معركة الكرامة .. كرامة تتجدد ..

بقلم: عبد الرحيم محمود جاموس

اليوم خمسون عاماً قد مضى على فجر يوم الخميس 21 آذار 1968م الذي لم يكن فجراً عادياً، لقد كان فجراً جديداً في تاريخ شعبنا وأمتنا، كان فجرُ أبطال المقاومة الفلسطينية بإمتياز، بقيادة قوات العاصفة وقائدها الرمز الخالد الشهيد ياسر عرفات، فجرُ التصدي لأرتال القوات الصهيونية الغازية التي عبرت يومها نهر الأردن للقضاء على المقاومة الفلسطينية وفق ما أعلنه موشي ديان وزير الحرب الصهيوني، لكن الفدائيين الفلسطينيين وتلاحمهم مع أسود الجيش العربي الأردني قد تصدوا بكل بسالة وشرف للقوات الغازية، ولقنوها درساً من دروس الحرب التي لا زالت عصية على النسيان، ودامت المعركة يومها من الرابعة فجراً إلى السابعة مساءً، أي قرابة خمسة عشر ساعة، دُمِرَّ فيها العديد من الدروع والدبابات والآليات الغازية، وأحترقت تحت نيران المقاومة الباسلة وألغامها البشرية المتفجرة، وسقط العديد من المظليين الذين ألقى بهم العدو في أرض المعركة في كمائن الفدائيين، وما أن أصبحت الدروع والآليات الإسرائيلية تحت مرمى المدفعية الأردنية، حتى صدرت الأوامر من المرحوم البطل مشهور الحديثه رئيس هيئة الأركان في الجيش العربي الأردني للكتيبة السادسة مدفعية والتي كان يقودها العقيد سامي حسن الطوس، حتى إنهالت قذائفها حمماً على الآليات والدروع الإسرائيلية، وقد وقع خلال المعركة أكثر من ألف وخمسمائة إصابة بين أفراد قوات العدو الغازية، وسقط العشرات من الشهداء من قوات المقاومة الفلسطينية الأردنية الباسلة، ثلاثة وثلاثون شهيداً من قوات التحرير الشعبية، أذكر منهم إبن عمي الشهيد البطل عبد الرحيم عيسى جاموس، الذي كنت قد ودعته في الخميس السابق لمعركة الكرامة، وقدمت قوات العاصفة مائة وعشرين شهيداً، يتقدمهم الشهيد البطل الفسفوري، الذي بقي ذكره خالداً بين رفاقه، وأبناء دورته الأربعة والخمسين والذين كانوا قد حضروا لأرض المعركة لتوهم من دورة الصاعقة التي تلقوها في مصر، وشاركوا في معركة الكرامة، وقدم الجيش العربي الأردني أيضاً إثنان وستون شهيداً في المعركة بين جندي وضابط صف وضابط من بواسله الأبطال.

قد اضطر العدو يومها إلى طلب وقف إطلاق النار، حتى يتمكن من إجلاء حطام قواته من أرض المعركة، وقد أحضر نماذج منها إلى ساحة أمانة العاصمة في عمان مما رفع معنويات الشعوب العربية، هكذا خاب يومها رهان وزير الحرب والعدوان موشي ديان في القضاء على المقاومة الفلسطينية، بل ازدادت على أثرها عنفاً وإتساعاً وإلتحاماً مع الجيش العربي الأردني، ومع الجماهير الشعبية الفلسطينية والأردنية والعربية، وتصاعدت أعمال المقاومة الفلسطينية الأردنية من أم قيس شمالاً إلى العقبة جنوباً، وكانت حرب استنزاف شرسة قضت مضاجع الاحتلال، واتسع نطاق العمل الفدائي على أثرها والذي شاركت فيه كافة الفصائل الوطنية والقومية ليرد للأمة روحها وعزتها وقدرتها، وأثبتت حركة "فتح" مبدأها في أن التحرير طريق الوحدة، وأن المقاومة والكفاح هما طريق النصر والتحرير، وأعطت معركة الكرامة البرهان الساطع على ذلك، وأعلن بعدها المغفور له الملك حسين أنه الفدائي الأول، كما أعلن المغفور له الرئيس جمال عبد الناصر أن حركة "فتح" أنبل ظاهرة أنجبتها الأمة وأنها وجدت لتبقى، ويكمل القول القائد الفدائي الرمز ياسر عرفات ولتنتصر...!!.

اليوم ونحن نستذكر هذا اليوم العظيم بعد مرور خمسين عاماً نستذكر فيه تلك الكوكبة، من الأبطال الذين رسموا لشعبنا ولأمتنا طريق المقاومة والعزة وعبدوها بدمائهم الزكية الطاهرة، إن تكريمهم هو الإخلاص والوفاء للأهداف والمبادئ التي قضوا وضحوا من أجلها، وهي العودة، والحرية، وتقرير المصير، وإقامة الدولة وعاصمتها القدس، لولا هذه الكوكبة، لما كان لنا اليوم وجود على الخريطة السياسية، ولما وجدنا هذا الإعتراف العالمي بحقوق شعبنا، ذلك الإنجاز ((معركة الكرامة)) هو أساس ما نبني عليه اليوم إنجازات نضال شعبنا على طريق الحرية والتحرير والاستقلال ... فهي كرامة تتجدد بإستمرار.

تأتي هذه الذكرى العظيمة اليوم وشعبنا في أتون أكبر مواجهة سياسية ودبلوماسية يخوضها في مواجهة راعية المشروع الصهيوني الولايات المتحدة التي تسعى جاهدة لتصفية القضية الفلسطينية، لكن ثبات شعبنا وقيادته وصموده ودعم الأشقاء والأصدقاء سوف يفشل هذه المخططات التصفوية، وسوف تنتصر إرادة شعبنا في إنتزاع حقوقه المشروعة في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، مهما تشعبت المؤامرات وتعددت، إن مصيرها الفشل والإنكسار على صخرة صمود شعبنا الذي لن يكل ولن يمل ولن يرضخ لإرادة الإستعمار ورعاته.

رحم الله هذه الكوكبة من أبطال الأمة، ومن تبعهم بروح المقاومة والفداء، وستبقى هذه المعركة عصية على النسيان، تتجدد ذكراها في الوجدان، وتنير دماء شهداءها الطريق للأجيال جيلاً بعد جيل، حتى يرفع شبل أو زهرة علم فلسطين عالياً فوق مآذن القدس وقبابها وكنائسها، يرونه بعيداً ونراه قريباً وإنا لصادقون.

بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس