في خضم أزمات العالم العربي، المتفجرة كالألغام الموقوتة، بقيت القضية الفلسطينية على مدار سبعة عقود قضية تنتظر الحل والتسوية، وقد فشلت جهود التسويات المختلفة في التوصل إلى تسوية تكون مقبولة من أطراف الصراع، رغم أن جميع الدول وفي مقدمتها الكبرى، تدعي أنها تبذل قصارى جهدها لإقرار تسوية بين طرفي الصراع (الفلسطيني - الإسرائيلي) تضمن الأمن والإستقرار للطرفين وللمنطقة وللعالم، وبعد مرور أكثر من عام على تولي الرئيس ترامب لإدارة الولايات المتحدة وإعلانه عن نيته بذل الجهود القصوى لإحلال السلام بين الطرفين والتوصل إلى تسوية غير مسبوقة للصراع، ووعده بأن يحقق ما عجز عنه غيره من الرؤساء الأمريكان، إلا أن رهانات النجاح لخطته للسلام (صفقة القرن) باتت مستحيلة، بعد أن إتخذ عدة مواقف منحازة لصالح الكيان الصهيوني بدءاً من إعتباره القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وأتبعها بقرار نقل السفارة الأمريكية إليها والتي تمثل الركن الرئيسي في أي مفاوضات جادة بين الطرفين، إلى موقفه من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) وما تمثله من ركن رئيسي آخر من أركان القضية الفلسطينية، إلى الموقف من الإستيطان الصهيوني في الأراضي المحتلة والذي لا يقل أهمية عن الركنين السالف ذكرهما إلى آخره من قضايا الوضع النهائي، التي لم تتوانى إدارة الرئيس الأمريكي في إظهار إنحيازها للفهم وللموقف الإسرائيلي منها، ما يؤكد أن (صفقة القرن) التي يبشر بها الرئيس ترامب وإدارته، تمثل تبنياً كاملاً للموقف وللفهم الإسرائيلي للسلام وللتسوية بين طرفي الصراع (الفلسطيني – الإسرائيلي)، ما يعني في الفهم الفلسطيني والعربي تصفية نهائية للقضية الفلسطينية، دون أن ينال الفلسطينيون حقوقهم الثابتة والتي أقرتها دول العالم قاطبة، وفق القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية المتعاقبة منذ قرار التقسيم رقم 181 لسنة 1947م وقرار 194 لسنة 1948م الخاص بعودة اللاجئين، إلى سلسلة المئات من القرارات والتوصيات التي أقرتها الجمعية العامة وعشرات القرارات التي أقرها مجلس الأمن بشأن هذه الحقوق والتي يجب أن تمثل مرجعية أساسية لأي تسوية بين الطرفين من أجل أن يتحقق الأمن والسلام لهما وللمنطقة وللعالم.
إن الإشارات الصادرة عن الرئيس ترامب وإدارته بشأن الصفقة تؤكد أن خطوطها الرئيسية قد جاءت مخالفة للقانون الدولي وللشرعية الدولية، وهاضمة للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وتسعى إلى شرعنة الإغتصاب الصهيوني لها، مستغلة الظروف العربية البائسة التي خلفها الربيع العربي والذي أجهز على عناصر القوة التي كانت تمثل عمقاً إستراتيجياً للموقف الفلسطيني وحاضنة له، في مواجهة التصلب والتطرف الإسرائيلي، وهذه الحالة المتناهية من الضعف العربي وإنشغال عدد من الدول العربية بقضاياها الوطنية ومواجهة بعض التحديات المستجدة والتي تقدمت على إهتمامها بالقضية الفلسطينية، كل ذلك يشجع الكيان الصهيوني وإدارة الرئيس ترامب على إعتبار أن الوضع الأمثل الذي يمكن لهما فيه تمرير تسوية نهائية هي الأقرب إلى تصفية القضية الفلسطينية قد بات متحققاً، كما بات العديد من الكتاب والمثقفين والإعلاميين العرب المتماهين مع حالة الضعف العربي هاته، يعالجون جوانب القضية الفلسطينية تحت تأثير هذه الأوضاع المتردية، وباتوا يَنْظُرونَ ويُنَظِرونَ للتسوية بعقلية المهزوم أو بعقلية المستشرق، وكأنهم أطراف محايدة وواقعية، يدعونَ إلى التعاطي مع هذا الواقع الضعيف ومع ما يمكن أن تقدمه الإدارة الأمريكية ورئيسها ترامب من أفكار في (صفقة القرن) وإعتبارها فرصة لا يجوز تفويتها أو تضييعها، وأكثر من ذلك يحملون الطرف الفلسطيني دائماً مسؤولية ضياع الفرص لتحقيق الحد الأدنى للحقوق الفلسطينية، والتي أتاحتها سابقاً الجهود الأمريكية، وستتيحها جهود الرئيس ترامب حالياً ...!
إنه العجب العجاب أن يتهاوى الموقف الرسمي العربي وأن يتماهى معه موقف بعض المثقفين والإعلاميين العرب والفلسطينيين للأسف الشديد، مع هذا المستوى من التدني في الرأي وفي الموقف إزاء القضية الفلسطينية ومركزيتها وأهميتها عربياً ودولياً.
إن عقلية الإستشراق التي صنعت جلَّ مشاكل وقضايا الوطن العربي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وإلى اليوم وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، هي لُبُ المشكلة ولن تكون هي الحل، لقد عبر الشعب الفلسطيني في كل محطات الصراع عن تمسكه بحقوقه التاريخية والسياسية والقانونية والوطنية في وطنه فلسطين وفي حدها الأدنى وفق القانون الدولي والشرعية الدولية، مؤكداً عدم قبول أية تسوية تنتقص هذه الحقوق، كما عبر الشعب الفلسطيني وقيادته وكافة مستوياته التمثيلية وقواه الحية عن رفض ما ستجود به (صفقة القرن) مالم تحترم تلك الحقوق الثابتة، وهنا تكمن أهمية هذا الموقف الفلسطيني الثابت في إعادة إنتاج الموقف العربي وإنتشاله من حالة الضعف، وكذا إعادة إنتاج الموقف الدولي من التسوية وفق القانون والشرعية الدولية، التي تضمن إنهاء الإحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة عام 1967م بما فيها القدس الشرقية، وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه المشروعة والمتمثلة في حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشرقية.
إن ثقافة وفكر الإستشراق في التعاطي مع القضية الفلسطينية هو المشكلة وليس الحل، الموضوعية تقتضي التعاطي مع جوهر المشاكل وليس مع الشكل ومع القشور، ومهما إعترى عناصر القوة العربية من تآكل وضعف أو إنشغال عن القضية الفلسطينية، فإن هذا لن يلغي كون القضية الفلسطينية قضية عربية مركزية وقضية إنسانية عادلة، ويبقى عنصر القوة الأساس فيها هو صمود الشعب الفلسطيني وتمسكه بحقوقه وثباته على مواقفه، وعدم التسليم للكيان الصهيوني والإستسلام له ولتطلعاته التوسعية والعدوانية، وهنا يكمن حجر الأساس الذي يجب أن ترتكز عليه جهود أية تسوية هادفة لإقرار الأمن والسلم للطرفين وللمنطقة وللعالم، وما سواها لن يؤدي إلا إلى هدر مزيد من الوقت، وخلق ظروف أكثر تعقيداً وتهديداً للأمن والسلام في المنطقة.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس