خلال ربع قرن من المفاوضات وإدارة الصراع انتظارا لتسوية عادلة كانت إسرائيل مدعومة بواشنطن تعمل على تفكيك الصراع وتغيير طبيعته وأطرافه ونطاقه وتفرض وقائع (انجازات) على الأرض . فبعد أن كان الصراع صراعا عربيا إسرائيليا أصبح فلسطينيا إسرائيليا من خلال سحب عديد من الدول العربية لمربع التسوية وتوقيع اتفاقات سلام معها كمصر والأردن ، أو من خلال التطبيع الهادئ مع دول أخرى ، أما البعد الديني للصراع فقد تكفل المسلمون أنفسهم بالأمر من خلال صراعاتهم وحروبهم مع بعضهم البعض وإدارة الظهر لفلسطين وأهلها وقد رأينا كم كانت ردود الفعل هزيلة على قرار ترامب باعتبار أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين عاصمة لإسرائيل ، ودوليا تكفلت واشنطن بتطويع الأمم المتحدة بحيث تبقى قراراتها في الحدود التي لا تعرض وجود وأمن إسرائيل للخطر ، كما أن كل قرارات الشرعية الدولية الخاصة بفلسطين غير ملزمة .
وعلى المستوى الداخلي وبالرغم من رفع القيادة الفلسطينية شعار حل الدولتين إلا أن إسرائيل كانت تعمل على وضع عقبات أمام فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة ،سواء من خلال التلاعب بعملية التسوية والاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين ،ولكن الأكثر خطورة هو ما تقوم به عمليا على الأرض من تقسيم وتجزئة أركان الدولة الفلسطينية الموعودة : الأرض والشعب والسلطة .
ما زاد الوضع الداخلي ضعفا في مواجهة كل هذه المتغيرات حالة الانقسام الداخلي التي أنهكت الجميع وأساءت لكل الأطراف سواء السلطة والمنظمة ومشروعهما السلمي أو حركة حماس ومشروعها المقاوِم ، حيث ساعد الانقسام على تفرد إسرائيل بكل طرف على حدة.
في هذا السياق نجحت إسرائيل وبموافقة أمريكية في جعل حل الدولتين بالرؤية الفلسطينية مستحيل التطبيق من خلال تغيير وظيفة السلطة الفلسطينية وجغرافيا سيطرتها و إخراج القدس وقطاع غزة من سياقهما الوطني ، ولم يكن نجاح إسرائيل في مسعاها نتيجة لقرار ترامب بل جهد صهيوني متواصل منذ 1967 وقرار ترامب بُني على ما أنجزته إسرائيل .
ما كان لإدارة ترامب أن تُقدِم على قرارها بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وأن تُحدد الذكرى السبعين للنكبة لنقل السفارة ، وأن تتضمن صفقة القرن رؤية لدولة في قطاع غزة مرتبطة شكليا ببعض مناطق الضفة ، ما كان يحدث ذلك لولا أن إسرائيل راكمت معطيات وفرضت وقائع (انجازات) في القدس وقطاع غزة ، وواشنطن هيأت المناخ عربيا لتمرير هذه الصفقة دون عقبات بل وبمباركة عربية .
فيما كان يجري كل ذلك في معسكر الخصم كان الفلسطينيون منشغلين بمشاكلهم الداخلية وصراعهم على السلطة أكثر من انشغالهم بمواجهة الاحتلال موحدين ، أو مراهنين على حلفاء دوليين أو عرب ومسلمين أو على حسن نية واشنطن ودورها كوسيط نزيه ، وفيما كان العرب والمسلمون يطلقون التصريحات الرنانة حول دعم الشعب الفلسطيني وقدسية القدس وفي الوقت نفسه يمارسون عكس كل ذلك بل ويتآمر بعضهم على فلسطين وشعبها ، وكأن شعب فلسطين المُتضَمن في الخطاب والشعارات ليس الشعب الفلسطيني الموجود على أرض الواقع !..
