(إن ما خِرْبَتْ مَا بتِعْمَرْ) قول شعبي دارج على لسان العامة لدينا، ويبدو أن هذا القول لم يأتي من فراغ، وهو يعكس روح المغامرة، وحب ورغبة التغيير، والتشجيع عليهما، والتقليل من مخاطر الخراب والدمار الذي قد يخلفه السعي لتحقيق التغير والتطور لدى الفرد ولدى المجتمع، شهدَّ القرن العشرين المنصرم حربين عالميتين كارثيتين، في إطار الصراع بين الدول والقوى والمتنافسة في ميدان الهيمنة والسيطرة والنفوذ على المستوى الكوني، والإستحواذ على الخيرات وحماية المصالح لكل دولة من هذه الدول المشاركة في هذه الحروب، وأي حرب بين طرفين لابد أن تنتهي بإنتصار طرف وهزيمة آخر، والمتتبع لمسارات الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، يقف على حجم الدمار والخراب والقتل الذي خلفتاه على مستوى الدول المنتصرة والمهزومة سواء وإن كان ذلك بنسب مختلفة، وانتهت تلك الحروب بتوقيع إتفاقيات أطراف الحرب بهدف تثبيت نتائجها وفرض المنتصر شروطه التي تحقق له مصالحه وتعكس حجم نفوذه وحجم إنتصاره على الطرف المنهزم، وهذا ما توجت به الحرب العالمية الأولى، والتي سرعان ما انهارت أمام بروز التحدي من جديد من قبل الدول التي هزمت، والتي أرادت أن ترفع عن نفسها تلك القيود والشروط المهينة التي أجبرت عليها، لتفرض واقعاً جديداً يحكم علاقاتها مع الأطراف الأخرى ويعيد لها الإعتبار، مما تسبب بظهور الحركة النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، وإهتزاز وسقوط نظام عصبة الأمم الذي أفرزته الحرب الأولى، ونشوب الحرب العالمية الثانية والتي فاقت الأولى في كارثيتها وما خلفته من خراب وقتل ودمار، ودخول أطراف أخرى جديدة (الولايات المتحدة) لتكون طرفاً حاسماً ومسجلاً الإنتصار على المهزومين والمنتصرين في طرفي الحرب، خصوصاً أن الولايات المتحدة قد دخلت الحرب بعد أن أثخن الطرفين بعضهما خراباً ودماراً، ولم تكن الولايات المتحدة مسرحاً للحرب بل كانت الأطراف الأخرى المسرح لعمليات الحرب الذي حصر مساحة الخراب والقتل والدمار فيها.
وقد إنتهت أيضاً الحرب العالمية الثانية بتوقيع الإتفاقيات الدولية بين طرفي الحرب التي من شأنها أن تُثَمِرْ إنتصار المُنْتَصِر، وتفرض الشروط والقيود على المهزوم، كما أفرزت تلك الحرب سقوط عصبة الأمم وولادة الأمم المتحدة لتضبط إيقاع النظام الدولي من جديد وفق الواقع الذي أفرزته الحرب.
وقد شهد القرن المنصرم أيضاً سلسلة حروب التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا لإنهاء كافة أشكال الإستعمار العسكري الكلونيالي والعنصري القديم، وضبط إيقاعات تلك الحروب للتحرر الوطني وفق ميثاق الأمم المتحدة، وإعادة صياغة العلاقات ما بين الدول الإستعمارية والدول الحديثة الإستقلال على أسس تلك القواعد والضوابط التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة.
وعودة إلى القول (إن ما خِرْبَتْ مَا بتِعْمَرْ) فقد شهدت الدول المنهزمة في تلك الحرب نهضة عمرانية وعلمية بالغة، وكنموذج لذلك (اليابان وألمانيا) وكانتا منهزمتين في الحرب العالمية الثانية شرَّ هزيمة ولحق بهما ما لحق من دمار وخراب وقتل، إلا أنهما إستطاعتا أن تحققا مستويات بالغة من التطور والقفز على كل الآثار السلبية التي ألحقتها بهما الحروب، وكذلك بقية الدول التي خاضت الكفاح الوطني من أجل التحرر الوطني سواء في آسيا أو في إفريقيا، وأن تنتقل بشعوبها وبدولها نقلات نوعية في التنمية وإعادة البناء والإعمار وبناء الدولة، وإن كانت بنسب مختلفة من دولة إلى أخرى تحكمها جملة من العوامل منها الميراث الإستعماري المتباين والميراث الثقافي والحضاري لتلك الدول يضاف إلى ذلك مدى توفر مقومات بناء الدولة من أرض وسكان وموارد ..الخ.
السؤال: هل ينطبق هذا على دولنا العربية عامة وعلى فلسطين خاصة ؟!
