تتوسع المتابعات في السنوات الأخيرة لواقع الإعلام الإلكتروني وحجم تأثيره في شرائح المجتمع ، وما بين تقنيات متجددة وتطبيقات متعددة ، ومراجعات ممتدة ، يتراءى للناس اليوم شكل العمل وهويته وتوجهه وميوله بصورته العامة ، ولكن ، لا مجال هنا لبراءة تفكير ، وسذاجة تحليل ، وغباء توقع .
فمع إقرارنا بأهمية وفاعلية الاعلام الإلكتروني هذه الأيام ، وسعينا الحثيث لتفكيك توجهاته ومعاييره وضوابط التعامل معه وقراءة أثره ، فقد بات من الواضح أن الإعلام الإلكتروني اليوم ليس هو ذاك الإعلام الذي كان قبل عشر سنوات ، وتحديدا ، ليس بطاهر كما كان في مرحلة ما قبل ثورات الربيع العربي كما يطلق عليها .
انظر بنفسك إلى المجالات الحصرية في هذه الأنماط الاعلامية العصرية ، سيصيبهم الذهول من قراءة عقلانية موضوعية واحدة تقوم بها لملف محدد يسهل القياس فيه ، فانظر مثلا إلى ما يعرف باسم ( ترند) أو التغريدات الأكثر انتشارا وشيوعا ، وقم بمقارنتها بكل الدراسات والمعطيات والارقام التي بين يديك عن ثقافة الدولة والشعب الذي ينسب له هذا التفاعل معه ، ستجد أن كل الدراسات العقلانية الموضوعية تصب في واد ، وما يطرح في هذا العنوان المتصدر ( الترند ) في واد آخر .
تعالوا بِنَا نحلل هذه القراءات المتعارضة ، سنجد حتما أن أولويات المجتمع وتوجهاته الفردية والجمعية لا تتفق مع مضمونه أبدا ، بل وتعارض هذا المضمون بشكل كبير وواضح في كل وسائل التواصل الاجتماعي ومجالات الاعلام الالكتروني الأخرى ، فكيف وصل إذا إلى مرحلة الصدارة ؟ هل نتهم تويتر مثلا بالتآمر ؟ هل نتهم المجتمع بالنفاق ؟ هل نتهم الحكومات بأنها تقوم باختراقات الكترونية موجهة ؟
الصراخ وكيل الاتهامات أمر سهل ، يتقنه كل ذي لسان ، ولكن العقلانية تقتضي منا اليوم أن نقوم بتحليل موضوعي للمسألة بهدوء ومن خلال الطرح المعرفي لا التهكمي ولا التهجمي .
لنأخذ الأزمة الخليجية كمثال ، فعندما تشير كل المعطيات والقراءات والتحليلات من الداخل الخليجي بكل دوله أن الأزمة شكلت صدمة حقيقية لدى الإنسان الخليجي ، وأن التعاطي معها من دول الحصار تجاه تأزيم الموقف القطري ،وما تبع ذلك من قطع لخطوط المواصلات البرية والبحرية والحريّة وطرد المقيمين ، هذه الصدمة دخلت كل بين خليجي بلا استثناء نظرا التشابك الجغرافي والعشائري والتاريخي والتقارب والمصاهرة والتجارة البينية ، فكيف يستقيم أن يتوجه التصويت نحو توجه الحكومة فجأة على مستوى النخب والمثقفين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي دون ان يأخذ المجتمع وقته بالتفكير بما جرى أو تحليل بيانات ووجهات نظر كل طرف .
هنا نضع علامة سؤال كبرى ! وحق لنا ذلك !
أجر نفس النظرة في سياقات مختلفة على دول وشعوب أخرى ، ما هي العلاقة بين توجه الدول وحجم التأثير قي الاعلام الالكتروني ؟ ستجد هذا الامر منتشرا في الخليج العربي كما هو منتشر في شمال إفريقيا ، وما تجده في دول الثراء تجده في الدول الفقيرة ، وهو ما يعزز القناعة الفعلية بتشكيل كل دولة جيشا إلكترونيا بشكل رسمي ، يمثل يد هذه الدول والحكومات الضاربة في الفضاء الالكتروني .
هذا لا يعني بالضرورة استحالة التأثير المضاد ، بل هي صعوبة فعلية نجدها في كل دولة ، بحيث إن امتلاكها لهذا الجيش الإلكتروني المتاح بين يديها لتتلاعب به بشكل سريع يمثل عقبة لنا في مراكز الدراسات والبحوث ، وأمام الباحثين والمختصين لقراءة دقيقة لتوجهات الشعوب وميولهم الجمعية وتحليل وتفكيك الرأي العام ، ناهيك عن قراءة الخيول والتوجهات من هلال التغريدات والترند وغيرها من مقاييس التحليل التي كان يمكنالاعتماد عليها قبل عشر سنوات وليس في زماننا هذا .
لكن الذي يتبادر إلى ذهني فعليا ، لماذا تكلف هذه الدول نفسها بإنفاق الملايين من الدولارات على جيش وهمي في الفضاء الإلكتروني ولا تكلف نفسها عناء توظيف هذا الجيش في مؤسسات منتجة لمواجهة البطالة المنتشرة في عالمنا ، أو غيرها من مجالات الاحتياج الملحة في بيئتنا العربية التي أصبحت بحمد الله تعالى نابضة بالتشقق والتشرد وجهل المتعلمين ؟
المستشار د. نزار الحرباوي
@drnizar06