مع أن وقتا طويلا أهدرته منظمة التحرير والسلطة في الجري وراء سراب التسوية السياسية والحياد الأمريكي المزعوم ،ولا ندري متى كانت واشنطن طرفا محايدا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل ؟!، ووقتا طويلا أهدرته حركة حماس في المراهنة على هذا الحليف الإسلامي أو ذاك وفي المراهنة على فشل منظمة التحرير والسلطة لتحل محلهما .بالرغم من ذلك فإن ما يجري جعل الأمور أكثر وضوحا وانكشافا .
انكشف الانحياز الأمريكي الفج لجانب إسرائيل ونتمنى أن لا يكتشف البعض في السلطة بقايا حسن نية عند واشنطن يمكن المراهنة عليها ،وانكشفت محدودية الأمم المتحدة على منحنا دولة وإن منحتنا إياها فستكون دولة تحت الاحتلال ، وانكشفت محدودية قدرة روسيا والصين والدول الأوروبية على الحلول محل واشنطن لاستلام زمام التسوية السياسية ، وانكشفت المواقف العربية والإسلامية ومحدودية ما يمكن تقديمه للفلسطينيين .
فماذا نحن فاعلون ؟
سياسة الهروب إلى الأمام لن تجدي . أن يهرب الرئيس أبو مازن نحو مزيد من فلسفة السلام أكثر من حمائم السلام نفسها لدرجة مطالبته بتحريم الأسلحة التقليدية وليس النووية فقط ،وهو ما يتجاوز رؤية الأمم المتحدة نفسها للسلام والتي تُقر أن من حق الشعوب الدفاع عن نفسها ، هذه السياسة للرئيس لن تجدي مع دولة مثل إسرائيل وفي ظل عالم تحكمه السياسة الواقعية وتحشد فيه الدول جيوشها وتشتبك عديد من الدول في حروب وصراعات محلية وإقليمية ودولية . هذه السياسة لن تغير واقعا ولن تنجح في التغطية على الفشل .
وسياسة الهروب للإمام التي تمارسها حركة حماس وفصائل المقاومة كما تعبر عنها تصريحات بعض قادتها من خلال خطاب متشدد يطالب بالقضاء على إسرائيل ويُبشر بقرب تحرير فلسطين ويُعلي من شأن سلاح المقاومة ، مع استمرار المراهنة على حلفاء خارجيين ، هذه السياسة أيضا لن تجدي نفعا وستمنح إسرائيل الذرائع لتحميل الفلسطينيين مسؤولية رفض السلام ولتواصل حصارها لقطاع غزة . هذه السياسة الهروبية لن تنجح أيضا في التغطية على فشل سياسة حركة حماس في كيفية تدبير وإدارة نهج المقاومة وفي إدارة قطاع غزة .
لأن الفشل لم يكن فشلا مطلقا بل هناك ما تم تحقيقه عند الطرفين ، ولأن التمسك بخيار السلام لم يكن خطأ بحد ذاته ،كما أن التمسك بمبدأ مقاومة الاحتلال لم يكن خطأ بحد ذاته ، بل الخطأ كان في غياب استراتيجية وطنية عقلانية تمزج ما بين الخطابين في سياق نهج عقلاني وواقعي متصالح ومتساوق مع الشرعية الدولية ، كما كان الخلل في الانقسام الذي منح كل طرف حيزا جغرافيا يمارس فيه سياساته في ظل سياسة محاور عربية عززت هذه الثنائية ليس من منطلق الإيمان بنهج السلام الذي تتبناه السلطة وحركة فتح أو نهج المقاومة الذي تتبناه حركة حماس وفصائل المقاومة في قطاع غزة ، بل خدمة لمصالح أطراف هذه المحاور ، وبعضها كانت مصالحه تلتقي مع مصالح إسرائيل .
ولأن قضيتنا الوطنية عادلة ولأن هناك ما تم تحقيقه وعطاء شعبنا لا ينضب فما زال في الإمكان وضع استراتيجية وطنية تُنزل الطرفين من فوق الشجرة وتوَفِق وتُمزِج بعقلانية وواقعية ما بين غصن زيتون أبو مازن والحق في المقاومة على أرضية الممكن فلسطينيا ودوليا ؟.
د/ إبراهيم أبراش