لم تستطع الدول العربية كافة أن تحقق ماهو مطلوب منها بعد الإستقلال، فقد صاحبتها الأزمات، الأزمة تلو الأزمة، بدءاً من أزمة الهوية والمواطنة، إلى أزمة عدم الإستقرار، والتخبط وفساد النخب الحاكمة، فأصبحت الدول العربية تمثل نموذجاً فاشلاً للدولة وعاجزاً عن مواجهة التحديات الوطنية في التنمية والنهوض والبناء وإعادة الإعمار، وعجزت عن حسم أزمة الهوية ما بين الوطنية والقومية والدينية، وعدم نضج مفهوم الوطن والمواطنة وما يترتب على ذلك على مستوى الحاكم والمحكوم وتحقيق التوازن والتكامل ما بين الخاص والعام، والجهوي والوطني، والقومي، ذلك ما عرَّض الدول العربية أن تمثل تربة صالحة للعبث والتدخل الخارجي في شؤونها ووقوعها فريسة للتجاذبات المختلفة إقليمية وبينية ودولية، وهذا المناخ السياسي والإجتماعي والإقتصادي، أتاح للكيان الصهيوني ظروف النشأة والتطور والتوسع على حساب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني في وطنه، بل يسعى الكيان الصهيوني الأن من خلال هذا المناخ العام السائد اليوم في الوطن العربي إلى تكريس البقاء والإندماج في المحيط العربي والدخول في علاقات شبه طبيعية معه، لكن الإستثناء هو الشعب الفلسطيني الذي لازال صامداً ومتمسكاً بحقوقه الوطنية ويقف سداً منيعاً أمام هذه التطلعات للكيان الصهيوني، رغم النكبات المتوالية التي حلت بالشعب الفلسطيني منذ وقوع فلسطين تحت الإنتداب البريطاني سنة 1917م ومروراً بنكبة 1948م ومن ثم نكسة 1967م، واليوم وفي ظل الأوضاع الصعبة التي يعيشها الوطن العربي يستمر الشعب الفلسطيني في إعادة إنتاج حالة الصمود في وجه المخطط الإستعماري الصهيوني للحيلولة دون طمس حقوقه الوطنية وتصفيتها وتكريس الكيان الصهيوني في أرضه ودمجه مع المحيط العربي، ويلعب هذا الموقف الفلسطيني الدور الطليعي عربياً في إعادة إنتاج الموقف العربي لمواجهة هذه التطلعات الإستعمارية للكيان الصهيوني، مؤكداً أن لا سلام معه دون تحقيق الحقوق الوطنية الفلسطينية في حدها الأدنى، حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس، وذلك ما يمثل مانعاً وسداً أمام تطلعات الكيان الصهيوني بالتمدد وفرض الهيمنة والنفوذ على المنطقة العربية، وهذا الموقف الفلسطيني يبنى عليه الموقف العربي، وبالتالي الدولي من الصراع الدائر في فلسطين بين المشروع الكولنيالي العنصري الصهيوني وبين الشعب الفلسطيني في سياق بعده الوطني والقومي والإنساني، وسيبقى هذا الصراع دائراً حتى يتم حسمه بإنتصار المشروع الوطني والقومي الفلسطيني، وفرض حل يقوم على تحقيق هذه الحقوق الوطنية والقومية للشعب الفلسطيني وللأمة العربية والإنسانية جمعاء وإرساء قواعد نظام يحكم الجميع على أساس المساواة في الحقوق والواجبات، والمواطنة دون تمييز، ذلك ما يتوافق مع روح العصر ومع متطلبات القانون الدولي والإنساني، والمتفحص للواقع في إقليم فلسطين وفي المراحل التي مرَّ بها هذا الصراع (الفلسطيني- الإسرائيلي) يدرك أن مسيرة الثبات والصمود الفلسطيني تتجه بهذا الإتجاه وهو التجذر في الوطن والتمسك بالحقوق والتزايد والتناسل وإستمرار مسيرة النهوض والبناء والتأطير المؤسسي للكيانية الفلسطينية والتي جسدتها منظمة التحرير الفلسطينية ولا زالت تواصل هذا التجسيد وتعمل على تأطيره وتمتينه وبناء مؤسسات الدولة القادمة لا محالة، وفي هذا السياق لابد للدول العربية بعد تجربة الإنهيار فيما عرف بالربيع العربي خلال السنوات الأخيرة المنصرمة أن تدرك النخب والشعوب العربية ما يجب أن يحكم مسيرة إعادة البناء فيها على أسس المواطنة الحقة وحسم كافة الإشكالات والمعيقات التي حالت دون بناء الدولة الوطنية الحديثة، وعندها فقط سوف يحقق المواطن العربي والدولة العربية تطلعاتهما في التنمية والإستقرار وفي الحداثة والمعاصرة دون التخلي عن الهوية والثقافة الوطنية والقومية، وعندها فقط سينطبق القول (إن ما خِرْبَتْ مَا بتِعْمَرْ) و (مابعد الحرب والدمار والخراب إلا النهوض والإعمار..) على الدول العربية وعلى فلسطين شأنها شأن بقية دول العالم التي مرت بتجارب الحروب والخراب والدمار وما أعقبها من نهضة وإعمار.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس