السقوط السياسي

بقلم: فايز رشيد

لعل ابن خلدون لخص في مقدمته أسباب سقوط الدول بـ"احتجاب الملك، واستبداد الأبناء بالحاشية، وتسكين التمردات بالعطاء".
لا نعتقد أن عربيا واحدا، وفي المرحلة الراهنة، يشك في أن السقوط السياسي العربي عموما هو السائد، اللهم إلا الأنظمة العربية الحاكمة، التي تتحدث عن أمجاد إنجازاتها، وتأثيراتها السياسية على دول العالم، وعلى المجتمع الدولي عموماً إنها الصورة البهلوانية للإعلام الرسمي العربي عموماً.
السقوط السياسي لا يعني موتا إكلينيكيا بالمعنى الطبي، لكنه يعني عجزا سياسيا، اقتصاديا إنمائيا، وافتقادا للقدرة على التأثير في الأحداث السياسية الجارية في المحيط والإقليم والعالم. ندرك أن الصراعات القائمة في العديد من الدول العربية، استنزفت طاقاتها، وعملت على تغذية المزيد من الصراعات الطائفية فيها، رغم ذلك، فإن حكمة الزعيم الأوحد (الذي أنعم الله به على شعب دولته، ليجعله في مقدمة دول العالم حضارة وتكنولوجيا وعلما) ما زالت قائمة.
ندرك أنه كلما تقدم العالم في أساليبه وتنمية ديمقراطيته بشكل طردي، فإن ذلك يسير في بلادنا بشكل عكسي، "فإذا كان البلد مستهدفا من القوى الخارجية المتآمرة على النجاحات الكبيرة التي يحققها النظام الرسمي العربي! فلا تحق المطالبة بالديمقراطية، التي سيستغلها الأعداء لتفتيت الجبهة الداخلية للشعب العربي الواحد والموحد.
هذه الصورة السريالية الدرامية للدولة العربية في العصر الحديث، مع فوارق دراماتيكية وأزمات مختلفة، وصراعات متنوعة، بين هذه الدولة وتلك هي السائدة عموما، تصاحبها علاقات عدائية بينية عربية، تصل حدود التناقض التناحري بين المفترض أن يكونوا إخوة، لصالح العلاقات الحيوية الحارة مع إسرائيل، إلى الحد الذي ينادي فيه زعماء الأخيرة وبعترفون بقيام علاقات استراتيجية بين بعض الدول العربية وإسرائيل، لمجابهة "الأعداء المشتركين: الذين لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى.
ما يحدث الآن جرى التخطيط له منذ سنوات، فمؤتمرات هرتزيليا السنوية الثلاثة الأخيرة (15، 16، 17) أسست لذلك وعملت على تحقيقه. ثم إن ما أعلنته كونداليزا رايس من سياسة "الفوضى الخلاقة" يتحقق الآن في الوطن العربي، كذلك الشعار الذي دعا إليه شيمعون بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الكبير" والذي تبنته أمريكا، بحيث تكون فيه إسرائيل هي المهيمن والمقرر سياسيا واقتصاديا في المنطقة، تحول إلى حقيقة واقعة.
نظرية بيريز، وتتفق معه كافة الدول الغربية بالطبع، تتمثل في أن العرب هم بنك المال، للعقليات اليهودية والغربية المتطورة، ليس وفقا لدارون، وإنما لما آمن به غوبلز والصحافي الإسرائيلي (في القناة العاشرة) أفيشاي بن حاييم، من خلال ما سمّاه بـ"الجينات اليهودية"، بمعنى أن لليهودية جينات خاصة، الأمر الذي دعا الحاخام يتسهار دافيد دودفيتش صراحة إلى إبادة كل الشعب الفلسطيني. فقد صرّح قائلاً: "إننا أصحاب البيت هنا، لا يوجد محمد، هذه أمة تعيش على حد السيف مقابل أمة تقدم الخيرات للعالم. هم ليسوا شركاء في هذه البلاد، بل هم غرباء تماماً، نحن الذين عدنا إلى البيت بعدل ورحمة. يحق لنا أن نقوم بإبادة هذه الأمة القاتلة". على العموم حصل ترامب على 500 مليار دولار من مؤتمر الرياض الأخير، أما المساعدت المالية الأمريكية (غير العسكرية والتكنولوجية والأخرى) إلى إسرائيل فستبلغ خلال السنوات العشر المقبلة 38 مليار دولار (3.8) مليار دولار كل عام، ولذلك تحققت معادلة بيريز "تزاوج الأموال العربية والعقلية اليهودية".
