ولم يعد موجوداً، وكأنه كان أمراً مقصوداً لذاته، والهزيمة مع انطلاق الثورة والعمل العسكري كانت أقوى في الجانب الأدبي، أو تم تغييب الجانب الأدبي لتكريس الهزيمة وتجسيدها واقعاً والقبول بكل ما كان خطاً أحمر لا يجروء أحد على القبول به منذ النكبة، بعد ستة عشرة عاماً من التضحيات والنكبات، اتفاق أوسلو عام 1993!
لم أكن متابعاً للجانب الأدبي كثيراً، لكنني مازلت أتذكر أناشيد الثورة القديمة التي صاحبت الثورة بعد هزيمة 1967 التي تفجر طاقة داخل النفوس وتحرك النفس لفعل شيء كيف غابت؟! وأدرك الآن لماذا نجدها تعود تلقائياً وعفوياً مع كل حدث وطني مقاوم أو بداية انتفاضة؟! ذلك هو اللون المطلوب والإيجابي في الأدب المقاوم الكلمة التي تفجر الطاقة والحماسة وتلهب المشاعر الجماهيرية وتحرك المقاومة نحو هدفها الصحيح! لذلك علينا أن نعمل على إحياء أدب المقاومة، وذلك دور الأدباء، والرسائل العلمية، ودور المختصين، علينا أن يكون لدينا جانب أدبي مقاوم يطغى على النشاط السياسي والمقالة السياسية الركيكة، التي تحكي في المحكي! وكأننا لدينا شيء جديد يحتاج إلى تحليل سياسي واستخلاص قيم سياسية أو نصل إلى فهم نتائجه السياسية الجديدة أو إنجازاته السياسية على الواقع؟! لا يوجد جديد بل هو حكي في المحكي نعيد ونزيد فيه منذ وعينا على الدنيا من خمسين أو ستين سنة لم يتغير شيء، بل الواقع الحالي بات أسوأ!
لدينا روايات لا ننكر؛ لكنها بدل أن تعالج الواقع وتصحح المسار الحالي تتحدث عن النكبة عن الهجرة والعودة، يعني عن أدب النكبة وذلك المفترض أننا تجاوزناه! إذن نحن نفتقر إلى/وليس لدينا أدب مقاوم أصبح من الماضي، وعلى الأدباء أن يدركوا بإحساسهم ووعيهم الأدبي أن غياب أدب المقاومة هو الذي أوصل السياسي والمقاومة والفصائل والأمة لهذه الحال التي لم تعد خافية في مساوئها على أحد!
هذا النص أو المقالة عن أدب المقاومة استعرت عنوانها وأستعير نهايتها من رواية غسان كنفاني "رجال تحت الشمس" والعبارة المشهورة فيها "مَنْ يطرق الخزان"؟! أوجهها إلى أهل الاختصاص نحن لا نريد أدباً سياسياً أو مقاوماً يكون ظل أو صدى للسياسي ولكن يكون نداً وناقداً لعمل ونهج السياسي، فالأدب بكل أدواته هو الذي يشكل الوعي والموقف الشعبي الذي وحده القادر على إفشال كل محاولات تصفية القضية التي لعب غياب الأدب في تصفيتها دوراً لا يستهان به!
بقلم/ مصطفى إنشاصي