يقصد بعض المحللين والكتّاب، بالسقوط العربي الحالي، فشل المشروع السياسي والاجتماعي للدولة العربية الحديثة، لكن: أين هو هذا المشروع؟ صحيح أنه بدأ الكلام عنه، مع ولادة الدولة، إلا أنه انكشف وتعرّى بشكل كبير، خلال العقد الأول من الألفية الثانية، فقد انتهى المشرق العربي بدءاً بسقوط بغداد عام 2003 بفعل الغزو الأمريكي، وبالدعم، أو الصمت العربي الذي لازمه، مروراً بسقوط غيرها من الحواضر والعواصم العربية، كما الصراع الجاري في سوريا وفي اليمن. والدول التي ظلت تقاوم التغيير والإصلاح لعقود طويلة. ينطبق الأمر على المغرب العربي إلى حد ما. أحداث الجزائر لعشر سنوات، الصراع المغربي مع الصحراء الغربية، أحداث ما يسمى بـ"الربيع العربي"، التي للأسف افتقدت القيادة والأهداف المحددة، وتآمر بعض من شارك فيها من خلال الانفراد بالسلطة، الأمر الذي زاد من حدة الخلافات بين القوى المشاركة في الأحداث، إلى أن استطاعت الولايات المتحدة وبحوارات خاضتها مع القوى الحاكمة، من قطف ثمار أحداث الربيع لتحوله إلى خريف عربي. وبالعودة إلى العناصر السلبية التراجعية للدولة العربية الحديثة، نجد أنها تتنامى بدلا من التقلص والانحسار، صحيح أنه كانت هناك أحداث طائفية في التاريخ العربي في القرن الثالث عشر، وأثناء حملة نابليون لكنها ظلت بعيدة دوما عن الاستغلال السياسي لها، لا أثناء الاستعمار للعديد من الدول العربية، ولا في معارك التحرر الوطني العربية ولا بعدها.
منذ عقد زمني أو يزيد قليلا فإن المتطلع لأحوال الوطن العربي يلاحظ، بلا أدنى شك، الانغماس التدريجي في الطائفية، بما يعنيه ذلك من توظيف للدين على أساس طائفي لأغراض سياسية، بكل ما في ذلك من تحيز سياسي، ظالم أو مظلوم وبغطاء مذهبي ديني، يلجأ إليه بعض السياسيين الذين قد لا يكونون في أغلبهم متدينين، بقدر ما هم أشخاص تغلب عليهم المصالح الذاتية، فيلجأون إلى اللعب على إثارة مشاعر الناس الطائفية، من أجل تحقيق أهدافهم ولو على حساب الوطن والمجتمع كلّه. للأسف للطائفية السياسية أنماط مجتمعية مختلفة منها، تغطية فشل البعض سياسيا، فيبدأون اللعب على أوتار العصبية والطائفة أو القبلية أو المذهب، في مواجهة أي مساءلات قانونية، أو في المنافسة السياسية مع الخصوم. لهذا فإن السقوط السياسي، يتبعه انكماش حضاري وتخلف اجتماعي.
لطالما كانت لكاتب هذه السطور وجهة نظر حول صلابة ومتانة الجبهة الثقافية العربية، وهي العصية على التطبيع مع الكيان الصهيوني، لكن تزايد السقوط السياسي العربي سيؤثر على الثقافة سلبا، فلا يمكن الفصل بين السياسي والثقافي، فكل منهما مرتبط بالآخر عضويا وجدلياً، والتناسب بينهما طردي، والدليل على صحة ما نقول، إنه في فترة المد القومي ازدهرت الثقافة العربية بكل تفرعاتها وأشكالها في نهاية الخمسينيات والستينيات، وإلى حد ما منتصف السبعينيات. شكلت كل من القاهرة وبغداد منبعا أصيلا لإصدار الكتب: السياسية، الفكرية الاقتصادية، الاجتماعية، الأدبية بمختلف فروعها، كان حجم توزيع الكتب مذهلا في كل العواصم العربية، كان شراء الكتب كبيرا، وكان حجم القراءة متزايدا، كذلك هو تشجيع الكتّاب على الإنتاج. على عكس الصورة القائمة حاليا. ندرك أن الوعي هو انعكاس للواقع. بالشكل العام فإن الواقع المنكسر لا يمكنه إنتاج وعي سليم إلا عند المؤمنين بحتمية التغيير. يقولون إن سعر الكتاب ارتفع، ذلك صحيح ومن المهم تخفيضه! ولكن أتساءل لماذا تباع كتب الأبراج وتنفذ بسرعة فائقة، رغم أن سعر النسخة منها يعادل ثلاثين دولاراً! كذلك هي كتب الطبخ وأخبار الفنانات؟ نحن أمام كم كبير من الناشرين التجارالبعيدين عن الثقافة ورسالتها السامية، ربما إن كتبت رسالة لمسؤول في بلدك، تتلقى إجابته فورا. أما إن كتبت لناشر مغمور مروج لسياسات هذه الدولة العربية أو تلك، ويقبض مبالغ طائلة، فلا يكلف نفسه عناء الردّ عليك! يتعب الكاتب سنوات على مؤلف له، ويأتي الناشر ليطلب تكلفة الطباعة وبأسعار فلكية، وحقك من الألف نسخة الأولى هي عشرة نسخ. تحاورت وصديقي الكاتب إبراهيم نصرالله، الذي اقترح أن نكتب ونحتفظ بمؤلفاتنا، علّ يوما يعيش أحفادنا زمنا فيه ناشرون مخلصون للثقافة العربية، وبذلك لا يخضع الكاتب للابتزاز.

د. فايز رشيد
كاتب فلسطيني